الملك السعودي الجديد سلمان بن عبد العزيز لدى حضوره مراسم أقيمت في قصر الديوان الملكي في العاصمة الرياض مساء السبت 24 يناير 2015.
(swissinfo.ch)
هل حُسِمت مسألة الخلافة في المملكة العربية السعودية، بتعيين أحد أبرز أمراء الجيل الثالث من آل سعود، محمد بن نايف، وليّا لولي العهد؟
ظاهرياً، يبدو الأمر كذلك. فالسرعة التي تم فيها الإعلان عن تعيين الأمير مُقرن بن عبد العزيز ولياً للعهد، ثم فوراً تقريباً تعيين محمد بن نايف نائباً له، أوحى بأن الملك الجديد سلمان حسم بسرعة خاطفة الجدل الكبير داخل الأسرة حول مسألة انتقال السلطة من الجيل الثاني من آل سعود إلى الجيل الثالث.
بيد أن المظاهر قد تكون خادعة في الكثير من الأحيان، خاصة في نظام كالمملكة العربية السعودية يلف نفسه وصراعاته الداخلية بسرية مطلقة. فما يجري فيها فوق السطح اليوم، لن يعكس بالضرورة ما قد يطفو من تحت هذا السطح غدا. وهذا يصحّ على وجه التحديد بسبب الحقيقة أن معركة الخلافة الراهنة لا تتعلق بأشخاص بعينهم، بل بفروع عائلية كاملة تتشعب من آل سعود الذي يناهز تعداد أمرائهم الـ15 ألفاً (على ما يُشاع). فروع تنافست تاريخياً، ولا تزال، في ما بينها بضراوة على السلطة والنفوذ والمال.
مبايعة الملك سلمان عبر تويتر تدخل تقاليد انتقال الحكم الى عصر الاعلام الحديث
بايع الالاف من السعوديين، الشباب منهم خصوصا، الملك الجديد سلمان عبر تويتر مدخلين تقاليد انتقال الحكم في المملكة الى عصر الاعلام الحديث.
وغرد عشرات الالاف في المملكة مستخدمين الوسم (هاشتاغ) #انا_ابايع_الملك_سلمان ومؤكدين ولاءهم للملك الجديد منذ اللحظات الاولى لوفاة الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز.
وتحول تويتر خلال السنوات الاخيرة الى المنبر الاول للراي العام في الخليج وخصوصا في السعودية التي اعتبرت عاصمتها الرياض في 2012 عاشر مدينة مغردة في العالم.
وفي 2013 تجاوز عدد مستخدمي الموقع النشطين في المملكة خمسة ملايين شخص، ليسجل تويتر في هذا البلد اعلى نسبة انتشار له في العالم بالمقارنة مع عدد السكان.
ويستخدم الموقع الجميع تقريبا في المملكة، من السلفيين المتشددين الى الليبراليين، ومن الامراء والوزراء الى اشخاص مجهولين اصبحوا نجوما.
وكان خبر وفاة الملك شاع عبر تويتر قبل ساعات من اعلانه رسميا، لا سيما من خلال تغريدة للمغرد "الشبح" الاشهر مجتهد المعروف بنشره معلومات من داخل دوائر الحكم اصابت احيانا ولم تصب احيانا اخرى.
وبعيد اعلان وفاة الملك، بدأ مغردون سعوديون بمبايعة ملكهم الجديد عبر تويتر، وايضا من خلال نشر افلام يعلنون فيها المبايعة عبر موقع يوتيوب.
وقال الشاب سلمان العتيبي لوكالة فرانس برس "بايعت الملك عبر تويتر لاننا نتقدم تقنيا ولا نتخلى عن هويتنا وتقاليدنا". واعتبر ان "البيعة واجب على كل مسلم".
وتتخذ البيعة او المبايعة في السعودية بعدا دينيا وآخر قبليا.
ومن الناحية الدينية، يرتكز نظام البيعة الى الحديث الشريف الذي يقول "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية".
وقد شدد مفتي السعودية الشيخ عبد العزيز آل الشيخ فور اعلان انتقال السلطة على كون البيعة واجب على مسلم في المملكة.
ومن الناحية القبلية، فان البيعة تعني موافقة مجموع القبائل والمجموعات وتسليمها بالامر والطاعة لولي الامر الجديد.
وبعد ساعتين من دفن الملك عبد الله، توافد عشرات الالاف من الاعيان والشخصيات وممثلي القبائل الى قصر الحكم لمبايعة الملك سلمان، بالسلام عليه وتقبيل كتفه او يده.
وبشكل مواز، بايعه الالاف الاخرون بالتغريد.
