تسونامي بشري ضرب تسع محافظات مصرية يومي الإثنين والثلاثاء الماضيين. وقد يكون النزوع إلى الموضوعية، في ظرف
سيطرت فيه العواطف والمشاعر الجياشة صعبا إن لم يكن مستحيلا. فذلك التسونامي ولد لحظة عاطفية كبرى سيطرت على الغالبية العظمى من المواطنين، الذين بدوا غير مصدقين ما هم فيه. شاهدت عيونا ترقرقت بالدمع ورجالا يبكون بشدة من جلال اللحظة وعظمتها؛ لحظة لم يتصوروها بعد مهرجانات الدم والعذاب التي تتجدد مع كل مليونية يخرج فيها الثوار احتجاجا أو غيرة على ثورة مختطفة. مقعدون تحدوا ظروفهم، وتحملوا آلامهم؛ ليعيشوا تلك اللحظة، ومن جاء على كرسيه المتحرك ليؤدي واجبه الانتخابي لأول مرة وجد سلوكا وروحا جديدة من الحنو والترحيب، وعجزة وكبار في السن شعت براءة الأطفال من عيونهم وكأنهم في يوم عيد، ولو كانوا يتوقعون أن كل تلك الجموع تشاركهم لارتدوا أجمل ملابسهم، ولتزينوا لذلك العرس الفريد.. الكل أصر على المشاركة والإدلاء بصوته. مشهد توقف عنده الزمن ومن الصعب أن يتكرر بسهولة. قالوا لأنفسهم عَمَلها المصريون؛ يصفون أنفسهم بلهجتهم الدارجة اعتزازا بالنفس في لحظة تاريخية فارقة.. وسبق وعملوها من قبل خلال المئتي عاما الماضية، لكنها هذه المرة جاءت بعد توقف عقارب الساعة لأربعة عقود، ورغم السوابق فإن المشهد بعد ثورة 25 يناير 2011 حمل معاني تؤكد الثقة فى الحاضر والمستقبل.. بعد يأس قاتل وبعد ملحمة انتصار على الصمت والانتظار، فأطاحوا بأسوأ حاكم فاسد وتابع وذليل هو حسني مبارك، في أعقاب هروب حاكم آخر في تونس هو زين العابدين بن علي.
تولت ثورة 25 يناير ترميم الذاكرة الوطنية والقومية، ليعرف الشعب أن التاريخ وإن توقف إنما ليستأنف حركته من جديد، والأمة وإن تعطلت إنما لكي تبحث عن المخرج المناسب.
وأنا ابن جيل أرضعوه مبدأ ‘الشعب المعلم’، والشعب بالنسبة لجيلنا يعني نسيج وطن ممتد من الخليج إلى المحيط. وإن كان تكوينه منا كأفراد تشغلهم الحسابات الضيقة والمصالح الخاصة والذاتية، فإن الشعب بالمعنى الجمعي والجماعي إذا ما اجتمع على قلب رجل واحد صنع المعجزة تلو المعجزة، وسما بنفسه فوق الأنانية والفردية، وبعد عن المصالح الذاتية الضيقة، وهذا هو الفرق بين حركة الفرد وقيامة الشعب.
وما حدث جاء في ظرف تواجه فيه مصر تلفيقا لا يتناسب مع جلال الثورة؛ تعمل فيه السلطات جاهدة على التشويش على الثورة؛ بالخلط المتعمد بين الثورة والثورة المضادة؛ وهيأت لشباب الفلول، و’أولاد مبارك’، وجماعة ‘أسفين ياريس’ موقعا في منطقة العباسية؛ بالقرب من وزارة الدفاع.. دون أي اعتبار للدماء التي أريقت والأرواح التي أزهقت في تلك المعركة، وبذلك يتصورون أن استطاعوا مواجهة اعتصام التحرير وتشويهه. وفرض المساواة بين المجرم والثائر.
والدعوى أن ‘الكل مصريون’ ويطلب الإعلام الرسمي من الناس أن تساوي بينهم في النظرة وفي القيمة، فيدعون أن الديمقراطية هكذا، تعطي الحق المتساوي للصالح والطالح، ودعوى ‘الكل مصريون’ ارتفعت لتخلط المحسن بالمسيء، وتوحد التحريريين (نسبة إلى ميدان التحرير كعبة الثورة والعباسيين نسبة إلى منطقة العباسية موطن الثورة المضادة)، وشتان بين الثرى والثريا، وبين الثورة والثورة المضادة.. ثورة مضادة تهتف دون حياء ‘آسفين ياريس’، ويبدو المجلس الأعلى للقوات المسلحة داعما لها، وثورة تصر على تصفية تركة ونفايات وبقايا حكم مبارك، وهي ضخمة وعفنة.
