من المعلوم بالضرورة، اصطدام الشباب العربي بالشباب الإسرائيلي وأفكارهم، على الإنترنت أيضاً، وهو بحسب الوضع السياسي المعقد للطرفين فإنه "صدام حضاري".
وصدام الحضارات هو في الأصل "رمي فكري" لا "إشتباك حربي"، و الرمي أن تصيب عدوك و أنت في منأى عنه، أما الاشتباك فيعني خسائر في الطرفين وكلاهما في زمن الحرب.
حرب الأفكار تلك أكدتها وزارة الخارجية الإسرائيلية بتكوينها لفريق عمل يسمى "الهاسبارا" رسمياً والذي يترجم إلى "تعبير أو شرح شعبي" أو بالأحرى "بروباجاندا".
ولا يختص الفريق فقط بالعلاقات العامة الحكومية ولكن أيضاً قيادة خلايا ومبادرات لمنظمات سرية وشعبية، هدفها كلها تحسين صورة إسرائيل في وسائل الإعلام الشعبية على الإنترنت، وهو ما يصطدم به الشباب العربي بشكل منظم على الإنترنت.
في لقاء الرجل الثاني في جهاز الهاسبارا السيد إيلان شتورمان مع صحيفة كالكاليست الإسرائيلية التجارية منذ عام تقريبا اعترف الرجل صراحة أن الفريق ربما يضطر للعمل متخفياً. قال: "لن يقول لك رجالنا: أهلا أنا أعمل في الهاسبارا في وزارة الخارجية الإسرائيلية وأريد أن أخبرك بالتالي…. بل ولن يخبروك في الأصل أنهم إسرائيليون بالضرورة" وأكمل "بل سيتكلمون على أنهم متصفحو إنترنت، وكما يفعل المواطنون سيبدو ما يكتبون شخصياً ولكنها رسائل معتمدة من وزارة الخارجية".
الفريق الذي يعمل على مدار ال 24 ساعة متخفياً، مكون من شباب إسرائيليين حديثي التخرج مولعين بالإنترنت، ومعهم جنود من الجيش الإسرائيلي يمتلكون قدرات لغوية عالية. (نعم بإمكان الشباب العربي التخمين أن العربية منهم). إسرائيل، التي بدأت جهازاً "بالغ الحداثة و التعقيد" تزامن مع حملة نظمتها الحكومة الإسرائيلية " براند إسرائيل"، لدعم إسرائيل إعلامياً في العام 2005. حتى ظهر بشكل واضح في ميزانية الدولة الإسرائيلية "جهاز حرب الإنترنت" والذي أدرج في ميزانية العام 2009 بقيمة مبدأية للإنشاء 150 ألف دولار أمريكي تزيد رسميا في العام الذي يليه.
ضع كل هذا الموقف النظامي المعلن بخلاف ما خفي منه، أمام النظام العشوائي العربي في التعامل مع ذات المشكلة. إن كثير من الشباب العربي يشعر بالخجل إزاء هذه المشكلة، لكن تفاقم المشكلة الحقيقي لم يكن يكمن في الشعور "بالخجل" وإنما في "العجز" عن الدفاع أمام جهاز "حربي"، ذلك أن أجهزة الأمن القمعية كانت تتعاون وإسرائيل نفسها ضد المواطنين الشباب العربي أنفسهم، وفي ذات الوقت تتكاسل عن دفع هذا الضرر بنفسها.
هذا ليس كل شيء بعد، يجند الجهاز بشكل تطوعي الحشود لمشاريعه. بل ويقسمهم لمشاريع مختلفة منها مثلا: "الاغتيال الشخصي الإفتراضي" بمعنى اغتيال سمعة شخص أو شعبيته، و أيضا "إتحد واعطي إسرائيل صوتك". وبالطبع تكمن قوة الجهاز لا في الدعم الحكومي ولكن في الدعم الشعبي، فعلى سبيل المثال، المنظمة الأخيرة وموقعها giyus.org وهي اختصار للمعنى الإنجليزي Give Israel Your United Support يقوم بخدمات محاماة بالإضافة لوجود برنامج صغير يدعى ميجافون يستخدمه حاليا أكثر من 50 ألف متطوع نشط لاستقبال رسائل تنبيه عن صدور مقال أو فيديو عن إسرائيل في موقع ما. وما عليهم بالتبعية إلا أن يشحنوا الموقع بتعليقات إيجابية عن إسرائيل (أو سلبية لأعدائها). بإمكانك تنزيل البرنامج إن شئت مجانا… لتجرب بنفسك!
لا تكمن مشكلة الشباب العربي في "دعم إسرائيل" بشكل مطلق، ولكنها تكمن في الأساس في ثلاث نقاط بالغة الخطورة، أولها أن التسويق لإسرائيل لا يكون على حساب العرب. إذ من العرب "ثوار" مدافعون عن أرضهم ضد الاحتلال الاسرائيلي، بينما لا تفرق تلك الحملات بين أي شخص وكأنها تهاجم الجميع "بدعم حكومي"، هذا بخلاف العبث بالتاريخ، أن وجود جهاز نظامي لحرب الإنترنت مدعما من جيش نظامي ويشحن الجماهير المدنية، هو أمر مستقطب للعداء بشكل مباشر في دول الجوار، وكأن إسرائيل "النظامية" تخبر من حولها "لا نريد سلاما معكم ولو على الإنترنت".
الأمر الثالث أن التسويق لإسرائيل لا يعني سب النبي محمد –صلى الله عليه وسلم- وهو ما يدعمه بشكل رئيسي رئيس جبهة دفاع الإنترنت اليهودية ويذكره على موقعه، وهو الأمر المستفز لجماعة العرب و المسلمين بشكل عام.
وحتى يتسنى لنا تحليل لماذا الموقف الاسرائيلي المستفز للشباب العربي ربما نعرف قليلاً بجبهة دفاع الإنترنت اليهودية Jewish Internet Defense Force والتي هي امتداد مدعم من الحكومة الإسرائيلية لـ "حرب الإنترنت" المزمعة.
"ساعِد إسرائيل في أعنف معاركها – معركة الرأي العام على الإنترنت". بهذه الرسالة القصيرة في العام 2006 على موقع اتحاد الطلبة اليهود الدولي الذي ترأس أول نسخة منه ألبرت أينشتين نفسه في العام 1924، بدأ الواحد ونصف مليون عضو تحميل برنامج صغير مجاني يساعد على إتمام المهمة, وبدعم مباشر من الكنيست, ووزارة الخارجية الإسرائيلية, وجهاز دفاع الإنترنت بإسرائيل والمنظمة الدولية للصهيونية يتم تنظيم مؤتمر دولي لهم كل عام في القدس كان آخرهم بعنون "فك رموز المستقبل".
"WUJS 2009 Congress-Unlocking the future".
ولم تفت الفرصة دافيد أبل-تري مؤسس جبهة دفاع الإنترنت اليهودية ليلقي خطاباً عن نجاحات الجبهة في الفترة السابقة وهو أول المائة اليهود الأكثر تأثيراً على تويتر.
بدأت الجبهة كفكرة في العام 2000 م. بينما كان بعض الطلبة اليهود يدرسون في نيويورك سيتي بأمريكا، حيث بدأت بشبكة ماي سبيس وبدأت حملات نشطة بالبريد الإلكتروني ضد حزب الله في العام 2006 وجهات أخرى معادية لإسرائيل، وانتقلت مع تطور التكنولوجيا إلى الفيس بوك.
