أكتب هذه السطور صباح يوم الاثنين من على قطار متجه إلى القاهرة من أسيوط حيث قضيت الأسابيع الأخيرة. معلوماتى عما يحدث فى ميدان التحرير محدودة ومقتصرة عما يأتى من خلال الإعلام والإنترنت والتواصل مع الأصدقاء، ولكن كلها تؤكد لى شيئا واحدا، أن الساعات القليلة المقبلة سوف تحدد مصير البلد، وأن الصراع لم يعد يتعلق بوثيقة السلمى، أو بمدنية الدولة، أو بالانتخابات، أو حتى بتسليم السلطة لحكم مدنى، وإنما أنه تعبير شامل عن حالة الاحتقان المتراكمة عبر الأسابيع والأشهر الماضية. هذه حالة تسبب فيها القلق من عدم تحقيق الثورة لمكاسبها السياسية والاجتماعية، والتقاتل بين الأحزاب والقوى السياسية على كل صغيرة وكبيرة، وحالة الحشد الإعلامى التى لا تدع فرصة للتفكير فى أى موضوع، وتدهور الأوضاع المعيشية والسياسات الحكومية العاجزة عن التعامل معها إلا بأسلوب التأجيل وأنصاف الحلول والوعد بما لا يمكن تحقيقه، والتوتر الطائفى، واستمرار الانفلات الأمنى، وأخيرا وليس آخرا عودة مظاهر الاستبداد التى لم يعد الناس يقبلونها والشعور بأن لا شىء حقيقيا قد تغير فى مصر سوى الوجوه التى تشغل المناصب.
فى ظل هذه الظروف فإنه من الأكيد أن يعود الأمر إلى حيث بدأ: إلى ميدان التحرير مرة أخرى، وإلى الرصاص المطاطى، وقنابل الغاز، والمستشفيات الميدانية. ولكن شتان ما بين يناير ونوفمبر. فبينما كان الوطن فى يناير وفبراير مجتمعا على ضرورة التغيير وعلى مطالب بسيطة وواضحة لا خلاف عليها، عبرت عنها شعارات تطالب بتغيير النظام وبالحرية والعدالة الاجتماعية، فإنه اليوم منقسم أشد الانقسام على كل شىء تقريبا. الدولة مدنية أم دينية، الدستور أولا أم ثانيا، الحكم عسكرى أم مدنى، مبادئ فوق دستورية أم انتخابات مباشرة، قانون للعزل السياسى أم لا، واستقطاب بين الدينى والمدنى صار يفرق بين الناس ويحدد اختياراتهم وفقا لهذا المعيار وحده.
ولكن الأهم والأخطر من ذلك بكثير هو الانقسام بين الاستقرار والأمان وعودة النشاط الاقتصادى من جهة، وبين الحرية والديمقراطية وحقوق التظاهر والإضراب والتعبير من جهة أخرى، وهذا الانقسام فى رأيى يمثل الخديعة الكبرى التى وقع فيها الشعب المصرى. فى كل مكان وفى كل مناسبة صار الناس يقرنون سوء الأحوال المعيشية وتدهور الحالة الاقتصادية بالفوضى التى سببتها الثورة ويربطون غياب الأمن والاستقرار باستمرار المطالبة بتحقيق مكاسبها. لماذا أعتبر هذا الانقسام خديعة كبرى؟ لأن المسئولين عن البلد والإعلام المصرى أخذوا منذ فترة ليست بقصيرة يروجون لفكرة أن علينا الاختيار بين الأمرين، بين الاستقرار والحرية، بين الأمن والديمقراطية، بين حرية التعبير وبين سلامة أفراد الأسرة، بين النقابات المستقلة وبين النشاط الاقتصادى، بين انتخابات حرة ونزيهة وبين حكومة تحسن إدارة البلاد، وبين تطهير البلاد من الفساد وبين تشجيع الاستثمار. هذه خديعة كبرى لأن كل هذه اختيارات ومفاضلات غير حقيقية وغير مطلوبة وعلينا أن نرفض الانسياق وراءها. الأفكار التى كانت رائجة فى الستينيات والسبعينيات بأن استقرار البلاد وأمنها يتطلبان حكما مستبدا أو أن التنمية الاقتصادية فى العالم الثالث تتعارض مع الديمقراطية، لم تعد مقبولة فى أى مكان فى العالم ويجب علينا رفضها فى مصر. غير صحيح أننا ملزمون بالاختيار بين الديمقراطية وبين الاستقرار، بل لنا أن نطالب بالأمرين معا، وأن نتمسك بهما بنفس القدر، وأن نرفض أن يتم وضعنا أمام حتمية هذا الاختيار من الأصل.
