من يتابع ما تنشره الصحف من أخبار ما تتكشف عنه التحقيقات والوقائع التى تتناول الطريقة التى كانت تدار بها مصر، وحجم الفساد الذى استشرى فيها، مع الهواء فى كل موقع، يلاحظ أن كلمة الذهول تتكرر كثيرا فى المقالات التى لا تستطيع بحق أن تستوعب فداحة الفساد.
فقد هال الجميع حجم الفساد ومدى تغلغله فى كل شىء، وأصابهم بالذهول. والذهول يمكن أن يتحول إلى أداة لليقظة وتبكيت الضمير والعمل على الحيلولة دون أن يتكرر ذلك مرة أخرى لمصر أو لشعبها، لأنهما يستحقان معا أفضل مما عاشاه فى العقود الأربعة الأخيرة.
ولكنه يمكن أيضا أن يصبح مائدة مسمومة يتناول المصريون غذاءها اليومى بأحداثه الغرائبية، وكأنه من توابل الحياة المستحبة، يغنيهم عن الفعل الحازم والصارم، ويهدهد فيهم نوعا من الرضا الزائف بالكشف عن مباءاته، دون أن يثير فيهم التقزز، أو يدفعهم إلى الإحساس بالذنب والمسئولية عما جرى لهم، وجرى لمصر معهم وبسبب سلبيتهم، وتغاضيهم، وتواطؤهم.
فما جرى لمصر من هوان وتردٍ ودمار، طوال العقود الأخيرة، دفع بها إلى قاع الأمم فى كل المؤشرات الدولية للنمو والتحقق والصحة والتعليم وغيرها من الممارسات، وأحالها إلى تابع مهيض لسياسات ما سمى بالحقبة السعودية الكئيبة، وللمخطط الصهيونى فى المنطقة، لم يجرِ لبلد بعيد عنهم، وإنما لبلدهم الحبيب. ولم يحدث بمعزل عن حياتهم، وإنما أثر على كل مناحيها وتجرعوا مراراته. ولم يقم به أعداء مصر الخارجيون، دون تبرئة هؤلاء الأعداء من بعض المسئولية عن كل ما دار، وإنما قام به مواطنون مصريون، من النخب المصرية الثقافية منها والسياسية والاقتصادية.
لأن مبارك الفاسد المخلوع لم يكن يحكم مصر ويدير شئونها وينشر أكاذيبه المفضوحة حول إنجازاتها بنخب مستوردة، وإنما بنخب مصرية خالصة، صحيح كانت هناك أصوات مصرية فى كل مجال تنتقد كل ما يدور، وتزرع فى وعى الشباب نقدها المستمر له، ورفضها لأسسه الفاسدة، لكن هذه النخب المسيطرة والمتنفذة والمدعومة بسيف السلطة وذهبها سادت وحكمت ويسرت البطش والبغى والنهب والبهتان.
وقد نتج عن هذا كله واحدة من أحلك فترات مصر فى تاريخها الحديث. تدهور فيها كل شىء كما ذكرت فى المقال السابق من التعليم إلى الصحة، ومن المواصلات إلى الإعلام.
وقد كان إعلام مصر المرئى والمسموع والمكتوب من أفضل منابر الإعلام فى المنطقة العربية كلها، فانهار حتى أصبح من أحطها. فبعد أن كانت الصحف العربية تسعى لمضاهاة ما حققته (الأهرام) فى الستينيات، رأينا كيف انهارت (الأهرام) نفسها وتحولت إلى بوق للزيف والبهتان، تدهور فيها كل شىء، ولم تزدهر إلا ممتلكات رؤساء تحريرها ومجالس إدارتها.
ولم يعد فى التليفزيون المصرى، برغم تعدد قنواته الفضائية والأرضية قناة تضارع قناة (الجزيرة) مهنية ومصداقية، بعد أن كان التليفزيون المصرى منارة الإعلام المرئى فى المنطقة.
وأذكر الإعلام هنا خاصة لأننى أريد أن أدلف منه إلى واحدة من أهم الملامح التى نحتاج إلى إصلاحها، وهى الوعى الشعبى والعقل المصرى الذى ترك نهبا للتخلف والتشويه والخرافة.