(المصدر: وكالة الصحافة الفرنسية أ ف ب بتاريخ 26 يناير 2015)
مرحلة انتقالية خطرة
بالطبع، تتمثل الأولوية القصوى لكل الأجنحة السعودية في الحفاظ على سلطة العائلة، التي تعود جذور علاقتها بالسلطة إلى القرن الثامن عشر، حين خاض مؤسسو العائلة وقادتها صراعات مدهشة في عنادها ونجحوا، بعد تدمير دولتهم مرتين على يد العثمانيين والمصريين، في إقامة دولتهم الثالثة الراهنة العام 1932.
لكن في المقابل، ليس ثمة شك بأن المرحلة الراهنة ستكون حُبلى بالمشاكل والمخاطر أمام الأسرة لأسباب عديدة.
فحكم الملك سلمان (79 عاماً) سيكون حتماً قصيراً، لأنه يُعاني من بعض الأمراض أخطرها العته (Dementia) حسب عدد من المصادر، وهو مرض عضوي في الدماغ يضرب الذاكرة ويتسبب باضطرابات نفسية. أما ولي العهد مقرن، فأمامه عقبات واضحة في طريقه لتسنّم العرش، إضافة إلى معاناته من بعض الأمراض. هذا ناهيك عن أن الملك الراحل عبد الله خرق التقليد حين عمد إلى تعيين المرشح لولاية العهد، وهو قرار كان متروكاً في السابق للملك الجديد.
ثم إن تعيين الأمير محمد بن نايف، الذي ينتمي إلى الفرع السديري من العائلة كما الملك سلمان (تيمناً بالزوجة المفضلة لدى الملك عبد العزيز حصة بنت أحمد السديري)، ولياً لولي العهد بالسرعة التي تم بها، سيثير من دون شك حفيظة العديد من أمراء الجيل الثالث وفي مقدمهم الأمير خالد بن سلطان، والأمير مُتعب بن عبد الله، والأمير خالد الفيصل، والأمير بندر بن سلطان وغيرهم كثير.
يقول سيمون هندرسون، الخبير بشؤون العائلة السعودية في
مؤسسة واشنطن لدراسات الشرق الأدنى: "على رغم أن العديد من الناس يقولون أن عملية الإنتقال ستكون سلسلة، إلا أن ثمة مروحة من الأسباب التي تدفع إلى الإعتقاد بأن السعودية تتجه نحو أوضاع صعبة... فالمناورات داخل العائلة الملكية ستكون كثيفة للغاية، على رغم أن الأمراء يكرهون الإعتراف بهذه الحقيقة".
لكن، إذا ما نحينا جانباً بشكل مؤقت، لأغراض التحليل، الطبيعة البشرية التي تدفع الأخوة والأقارب إلى التناحر (الذي قد يكون دموياً أحياناً) على السلطة، منذ بدء التاريخ البشري (قابيل وهابيل نموذجا)، ما هي العوامل الجديدة الآن التي تجعل الصراعات أكثر خطورة؟
هنا، يُمكن للتاريخ الحديث أن يُضيء طريقنا قليلا. ففي الخمسينيات من القرن الماضي، شهدت المنطقة العربية صعود نجم الحركة القومية العربية التي نادت بالحداثة والوحدة والتحرير، وأطلقت تيارات عاطفية ضخمة في المنطقة تجسدت بالتفاؤل بإمكانية إعادة بناء الحضارة العربية الإسلامية الباهرة. هذا التطور سرعان ما اجتاح مملكة السعوديين الذين كان ملكهم سعود، الذي حل مكان والده عبد العزيز المتوفي في عام 1953، غارقاً في الفساد ورافضاً بناء مؤسسات الدولة بما يتلاءم مع العصر.
هذه الحقبة أفرزت حركتين داخل الأسرة: الأولى تكوّنت من "الأمراء الأحرار"،على رأسهم الأمير طلال بن عبد العزيز، الذي تعاطفوا مع الحركة القومية (في شقها الناصري) ودعوا إلى تحويل الدولة إلى مملكة دستورية. أما الثانية فقادها الأمير السُديري فهد بن عبد العزيز، وطالبت بتنحي الملك سعود وتعيين الأمير فيصل مكانه كي يقوم بالإصلاحات الضرورية، وفي الوقت نفسه إجهاض حركة "الأمراء الأحرار".
بقية تاريخ هذا التطور معروفة. لكن ما يهمنا هنا هو أن الامراء الأحرار، كما الأمراء الأصلاحيين، لم يتحركوا في الواقع إنطلاقاً من معطيات عاطفية أو شعورية وحسب، بل كان هناك أيضاً تقاطع واضح بين استبعادهم عن السلطة وبين استخدامهم الإيديولوجيا الجديدة في المنطقة لصالح تحقيق أهدافهم الذاتية.
الخمسينيات مُجددا؟
واقعة الخمسينيات هذه يمكن أن تتكرر الآن في الهزيع الأول من القرن الحادي والعشرين. فالمنطقة تمر حالياً في تمخضات قد تكون أخطر بكثير حتى من تطورات الخمسينيات، حيث يجد الإسلام السعودي، الذي شكّل درعاً قوياً في السابق ضد الموجة القومية والناصرية، نفسه في أحرج المواقف.