بداية الفكرة كانت إخبارية… بمعنى نشر الوعي وإبقاء اليهود المهتمين بقضايا إسرائيل على إتصال بما يحدث فيها، وتطور الحال لمواجهة معاداة السامية, معاداة أفكار الجهاد على الإنترنت بما يشمل ذلك من ردود فعل على جوجل ويوتيوب و جوجل إيرث وويكيبيديا و تويتر، وينعم فكر السيد دافيد أبل-تري صاحب الفكرة بدعم أكثر من 53 ألف متابع على تويتر وأضعاف أخرى على الشبكات المختلفة. كل ذلك مقبول و شرعي، لكن السيد دافيد مؤسس JIDF يفخر بنجاحات جبهته، ومنها تعديل الكثير من صفحات الويكي بيديا لصالح إسرائيل, ومنها تعديل خرائط جوجل إيرث, ومنها إغلاق صفحات في فيس بوك, ومنها إلغاء مواد مصورة تظهر صورة إسرائيل الحقيقية –بالنسبة للعرب- وتشوه صورة إسرائيل –بالنسبة لليهود- على يوتيوب, ومنها تقديم خدمات محاماة لملاحقة المخطأين في حق "وجود إسرائيل" وهو الأمر الذي ينكره عدد لا بأس به من الشباب الغير مؤيد للإحتلال الإسرائيلي… إلخ.
ليس فقط تعمد تغيير التاريخ من طرف واحد، هو ما يستفز الشباب العربي ولكن قناعات السيد دافيد والتي يشاركها متابعيه وهو واحد من أكثر اليهود تأثيراً على تويتر، السيد دافيد يؤمن بأن الفلسطينين يجب أن يتم ترحيلهم خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة لدول عربية بينما يسمح لليهود من شتى بقاع الأرض بالـ"عودة" لأرض لم تكن لهم أصلا، السيد دافيد يقول على موقعه في نبي المسلمين الذي هو أكثر شخصيات دينهم تقديساً سباباً لا ينقطع, وهو مالا يرضاه الشباب العربي بأي حال من الأحوال لمنافاته الآداب العامة لاحترام الأديان جميعاً.
ولقد نشأت بعض الأفكار المشابهة في الوطن العربي قبل الثورات ولكنه قد تم إخمادها عاجلا أم آجلا لأسباب عدة، مثلا, قد أحيت الجزيرة توك قبلا مبادرة "المقاومة الإلكترونية" ولكنها أولا: قامت أساسا على من لديهم قدرة التأثير بالإعلام التفاعلي فقط وثانيا: أهملت العامة من الناس وهم أكثر بكثير, والأولى كان استخدام كليهما. وقد قامت بعض المجموعات بنشر آخبار عن فلسطين المحتلة (وهي القضية الركن في الوطن العربي) بشكل منظم و لكن بدون أشكال نظامية مدعومة من حكومة أي دولة نظراً لعدم قانونية ذلك أولاً, و ثانياً لعدم وجود "نظام" أصلا يؤيد "حرب الإنترنت" في دول كثيرة منهم، و أخيراً وهو الأهم والمعرقل الحقيقي: أن كل محاولات الشباب كانت –ولازالت- تقابل بقمع مباشر من الأنظمة العربية نفسها بالتعاون مع عدة أجهزة مخابرات لدول غربية. والغريب أن نفس الدول هي من يسمح بجبهة دفاع الإنترنت اليهودية JIDF.
إن وجود مثل تلك الجماعات والعبث بمقدرات الشعوب التاريخية على ويكيبيديا واغتيال الشخصيات التي لا ترضى عنها إسرائيل اجتماعيا هو أمر مستفز لجموع الشباب الحرة الثائرة العربية. ولا نظن أن فكرة مجابهة هذا النظام ستهدأ إلا بزوال النظام نفسه أو على الأقل بعلنيته واستفزازه المباشر لجموع الشباب العربي إجمالاً.
إن الشباب العربي يتوق إلى السلام كما يتوق إلى العدالة والحرية والكرامة الإنسانية، والسلام الذي يطمع فيه هو سلام غير مؤدلج وإنما سلام قائم على رغبة حقيقية في حفظ كرامة الوطن، وصيانة تاريخه, شأنهم في ذلك شأن كل أحرار العالم، لكن إسرائيل باستقطابها هكذا لا تساعدهم بأي حال من الأحوال, وإنما تغذي روح الصدام أكثر وأكثر، ليس فقط مع شباب الربيع العربي ولكن مع بقية أحرار العالم أيضا.