وتجذرت فيه عادات تصورية ومفهومية تضعضعت معها قدرته النقدية عن عمد، ولم يعد قادرا على الحكم العقلى النقدى السليم، وهو أولى ضرورات أى ديمقراطية، فأمكن أن يدور كل شىء فى غيبته، فساد الفساد وانتشر، وتحول النهب والهوان والتبعية إلى منطق حياة للطغمة الحاكمة التى لم تجد من يردها أو يتحداها طوال أربعة عقود فطغت وتمادت.
صحيح أن الشعب هب وأسقط رأس هذا الفساد كله فى 25 يناير، ولكن الفساد الذى كان قد تحول إلى مؤسسة قوية متكاملة تتغلغل فى كل مناحى الحياة لا يزال هناك.
له رعاته ونخبه ودهاقنته الذين استفادوا منه وأفادوا من حولهم من حاشية السوء، وخلقوا شريحة باغية ازدهرت فى غياب القانون بالاعتماد عليه بصورة تدفعهم إلى الاستماتة فى الدفاع عن أنفسهم وعن مكاسبهم التى تدير تجلياتها الرءوس، وتصيب معرفتنا بأحجامها الضخمة بالذهول.
هذا الفساد هو أعدى أعداء الثورة فى الداخل، وهو الذى يعمل بدأب وبطرق جهنمية لا تخطر على بال على الإجهاز عليها.
تتخلل خلاياه السرطانية كل أعضاء الجسم المصرى. ولا سبيل لأن يصح هذا الجسم ويعود عقله إلى الوعى والنقد والتخطيط لمستقبل أفضل، دون استئصال تلك الخلايا المنتشرة فى كل أعضائه. فالعقل السليم فى الجسم السليم كما نعرف، وكما لقنونا فى الكتب المدرسية منذ المهد.
وما لم يسترد الجسد عافيته، فإن العقل الذى لا أمل فى أى إصلاح أو تغيير بدونه، لن يقوم بالدور المنوط به فى تحريك هذا الجسم الوطنى وتفعيله لبناء مستقبل أفضل.
والواقع أننا لم نكن أول أمة عاشت تلك المأساة وتغلغل سرطانها فى كل حياتها، فغيّب عقلها تحت ذرائع مختلفة، وإن كانت الذرائع التى غيبت عقل مصر من أكثرها بين الشعوب انحطاطا، لأنها كانت ذرائع عصابة ليس لديها أى مشروع سوى الثراء الجشع الحرام على حساب كل شىء.
فقد عانت ألمانيا فى المرحلة النازية من جنون فرد لا يقل عتهًا عن مبارك، أمسك فى يده مثله بكل أعنة القوة والسلطة والمال، ونفذ عبرها مشروعه. وإذا كان جنون هتلر الذى غيّب بسببه العقل الألمانى الخصب ينصب على القوة والتوسع والسيطرة، فإن جنون مبارك انصب على الثراء الفاحش الذى اكتشفنا معه أن للكفن مليارات الجيوب.
وكما دفعت ألمانيا ثمنا فادحا من سمعتها وعقلها وتاريخها لجنون هتلر، فإن الثمن الذى دفعته مصر لجنون مبارك لا يقل فداحة عن الذى دفعته ألمانيا. فقد ترك عهده فى النفس المصرية، وحتى فى جغرافيا مصر نفسها جروحه وقروحه.
فإذا كان عبدالناصر قد ترك فى جغرافيا مصر السد العالى وبحيرة ناصر، فأنقذها بهما من وهاد التخلف وسنوات القحط والجفاف، فإن مبارك قد ترك فى جغرافياها المدن العشوائية وأحزمة الفقر، ومنتجعات اللصوص المسوّرة.
وجرف أراضيها الخصبة، وأفسد زراعتها وشوه تركيبتها المحصولية. ودمر نظامها التعليمى وجامعاتها، بل جرف العقل المصرى ذاته بتكريس الهون والتبعية.