وإذا كان ‘الكل مصريين’ تعني الوطنية فهي نقطة فراق وصراع. أما إذا كانت تعني حيزا جغرافيا يجمع من لا مبدأ ولا ولاء له. هنا تفقد الجغرافيا معناها كوطن وبلد، وتختزل إلى مستوى الفندق والحانة.. أي مكان للنوم والعربدة، والأوطان غير ذلك، وإن كانت حيزا جغرافيا إلا أنه يحمل قيما تاريخية وثقافية وحضارية؛ حولت الغابة إلى مستقر، والأرض إلى وطن، وبغير ذلك تبقى مساحة صماء بلا عقل ولا روح.
وعلي أن أنتزع نفسي من هذا الجو العاطفي من أجل محاولة موضوعية للتعرف على بعض ما حدث.. ولسوف أجد أن ما تم متميز فريد؛ من ناحية الشكل.. بدقة التنظيم، وتوفر الأمن، وضبط الأوضاع، هذا يحسب للسلطات المسؤولة، أما الشعب فكان مثلا للانضباط والجدية والصبر والانتظار في طوابير طويلة بالساعات، وهذا هو الذي صنع عرسا حقيقيا؛ أثلج الصدور وأمتع النفوس. وعلينا الفصل بين الإقبال منقطع النظير، وهو يمثل الشكل الذي ظهرت به الانتخابات، وبين المضمون والمؤشرات المبدئية للنتيجة، وإن بدت متوقعة فيما يخص الإخوان المسلمين، فقد كانت غير ذلك بالنسبة لغيرهم من جماعات الإسلام السياسي، وجاء حصول السلفيين على ما لم يحصل عليه صناع الثورة ووقودها مفاجأة غير طبيعية علينا التوقف عندها.
المؤشرات تقول بتقدم تيارين التحقا بالثورة.. أحدهما متردد.. تائه بين غواية الحكم وإغرائه وتكاليف الثورة وأعبائها. والآخر مندفع نحو الغنيمة بلا حساب، ولا اعتبار لمن ضحى واستشهد، وبذلك حل البديل مكان الأصيل، وإن كان الإخوان المسلمون قد التحقوا بالثورة بعد اندلاعها في 25 يناير، فإن السلفيين ما زالوا رافضين لها، وإن كانت فتاوى بعضهم تقول بـ’قبول الضرورة’ وحاجة المضطر، ويرى البعض أن ذلك قد يعني نهاية الثورة، فمن ثار وضحى ليس غير من حصد، وهذه من أزمات الثورة المصرية.
لا ينكر أحد أن الإخوان اضطهدوا، وإن لم يكونوا وحدهم المضطهدين، وقد يرضى كثيرون بنصيبهم الذى يبدو أنهم سيحصلون عليه، أما المشكلة جمهور واسع إلى السلفيين؛ بعدما عاشوا عصرهم الذهبي متعاونين مع جهاز مباحث أمن الدولة الرهيب، يبتز بهم باقي فرق الإسلام السياسي الجهادية والراديكالية.
والمؤشرات لم تكن مبشرة لائتلافات الثورة الشابة.. من صغار السن.. قليلي الخبرة.. المضطهدة من قبل الأمن.. والمحاصرة من قِبَل المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
ونفهم أن يتقدم الإخوان في المرحلة الأولى كشيء متوقع، وأسبابه معروفة.. الجهد التنظيمي الواضح.. والعمل الدؤوب.. تعبئة الطاقات البشرية والمادية.. القدرة العالية على الحشد.. المستوى الكبير من الانتشار.. وتوفير الخدمات والمقابل العيني في مجتمع مأزوم يرتفع فيه معدل الفقر. بالإضافة إلى أنهم معروفون للناس، وكما يقول المثل ‘إللي تعرفه أحسن من اللي ما تعرفوش’، والقلق تجاههم قلق نسبي يخفف منه انخراط شبابهم في الثورة من لحظتها الأولى. على غير رضا من مكتب الإرشاد والحرس القديم.