والإصرار على وضع المجتمع أمام مفترق طرق هو ما يهدد وحدته وسلامته، بينما الحقيقة أن الضمان الوحيد على المدى الطويل للاستقرار وللنشاط الاقتصادى ولتشجيع الاستثمار هو أن يكون المواطن حرا وأن يكون الحكم ديمقراطيا. هذا ما يجب أن نكون قد تعلمناه من درس الخامس والعشرين من يناير، والرجوع مرة أخرى لمنطق المفاضلة بين الاستقرار والنمو الاقتصادى وبين الحرية هو أبلغ تعبير عن أننا قد فشلنا فى التعلم من دروس الماضى القريب. كنت ــ وما زلت ــ ممن يطالبون باتخاذ الإجراءات والسياسات اللازمة لإعادة عجلة الاقتصاد للدوران، ولعدم إهمال متطلبات الإنتاج والتنمية والاستقرار المالى وتشجيع الاستثمار، ولكن أرفض تماما أن تتحول هذه الدعوة إلى مدخل خلفى لوأد الديمقراطية الناشئة ولدفع الناس إلى الاختيار بينها وبين حقها المشروع والمعطل منذ سنوات طويلة فى الحرية. كلنا يرغب فى أن يتحقق الاستقرار فى مصر، وأن يسود الأمن فى الشوارع، وأن تعود السياحة للنشاط، وأن ينهض قطاع المقاولات، وأن تزيد الاستثمارات الأجنبية، وأن يسود الشعور بأن القانون هو وسيلة تنظيم المجتمع، ولكن إن كان ثمن كل هذا أن تعود مصر لما كانت عليه من استبداد فلا أتصور أن هذا ثمن يقبله الناس. لذلك فإن الاختيار فى حد ذاته ليس مقبولا ولا التضحية بواحد من أجل الآخر.
ما يعطل اقتصادنا ويمنع الاستقرار ويشيع الفوضى فى الشوارع ليس ما يطالب به المعتصمون فى التحرير من ضمانات لحرية التعبير وعدالة المحاكمات ومدنية الحكم، بل ما يعطل كل ذلك هو التخبط فى السياسات الحكومية وعدم وضوح خريطة الطريق لتحقيق انتقال ديمقراطى للسلطة وعودة مظاهر الاستبداد التى اعتقد المجتمع أنها صارت من الماضى. سلامة المسار السياسى واكتمال عملية التحول الديمقراطى هى السبيل الوحيد لتحقيق الأمن والاستقرار والتنمية الاقتصادية، لذلك فعلينا ألا نختار بينهما وألا نكون قد عدنا لنقطة البداية مرة أخرى.
فى ظل هذه الظروف فإنه من الأكيد أن يعود الأمر إلى حيث بدأ: إلى ميدان التحرير مرة أخرى، وإلى الرصاص المطاطى، وقنابل الغاز، والمستشفيات الميدانية. ولكن شتان ما بين يناير ونوفمبر. فبينما كان الوطن فى يناير وفبراير مجتمعا على ضرورة التغيير وعلى مطالب بسيطة وواضحة لا خلاف عليها، عبرت عنها شعارات تطالب بتغيير النظام وبالحرية والعدالة الاجتماعية، فإنه اليوم منقسم أشد الانقسام على كل شىء تقريبا. الدولة مدنية أم دينية، الدستور أولا أم ثانيا، الحكم عسكرى أم مدنى، مبادئ فوق دستورية أم انتخابات مباشرة، قانون للعزل السياسى أم لا، واستقطاب بين الدينى والمدنى صار يفرق بين الناس ويحدد اختياراتهم وفقا لهذا المعيار وحده.
