دون حتى أن يبدأ البعض فى قراءة المقال سيعتبرون أن نشر مقال بهذا العنوان أمر صادم وطائفى ويساعد على تأجيج نيران الفتنة. لدينا بعض الكتاب والإعلاميين يظنون أن أحدا منهم يمكن أن يُطاع وهو يطلب ما لا يُستطاع من الناس، فيطالبون مثلا بإلغاء المادة الثانية من الدستور فورا أو بإلغاء خانة الدين من البطاقة، وبعضهم يظن أن من كمال الوحدة الوطنية أن تطلب من الناس عدم إعلان ديانتهم اكتفاء بالقول إنهم مصريون، وما إلى ذلك من مقولات يظنون أنها فتاكة المفعول وباتعة السر فى القضاء على الفتنة الطائفية، بينما هى فى الحقيقة لا تؤدى إلا إلى إذكاء نيران التطرف ودفع المزيد من الناس إلى تصديق أكذوبة أن كل من يطالبون بالدولة المدنية فى مصر هم مجموعة من الذين يكرهون الدين ويتمنون القضاء عليه، مستشهدين بمثل هذه المقولات التى يطلقها البعض بحسن نية وأحيانا بسوء نية.
أما العنوان الذى قد يراه البعض صادما فهو ليس لى فى الحقيقة وليس لى من فضل سوى أننى نقلته عن الأديب المصرى العظيم يحيى حقى، الذى اختاره عنوانا لمقال جميل نشره فى صحيفة التعاون التى كان يكتب فيها بانتظام، وكان ذلك عام 1962، ويمكن أن تقرأه كاملا فى كتابه (من فيض الكريم)، لا أعتقد أننى فى حاجة إلى أن أشرح لك من هو يحيى حقى وما هى أهميته وما هى عظمته فى تاريخ الأدب والفكر، وكيف كان أبعد ما يكون عن التشدد والتعصب، ولذلك فإنه عندما أعلن فى مقدمة مقاله أنه لو كان مسيحيا وأسلم بعد بحث ومقارنة واختيار لحق له أن يكتب تحت عنوان «لماذا أنا مسلم؟»، لم يتهمه أحد بالتعصب والتطرف، لأن أغلب المصريين وقتها كانوا لا يزالون يؤمنون بأن حب الإنسان لدينه ينبغى أن يجعله يحب حب الآخرين لأديانهم.
لست أشير إلى هذا المقال للمرة الأولى لعلمك، فقد سبق أن أشرت إليه قبل عامين فى مقالة ختمتها بقولى «يا ناس يا هوه، حرية الأديان هى الحل، وإلا فاعدلوا بلادنا على القبلة، أو اجعلوها ترقد على رجاء القيامة، فعندما يأتى طوفان الفتنة ليغرقنا، مش هتفرق كتير». وكنت أقول ذلك تعليقا على خطابات أرسلها إلى قراء كرام يعربون عن صدمتهم فىّ واكتشافهم أننى أرتدى قناع التسامح ليس إلا، وكل ذلك لأننى أعلنت رفضى فى أكثر من موضع إثارة مسألة إلغاء المادة الثانية من الدستور أو إلغاء خانة الدين من البطاقة الشخصية، لأننى أرى أن فى ذلك شغلاً للمجتمع عن أولوياته الحقيقية، وأن من يرد أن يحقق رفاهية العلمانية الكاملة عليه أن يناضل من أجلها فى الشارع ويدفع ثمناً باهظا، لا أن يسعى لتحقيقها بشكل فوقى لن يحققه أحد بكل حسابات العقل والمنطق.
قلت يومها «هناك حقيقة أتصور أنها تغيب عنا فى معمعة الصراع بين دعاة الفتنة الطائفية ودعاة التسامح، حقيقة أتمنى ألف مرة أن يتم التمعن فى قراءتها، لأن فهمها يمكن أن يوفر علينا الكثير من الجدال الطائفى المقيت، حقيقة يجب أن يقولها المسيحى منا للمسلم ويقولها المسلم للمسيحى، ويقولها الاثنان لكل صاحب معتقد من أبناء هذا الوطن أيا كان معتقده «يا أخى فى الوطن ليس معنى أننى أطالب بحريتك العقيدية وبحقك الكامل فى المواطنة أن تطلب منى أن أعتقد أن عقيدتك على حق، وألا أعتقد أنها على خطأ وألا أعبر عن رأيى هذا بشكل حضارى هادئ بعيدا عن التحريض والغوغائية فى مكان عبادتى أو لأبنائى أو فى دراسة علمية أو فى عمل فنى وأدبى مثلما يحدث فى أى بلد متقدم به أديان متعددة دون أن يجور ذلك على حق كل مواطن فى المواطنة، بل ينبغى أن يدفعك ذلك إلى أن تتعمق فى فهم دينك ودراسته فلا خير فى إيمان يورث دون وعى، وكلمة مؤمن لا تستحقها إلا إذا كنت عاقلا لما تؤمن به، ولن ينتفع دين ممن ينتسبون إليه اسما لا وعيا ويقينا، لذلك كله لا تندهش عندما أقول لك إننى كمسلم أعتقد أن من حقك أن تعتقد أن دينك هو الحق ودينى هو الباطل، تماما كما أعتقد كمسلم أن الدين عند الله هو الإسلام ومن يعتنق غيره على ضلال،
لكن هذا الدين نفسه هو الذى يأمرنى بأن أحترم حق الآخرين فى أن يعتنقوا ما يشاؤون وأن يعتقدوا أن دينهم هو الحق، ويأمرنى بتعليم أبنائى حب الناس جميعا وإن اختلفوا معهم فى الدين، وألا يشغلوا أنفسهم بفكرة الحكم على أهل الأديان فى الدنيا، لأنهم لا بد أن يؤمنوا بقوله تعالى «إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شىء شهيد»، وأننا يجب أن ننشغل أقل بالحكم على من سيدخل منا النار أو الجنة، لنتفرغ لإنقاذ بلادنا من جحيم التخلف الذى تتلظى فيه.
وقبل أن تهب إلى إيميلك لكى تحيينى أو تلعننى رجاء أعد قراءة المقال من جديد، ثم تذكر أننا فى ظل أزهى عصور وحدتنا الوطنية كان كل واحد منا متمسكا بدينه ومحبا له ومعتقدا أنه الصواب ومانعا نفسه عن الانشغال بأديان الآخرين، ولذلك كان حالنا أفضل بكثير.
«وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين»
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق