القروض واستئناف بيع مصر.. فمن يا ترى السمسار ومن المشتري؟
محمد عبد الحكم دياب
جراد بشري يهب على مصر يوميا..موجة إثر موجة.. من كل صنف ولون.. جراد يهل في زي مبعوثين ورجال مخابرات ودبلوماسيين وسياسيين وبرلمانيين وعسكريين وماليين من الغرب؛ سلاحهم المراوغة والتهديد والوعيد، وفي ركابهم غزو جراد عربي وإسلامي؛ ‘يلوح بذهب المعز وسيفه’ ورئيس جمهورية دائم الترحال بحثا عن قرض أو ‘صدقة’، وبالتعبير الشعبي ‘يشحت علينا’، أو يطلب مستثمرا بديلا لدولة لم تُبن بعد؛ يعطيه ‘الجمل بما حمل’، ولا يتوقف الحديث عن مشروع ‘نهضة’، نسمع به ونقرأ عنه ولا نراه.
ويبدو أنه مشروع سري لا يعلمه إلا ‘أولو العزم’، من التجار والسماسرة وأصحاب التوكيلات وأباطرة المال الاخواني وحيتان الأعمال من الحزب الوطني المنحل! وهم ممن تتشكل منهم الوفود المرافقة للرئيس في حله ‘التجاري’ وترحاله”الاستثماري’، وكان ممكنا لجهده أن يكون مجديا لو استبدل أولئك بخبراء واقتصاديين وأكاديميين وماليين ومفكرين وعلماء وسياسيين من ذوي الباع؛ المشهود لهم بالنزاهة والمعروفين بالعطاء.
اكتفى الحكام الجدد من الثورة بأن خلصتهم من مبارك، وأبعدت عنهم شبح التوريث، وبعد ذلك بقي كل شيء على ما كان عليه؛ عمت الإضرابات، وانتشرت الاعتصامات، وعادت المعالجات الأمنية والمواجهات البوليسية، وكأن أولي الأمر لا يعرفون أن الشعب تغير ولن يعود إلى ما كان فيه، لكن يبدو أن هذا استعصى على فهمهم، مع ما قد يكون بينهم من أصحاب نوايا حسنة لكنهم قليلو الحيلة؛ شغلهم ذلك الجراد وأضاعوا الوقت في استقباله؛ يحدوهم أمل كاذب في التخفيف من وطأة الأزمات والضغوط الداخلية.
والحكومة ارتاحت لانشغال أغلب القوى الثورية والسياسية بمنافسات وصراعات انتخابات برلمانية افتراضية؛ لا يعلم أحد إن كانت ستتم أم لا. وسعيدة بتصريحات أقطاب حزب ‘الحرية والعدالة’ الاخواني بقرب صدور حكم قضائي بعودة مجلس الشعب المنحل بقرار من المحكمة الدستورية العليا، والسؤال كيف؟ لا أحد يعلم! بجانب أن ما يدور في أروقة الحكم لتأجيج المنافسات الانتخابية والصراعات الحزبية وكأنه لإلهاء الناس بعيدا عن الحكومة.
وترتب على أفواج الجراد هذه أن شهدت الأسابيع والأيام الماضية توقيع اتفاقات مع أطراف عربية وإقليمية ودولية؛ خاصة بأموال وقروض، من المقرر أن تحصل عليها مصر على سبيل الدين أو الوديعة، أو على هيئة وعود تسمح بفسحة من الوقت إلى أن تُقبل الشروط وتُثمر الضغوط.
ووفود الجراد القادم من أمريكا تحديدا هم من رجال المخابرات والجيش والمحتكرين وأصحاب الشركات الكبرى، ومهمتهم جمع المعلومات والتعرف على الحكام الجدد عن قرب. والحصول على ضمان باستمرار ‘مصر الثورة’ على حالها السابق على 25 يناير 2011، والتأكد من’أن التغيير فيها لا يتجاوز الإدارة العليا، وتبقى الهياكل والبنى ذاتها على نسقها القديم، مع حرص على عودة زواج الحكم بالمال، وتحصينه بالفتاوى الدينية.
وبدأ الحكام الجدد مما انتهى به حكم حسني مبارك في سنواته العشر الأخيرة، وكان قد سلم الحكم لابنه جمال؛ لم يبدأوا بدايته الأولى، عندما كان يقنع بالقليل ويردد ‘الكفن ما لوش جيوب’ عنوانا لمرحلة زهد مزيف؛ قفز عليها الحكام الجدد فبدأوا من الآخر، كما نقول في مصر، وبدت مصلحتهم في الحفاظ على الفجوة الواسعة بين الثراء الفاحش والعدم المميت، واستخدام عصا الأمن وبطش الشرطة، والبحث عن مستثمرين جعلوا منهم قديسين وأنبياء للعصر، فحلوا محل كل القوى والطبقات، وكأن مصر بلد عقيم؛ بلا إمكانيات ولا قدرات أو ثروات طبيعية وبشرية أو خبرات عالية رفيعة، وبدلا من توظيفها وتعبئتها وحشدها بقي الإصرار على إهدارها في سبيل المستثمرين والاستثمار.
كأن المؤسسات والدول التي تعطي وتقرض جمعيات خيرية تعطي لوجه الله، بلا شروط ولا تقبل ممارسة الضغوط ووضع القيود؛ وليس لها مصالح تسعى لتحقيقها، ولا أطماع تعمل على نَيلها، وانعدم اهتمام أولي الأمر من أباطرة المال والسياسة بمصادرة الأموال المنهوبة والأراضي المسروقة لحساب الشعب، وكأنهم يتعجلون ثورة أخرى.
واختلف الموقف من القروض والودائع باختلاف الهوى والمصلحة، فالفوائد ربا مُحرم عندما كانت الحكومة غير الحكومة، أما وأن الاخوان قد حكموا فإن ‘الضرورات تبيح المحظورات’، وهنا تحضرني حكاية شاعت قديما في قريتنا تدليلا على ازدواج المعايير لدى بعض الشيوخ، وملخصها أن كلبا بال على حائط يفصل بين فلاح وشيخ القرية، وذهب الفلاح للشيخ يطلب الفتوى، قائلا: أريد أن أطهر الحائط من بول الكلب. وأفتاه بأن الحائط يُهدم ويُبنى سبع مرات لضمان التخلص من النجاسة، وقال الفلاح: يا سيدنا الشيخ الكلب بال على حائط بيني وبينك، فرد: إن قليلا من الماء يطهره، وهكذا الحكم على فوائد القروض والودائع، فهي ربا محرم إذا كانت للغير، أما إذا كانت ‘للشيخ’ أضحت ‘حلالا’، ومن قبيل المصاريف الإدارية.
وما الحل إذا كانت القروض والودائع ضارة وطنيا وسياسيا، وهدفها إفقار البلاد وإذلال العباد وتقسيمهم ونشر الصراعات والنزاعات بينهم؟ وأول شروطها رفع الدعم عن القطاع العام، واستئناف الخصخصة، وأن يصب القرض لصالح رجال الأعمال؛ كقوة وحيدة معتمدة كرأس حربة في مخطط الغرب، الذي ينفر من نظم الملكية والانتاج الجماعية، وحتى شرط إسقاط الولايات المتحدة الأمريكية مبلغ مليار دولار من ديون مصر هو ثمن متوقع لمشاركتها في العمليات العسكرية والإعلامية والحرب النفسية ضد إيران وسورية ومنظمات المقاومة.
هذا ويتم تجاهل فوائد ودائع لدول عربية وإسلامية، فالوديعة القَطرية ليست من قبيل ‘القرض الحسن’ إنما عليها فائدة سنوية كغيرها، وقرض البنك الإسلامي للتنمية للهيئة العامة للبترول وهيئة السلع الغذائية، وقدره مئتا مليون دولار؛ فائدته أعلى من صندوق النقد الدولي، وفائدته هي حوالي واحد ونصف في المئة، وفائدة البنك الإسلامي ثلاثة واثنان من عشرة في المئة سنويا.
بجانب ذلك تسعى الحكومة لتغيير القانون لصالح الاستثمار الأجنبي، فيصبح نوع ‘الاستثمار الحلال’ أو الحميد، ويكون جاهزا فور استئناف الخصخصة، فيشتري مؤسسات ومرافق الدولة الرئيسية؛ قناة السويس، والترسانة البحرية، والمصانع الحربية، والسد العالي، والسكك الحديدية. وبدا الأمر وكأن أولي الأمر قد تحصنوا ضد التعلم من تجارب الدمار الشامل السابقة؟ لكنها المصالح المالية الإخوانية ودوائرها الخليجية والتركية والأوروبية والأمريكية، ومنها ما هو مصهين!
نشرت صحيفة ‘الفاينانشيال تايمز’ مؤخرا ما يؤكد شروط الصندوق، ومنها أن تقوم مصر بتخفيض العجز في ميزانيتها بتقليص القطاع العام، وإلغاء دعم المواد الغذائية والغاز والمستخرجات النفطية، مثل البنزين والسولار، وخفض العملة. والتقشف يغدو مستحيلا مع اقتصاد ينكمش ولا ينمو على الإطلاق حسب قول الصحيفة. وقد ذكرت على لسان كريستين لاجارد رئيسة صندوق النقد أن عدم وجود برلمان لن يكون عائقاً لعمل الصندوق، وقد يكون في هذا تلميح لعودة البرلمان قبل إقرار القرض.