ولكن الأهم والأخطر من ذلك بكثير هو الانقسام بين الاستقرار والأمان وعودة النشاط الاقتصادى من جهة، وبين الحرية والديمقراطية وحقوق التظاهر والإضراب والتعبير من جهة أخرى، وهذا الانقسام فى رأيى يمثل الخديعة الكبرى التى وقع فيها الشعب المصرى. فى كل مكان وفى كل مناسبة صار الناس يقرنون سوء الأحوال المعيشية وتدهور الحالة الاقتصادية بالفوضى التى سببتها الثورة ويربطون غياب الأمن والاستقرار باستمرار المطالبة بتحقيق مكاسبها. لماذا أعتبر هذا الانقسام خديعة كبرى؟ لأن المسئولين عن البلد والإعلام المصرى أخذوا منذ فترة ليست بقصيرة يروجون لفكرة أن علينا الاختيار بين الأمرين، بين الاستقرار والحرية، بين الأمن والديمقراطية، بين حرية التعبير وبين سلامة أفراد الأسرة، بين النقابات المستقلة وبين النشاط الاقتصادى، بين انتخابات حرة ونزيهة وبين حكومة تحسن إدارة البلاد، وبين تطهير البلاد من الفساد وبين تشجيع الاستثمار. هذه خديعة كبرى لأن كل هذه اختيارات ومفاضلات غير حقيقية وغير مطلوبة وعلينا أن نرفض الانسياق وراءها. الأفكار التى كانت رائجة فى الستينيات والسبعينيات بأن استقرار البلاد وأمنها يتطلبان حكما مستبدا أو أن التنمية الاقتصادية فى العالم الثالث تتعارض مع الديمقراطية، لم تعد مقبولة فى أى مكان فى العالم ويجب علينا رفضها فى مصر. غير صحيح أننا ملزمون بالاختيار بين الديمقراطية وبين الاستقرار، بل لنا أن نطالب بالأمرين معا، وأن نتمسك بهما بنفس القدر، وأن نرفض أن يتم وضعنا أمام حتمية هذا الاختيار من الأصل.
والإصرار على وضع المجتمع أمام مفترق طرق هو ما يهدد وحدته وسلامته، بينما الحقيقة أن الضمان الوحيد على المدى الطويل للاستقرار وللنشاط الاقتصادى ولتشجيع الاستثمار هو أن يكون المواطن حرا وأن يكون الحكم ديمقراطيا. هذا ما يجب أن نكون قد تعلمناه من درس الخامس والعشرين من يناير، والرجوع مرة أخرى لمنطق المفاضلة بين الاستقرار والنمو الاقتصادى وبين الحرية هو أبلغ تعبير عن أننا قد فشلنا فى التعلم من دروس الماضى القريب. كنت ــ وما زلت ــ ممن يطالبون باتخاذ الإجراءات والسياسات اللازمة لإعادة عجلة الاقتصاد للدوران، ولعدم إهمال متطلبات الإنتاج والتنمية والاستقرار المالى وتشجيع الاستثمار، ولكن أرفض تماما أن تتحول هذه الدعوة إلى مدخل خلفى لوأد الديمقراطية الناشئة ولدفع الناس إلى الاختيار بينها وبين حقها المشروع والمعطل منذ سنوات طويلة فى الحرية. كلنا يرغب فى أن يتحقق الاستقرار فى مصر، وأن يسود الأمن فى الشوارع، وأن تعود السياحة للنشاط، وأن ينهض قطاع المقاولات، وأن تزيد الاستثمارات الأجنبية، وأن يسود الشعور بأن القانون هو وسيلة تنظيم المجتمع، ولكن إن كان ثمن كل هذا أن تعود مصر لما كانت عليه من استبداد فلا أتصور أن هذا ثمن يقبله الناس. لذلك فإن الاختيار فى حد ذاته ليس مقبولا ولا التضحية بواحد من أجل الآخر.
ما يعطل اقتصادنا ويمنع الاستقرار ويشيع الفوضى فى الشوارع ليس ما يطالب به المعتصمون فى التحرير من ضمانات لحرية التعبير وعدالة المحاكمات ومدنية الحكم، بل ما يعطل كل ذلك هو التخبط فى السياسات الحكومية وعدم وضوح خريطة الطريق لتحقيق انتقال ديمقراطى للسلطة وعودة مظاهر الاستبداد التى اعتقد المجتمع أنها صارت من الماضى. سلامة المسار السياسى واكتمال عملية التحول الديمقراطى هى السبيل الوحيد لتحقيق الأمن والاستقرار والتنمية الاقتصادية، لذلك فعلينا ألا نختار بينهما وألا نكون قد عدنا لنقطة البداية مرة أخرى.