وما يزيد القلق من تقدم السلفيين هو وجود قناعة عامة بأن دخولهم المعترك السياسي ليس من طبائعهم، وهناك من يرى أنهم رصيد للتشدد السعودي والنفوذ القطري والإماراتي والكويتي والباكستاني، وعنوان للتشدد الطائفي والمذهبي (الوهابي تحديدا)، وأثبتوا قوتهم حين نجحوا في الضغط على الإخوان لرفض الدولة المدنية، واستجاب الإخوان فتخلوا عن دعوتهم السابقة إليها، وكانوا قد أقروها في وثائق وقعوها مع القوى السياسية الأخرى، وانحازوا إلى الدولة الدينية، التي لم يعرفها الإسلام يوما، ومن لا يوافقني أرجوه الاطلاع على ‘الصحيفة’ التي كتبها الرسول (ص) مع أهل مكة من غير المسلمين.
وإن انتهت نتائج هذه الانتخابات على هذا النحو فإنها تقول ان الخيار الديمقراطي أتى على حساب الثورة، وكان من المفترض أن ثورة بحجم وعمق تأثير ثورة 25 يناير تأتي بالعكس، وهذا أقلق الثوار قلقا شديدا، وهو قلق مشروع.. إذن ما هو الموقف؟
المتوقع من تداعي الأوضاع بعد الانتخابات أن تجد مصر نفسها بين خيارات كابوسية، إذا لم تتنبه. منها خيار الإمارات الإسلامية المتناحرة، التي تهدد البلد بالتفتيت والتقسيم، أو تفاجأ بظهور أتاتورك مصري يخرج من قلب القوات المسلحة بدعوى الحفاظ على وحدة الدولة وحمايتها من خطر التقسيم المذهبي والانشطار الطائفي، وقد تدخل في دوامة الانقلابات العسكرية على الطريقة السورية فيما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى ستينات القرن الماضي.
ومع ذلك يجب أن تنطلق مواجهة هذه الاحتمالات باحترام إرادة الشعب، والقبول باختياره، والرضا بالنتيجة أيا كانت، وفتح قنوات الحوار والتعاون المسدودة بهدف حماية الثورة وعدم إجهاضها، وإحياء فرصة كتابة عقد اجتماعي جديد التي ضاعت بسبب الأولويات الخطأ، التي وُضعت من لجنة تعديل الدستور واستجابة المجلس العسكري لها وتشجيع الإخوان المسلمين له، وتعزيز التوجهات الديمقراطية على قاعدة ‘كما أن الديمقراطية هي لك اليوم فقد تكون عليك غدا’ إذا ما بقي الاحتكام إلى الشعب، وفي هذا مكسب للجميع، والدعوة لتنقية الإسلام السياسي من التشدد والتمذهب، وتشجيع جماعاته على الانخراط في الجماعة الوطنية، ومساعدتهم على أن يكون معبرين عن روح الشعب واعتداله وتسامحه ومرونته.
بالإضافة إلى أن الواجب الأخلاقي والسياسي يقضي بقبول النتيجة التي نأمل أن تنتهي متوازنة، لأن أساس التعاقد الشفهي الراهن هو الاحتكام إلى صندوق الاقتراع، دون تراجع مع السعي لتقليل الأضرار، ولتكن هذه فرصة يتعلم فيها المصريون من أخطائهم وتجاربهم؛ بما يُرشد تجربتهم الديمقراطية الوليدة، كي تصحح نفسها بنفسها. ولدينا ضمانة مؤكدة هي الشعب، فليس سهلا على شعب هزم أعتى وأشرس منظومة أمنية وبوليسية في العالم؛ فاق عددها مليون وسبعمئة ألف شرطي وضابط.. منهم أمن مركزى يقدر بأكثر من أربعمئة ألف مجند، ويتساوى عدده مع الحجم الإجمالي للقوات المسلحة كاملة، وباقي المنظومة موزع على الأمن السياسي والحراسات وقوات مقاومة الشغب، والأمن الجنائي والجوازات، والمرور والنقل (عام وخاص وسكك حديدية وطيران وسفن) والمسطحات المائية والحرس الجامعي.. إلخ، بينما يقدر عدد قوات الشرطة والأمن الصينية، التي تسهر على توفير الأمن لمليار وثلاثمئة مليون نسمة؛ يقدر بمليون ونصف المليون فرد، كما نشرت صحيفة الإندبندت البريطانية عام 2009، هذا الشعب الذي انتصر ولم يبخل بدمه وهو يتصدى لتلك القوة العاتية قادر على الوقوف في وجه من يخرج عن طوعه ويهدد وجوده ويصادر على مستقبله. وهو ما يجعلنا نؤكد أن الثورة لن تقتلها الديمقراطية مادام هناك شعب يقظ، وثوار مستعدون للتضحية، بما لا يسمح بعودة عقارب الساعة إلى الوراء، وفوق كل هذا وذاك فهناك ميدان التحرير، وكل ميادين الثورة المنتشرة في أنحاء البلاد