وإذا لم يُطبق التقشف يتم سحب القرض، وهذا حدث مع دول ذكرتها الصحيفة، فالصندوق منح أوكرانيا قرضا بنحو 14.6 مليار دولار، وتوقف الصندوق عن استكماله لعدم الالتزام بالتقشف. وكانت النتائج في رومانيا كارثية، استقال رئيس الوزراء الشهر الماضي إثر احتجاجات غاضبة رافضة للتقشف، وكان الصندوق قد قدم قرضا لرومانيا قيمته 26 مليار دولار، ومن شروطه تخفيض الانفاق الحكومي والمعاشات. وأشاد الصندوق بإجراءات التقشف الاسبانية، ويرى المعارضون ان خفض الانفاق الحكومي وتقليص المعاشات سيحدث شللاً للاقتصاد ويزيد معدلات الفقر والبطالة.
تجار ووكلاء الإسلام السياسي لا يقترفون فعل ‘التنمية’ وكأنه فعل فاضح، فهو مجرم ‘شرعا’ وعليه ‘فيتو’ صهيو غربي، ومشكلة التنمية أنها شاملة وعامة ومجتمعية، ومتعددة المجالات؛ بشريا واقتصاديا وثقافيا وتعليميا واجتماعيا، وقادرة على الوفاء بأعباء العدالة الاجتماعية ورفع مستوى المعيشة، وتتحمل عبء الدفاع والأمن الوطني والقومي، وتضفي على الحكم والسياسة طابعا إنسانيا رحيما، وأساس الاستثمار فردي واستغلالي ومتوحش، ويُسلّع الحقوق المشروعة؛ في الرعاية والتعليم والعمل والصحة والخدمات الإنسانية، وكان ذلك يجد تبريره مع الحكم السابق باسم قوانين السوق، والآن يُبرر بالنصيب والرزق، والدعم لا يذهب لمستحقيه من محدودي الدخل والمعدمين والفقراء، ويذهب إلى المستثمرين بدعوى التشجيع والجذب.
الحكومة تتعامل مع شروط الصندوق والمقرضين وكأنها سر حربى، وتدّعي أن قرض الصندوق يفتح الباب أمام الحصول على المزيد من صناديق ومؤسسات أخرى، وهذه عقلية نشرت الفرح في أروقة الحكم، مع إعلان شركة شل العالمية للبترول ضخ استثمارات في قطاع الغاز والنفط في مصر بقيمة تصل إلى 11 مليار دولار، وعن إعلان مؤسسات وشركات أجنبية رغبتها الاستثمار في مصر، وهنا يرى رئيس الوزراء هشام قنديل أن ذلك بمثابة رسالة جيدة لاستقرار الأوضاع في مصر. وكأن الأصل هو التسول وليس العمل والانتاج والاكتفاء والاعتماد على النفس!
وكان الرئيس مرسي قد زار الجمعة قبل الماضية مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل بحثا عن قرض أو مساعدة، وانتقل منها إلى ايطاليا، التي تعاني أزمة اقتصادية حادة، قد تكون أكثر تعقيدا من أزمة مصر، وصَاحَب الزيارة تصريحات لرئيس الوزراء عن اجراءات تقشفية، وأخرى لوزير المالية عن فرض ضرائب على مكالمات المحمول، وثالثة لوزير الاستثمار يعلن فيها طلبه من وفد رجال الأعمال الأمريكي المساهمة في مشروعات شرق بورسعيد، وهي المشروعات التي سبق وأعلنت قطر القيام بها.
وعلينا ألا نغفل الشروط والضغوط السياسية والقيود التي يفرضها الصندوق للالتزام بنص وروح ‘معاهدة السلام’ مع الدولة الصهيونية، وما يرتبط بها من نشر ثقافة ‘السلام’ والتطبيع خدمة للدولة الصهيونية وحماية لأمنها.
ومأزق مشروع ‘النهضة’ هو اعتماده على اقتصاد عشوائي وطفيلي؛ تأسس على يد جمال مبارك وجماعته وأنتج ما تسبب في اندلاع ثورة يناير العظيمة، ويقوم على التسول والاقتراض، وتمكين الأجانب من الاستحواذ والسيطرة على أصول وثروات الوطن والمواطن. إنه مشروع للاستهلاك الإعلامي، وللتغطية على الزواج المحرم بين المال والسياسة والطائفة والمذهب. هذه عشوائية مطلوبة، واعتماد الاقتراض والاستجداء من الخارج هدف في حد ذاته ووسيلة للتفريط في الاستقلال الوطني. وهذا يدمر ولا يبني، ويخرب ولا يعمر، ويفسد ولا يصلح.
وإذا كان أولو الأمر بسعيهم هذا يَعْرضون مصر للبيع، فمن يا ترى السمسار ومن هو المشتري؟!