ويتطلب هذا كله تغييرا جذريا فى كل شىء: من التعليم حتى الصحة، ومن الزراعة حتى تخطيط المدن، ومن بنية الاقتصاد حتى هيكلة الأجور، ومن المواصلات حتى الإعلام والخطاب السياسى والتنظيمات الحزبية.
يتطلب حقا عملية تطهير شاملة نتخلص بها من كل ترسبات النظام الذى خرج الشعب المصرى عن بكرة أبيه يطالب بإسقاطه. وهذا فعلا ما قامت به ألمانيا عقب سقوط النازية.
وقد أثبت الدرس الألمانى الذى أسفر عما عرف بـ«المعجزة الألمانية» التى غيرت كل شىء فى ألمانيا فى سنوات قلائل، أنه لا تغيير بلا تطهير. فقد بدأت التجربة الألمانية بعملية استئصال ممارسات النازية ورموزها من كل مناحى الحياة الألمانية.
وكان الحلفاء المنتصرون، وهم نفسهم الذين يحرصون الآن على أن تكون التغيرات فى النظام المصرى شكلية، هم أول من بادر باتخاذ الإجراءات الكفيلة بتحقيق عملية التطهير تلك، والتى سميت بالألمانية Entnazifizierung، وبالإنجليزية Denazification.
كانوا حريصين وقتها على هذا التغيير الجذرى، وعلى ضرورة اسئصال بقايا الحزب الوطنى، (وكان اسم حزب هتلر لمرارة المفارقة أيضا هو الحزب الوطنى الاشتراكى، والذى أصبح عندنا الوطنى الديمقراطى) وأيديولوجيته من الثقافة والإعلام والقضاء والسياسة، وتجريد كل من عمل معه من وظائفهم، وإبعاده عن أى مركز من مراكز التأثير.
ولأن الشىء بالشىء يذكر، فقد منع الدستور الإيطالى الذى كتب بعد المرحلة الفاشية، منعا باتا إعادة تأسيس الحزب الوطنى الفاشى، وهو الحزب الوحيد الممنوع فى إيطاليا بحكم الدستور حتى اليوم.
ومن يعرفون تاريخ مصر يدركون أواصر القرابة، لا فى الاسم وحده، وإنما فى الفكر والممارسة، بين الحزب الوطنى غير الديمقراطى عندنا، وبين الحزبين النازى والفاشى، فلم يخف مؤسس الحزب الوطنى المغدور أبدا إعجابه فى شبابه بهتلر وحزبه.
وقد بدأ الحلفاء هذه العملية بتكوين مجلس لهذه المهمة يحدد الإجراءات القانونية والمعايير اللازم اتخاذها فى هذا المجال.
ولم يقتصر الأمر على الأشخاص وإنما تعداه لكل التجليات الفعلية المحسوسة منها والرمزية للعهد البائد وإزالة أى أثر له.
وبدأت عملية إعادة تثقيف الشعب برمته، كى يعى حقوقه وواجباته فى ظل نظام ديمقراطى جديد، وبصورة تجعل من الصعب على المضللين تضليله.
وأثناء هذه العملية تخلق فى الشعب الألمانى نوع جذرى من الإحساس بالذنب الجمعى والمسئولية الأخلاقية الجمعية عما جرى، وتم زرع هذا السؤال الجوهرى فى كل ألمانى: كيف سمح الشعب الألمانى، برغم ثقافته وتاريخه العريق، بحدوث كل ما جرى باسمه؟ ولماذا ترك بلده يهبط إلى هذا الحضيض؟ وهو ما يمكن ترجمته عندنا، بكيف سمح الشعب المصرى لهذه العصابة أن تحكم مصر، وأن تنهب ثرواتها؟ ولماذا سمح لها أن تنزل بمصر إلى حضيض الهوان والتبعية؟ هذا سؤال لابد من تجذيره فى كل مصرى، حتى لا يتكرر ما حدث، وأهم من هذا كله حتى تنهض مصر من كبوتها، وتحقق معجزتها المرتجاة
(2)
انتهيت فى مقال الأسبوع الماضى إلى أن الدرس الألمانى هو الذى يعلمنا ضرورة استئصال سرطان العهد القديم كله، كى يصح الجسد، وتنهض الأمة من جديد. ووعدت فى نهايته القارئ بالإجابة عن سؤال: كيف نستفيد من هذا الدرس؟ وما تفاصيل ما جرى هناك؟ والواقع أننى وأنا أطرح أهمية الاستفادة من الدرس الألمانى على وعى شديد باختلاف ما جرى لمصر عما دار فى ألمانيا النازية، وهو الأمر الذى علّق عليه عدد من القراء.