فهو مضطر، بسبب الضغوط الدولية غداة أحداث 11 سبتمبر 2001 في أمريكا، إلى إشهار الحرب على الجهاديين في المنطقة (النصرة، داعش، السلفيين المتطرفين.. ألخ) الذين ينتمون إلى الجذور الوهابية نفسها للإسلام السعودي. لكنه في المقابل يجد صعوبة فائقة في مواجهة أصول هذه الجذور في الداخل المتمثلة في المؤسسة الدينية الوهابية التي تنشر المبادئ (الداعشية والنصروية) نفسها.
وفي المقابل، لم يستطع الإسلام السعودي التعايش مع فكرة وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى السلطة في مصر وبقية الدول العربية، لأنه اعتبر أن مشروع الإسلام السياسي الخاص بهذه الجماعة يذهب بعيدا في عملية تزويج الإسلام إلى الديمقراطية (على حساب مبدـأ "إطاعة أولي الأمر"). وهذه مسألة لم تستطع بعض أجنحة الأسرة المتصلبة ابتلاعها.
الحل الذي خرجت به النخبة الحاكمة لهذا التخبط، إضافة إلى نثر عشرات مليارات الدولارات في الداخل والخارج لشراء الولاء، كان إعلان "الجهاد على الجهاديين" في الخارج، والقيام ببعض الاصلاحات في الداخل (مجلس الشورى، توسيع دور المرأة، تعديل مناهج التعليم.. ألخ). لكنها إصلاحات لم تمس في الواقع شعرة واحدة من نفوذ السلطة الدينية الوهابية.
بيد أن هذا الحل سيُثبت أنه مؤقت من بعض الأوجه، وخطر من كل الأوجه: فهو لن يُرضي القوى الدولية التي عاد الإرهاب الأصولي يطرق أبوابها وسيدفعها إلى استئناف الضغوط على المملكة لضرب جذوره الفكرية والتربوية في مؤسساتها؛ وهو سيُغضب بعض الشباب السعودي الذي يرى التناقض واضحاً بين تربيته الوهابية وبين دعوته إلى مقاتلة أشباهه في المذهب من داعشيين وجهاديين شتى. وهذه المعضلة، بالمناسبة، هي التي خلقت في ظروف مشابهة أزمة الهوية الطاحنة لدى أسامة بن لادن، وحوّلته من رجل أعمال "دنيوي" ينتمي إلى الدولة السعودية، إلى رجل حروب غوار "آخروي" يقاتل باسم "الثورة الوهابية".
ن
إلى أين؟
الآن، إذا ما كانت المعضلة في المرحلة الإنتقالية الراهنة في السعودية على هذا القدر من التعقيد، فإلى أين من هنا؟
العديد من المراقبين يعتقدون أن الأمر بات يحتاج إلى تيارات تغيير شبيهة بثورة الأمراء الأحرار أو الإنتفاضة الاصلاحية الفيصلية. لكن هذه المرة في شكل يؤدي إلى الإخضاع التام لـ "الثورة الوهابية" لصالح الدولة الوطنية.
بيد أن هذا الامر يحتاج إلى أمرين متلازمين كي يتحقق: الأول، حفز وتشجيع الأمراء الإصلاحيين الجدد على توضيح مواقفهم علنا، من خلال بروز قوى مجتمع مدني موحدة تتكوّن من عشرات آلاف الطلاب الذين تعلموا في الغرب، ومن العناصر النسوية ومئات آلاف العاطلين عن العمل والهيئات المطالبة بالاصلاحات الدستورية. والثاني، انحياز كيانات قَبَلية وعشائرية ذات وزن إلى تيار الأمراء الإصلاحيين.
هذان الأمران لايبدوان في الأفق الآن. لكن بروزهما يبدو حتمياً في وقت غير بعيد، بسبب المخاطر غير المسبُوقة التي تتعرض إليها الأسرة السعودية في الداخل والخارج على الصعد كافة الإستراتيجية والفكرية والثقافية والديمغرافية (طفرة الشباب الضخمة).
في الوقت الراهن، ستكون الإستمرارية هي الشعار في الداخل وربما أيضاً في الخارج على صعيد "حرب النفط " مع إيران (وروسيا) ودعم مصر السيسي والمعارضة السورية. لكن تقاطع معركة الأجيال داخل الأسرة مع المعارك الإيديولوجية والإقليمية الضخمة، إضافة إلى التغيرات الهائلة في المجتمع السعودي، ستجعل مثل هذه الإستمرارية مجرد "سحابة صيف" عابرة.
وقديماً قال ابن خلدون: "إذا ما تبدّلت الأحوال جملة، فكأنما تبدّل الخلق من أصله وتحوّل العالم بأسره و كأنه خلقٌ جديد".
بقلم سعد محيو - بيروت ,