مشيرين إلى نهضة هتلر بالبنية التحتية الألمانية من طرق ومواصلات، وبالصناعة الألمانية والبحث العلمى، وبالقدرة العسكرية التى اجتاحت أوروبا بكفاءة حربية نادرة، ولم يوقفها غير تحالف أكبر القوى الغربية من الاتحاد السوفييتى حتى الولايات المتحدة ضدها، وغير ذلك من إنجازات كبرى لا يجدون فى عهد مبارك أى نظير لها.
فالفرق بين نظام هتلر ونظام مبارك كما علقت الدكتورة أثير محمد على كبير، وكبير جدا. وهو الفرق بين نظام شمولى له مشروع «مثالى ومبدئى» بالمعنى الفلسفى والسلبى معا، نختلف على شعاراته ورؤيته لما تنطوى عليه من أصولية أو ضلال، كما هو الحال مع النازية أو الفاشية أو حتى الستالينية، وبين نظام تسلطى مستبد لامشروع له، ولا مبدأ. ينهض على الانحطاط والبراجماتية الذرائعية كما هو الحال مع نظام مبارك المخلوع. ومع كل النظم التسلطية العربية التى لاتتورع عن قصف شعوبها بالدبابات من أجل البقاء فى السلطة والاستئثار بخيرات الوطن بالحق أو بالباطل.
وهى كلها نظم تتمحور حول العائلة بالمعنى الصقلى للكلمة، أى بمعنى المافيا، التى تصبح فيها العائلة رأس عصابة لا تأبه بالقانون، بل تصبح هى القانون. لذلك كان طبيعيا وقد قرّ فى وعى كل هذه الأنظمة التسلطية العربية، وفى لاوعيها معا، أنها عصابات خارج القانون، أن تعتمد، كالمافيا الأم، على البلطجية بشكل متزايد، حيث نجد أن مسمياتهم تتعدد وتتباين من دولة إلى أخرى: من البلطجية الذين عانت منهم مصر ولا تزال تعانى حتى اليوم فى أحداث إمبابة الدامية، إلى البلاطجة فى اليمن، والمرتزقة فى ليبيا، والشبيحة فى سوريا، والمطوعين فى السعودية.
فلم يكن لدى نظام مبارك أى شعارات أو مبادئ، ناهيك عن أى مشروع وطنى. لذلك كان يتقلب بتقلب المصالح والظروف كالحرباء، ولا يتورع عن استمراء التبعية والهوان، والتفريط فى المقدسات الوطنية من أجل الاستمرار فى الحكم والنهب والاستبداد بلاحدود. يعتمد على توسيع العصابة وضم أعضاء لها يعززون سطوتها، وعلى قبضة الأمن الشرسة، والتحالفات الدولية، التى وجدت أنها تستطيع أن تحقق مع مثل تلك النظم المافياوية ما لا تحلم بتحقيقه مع أى نظام وطنى.
فلا يمكن أن تحلم دولة الاستيطان الصهيونى بمن يحمى حدودها من المهاجرين الأفارقة بالصورة، التى فعل بها نظام مبارك المخلوع، ولا يمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تجد بين أخلص حلفائها، بما فى ذلك الحليف الصهيونى، من يقبل القيام بالدور القذر فيماعرف باسم Rendering بتعذيب المشبوهين فيما يسمى بالحرب على الإرهاب، والذى تحرمه القوانين الأمريكية، وهو الدور الذى أداه لها بكفاءة مخزية نظام مبارك المخلوع، وجعل مصر بسبب ذلك أضحوكة العالم المتحضر. لذلك كله أكدت فى المقال السابق أن الحضيض الذى زجّ نظام مبارك المخلوع مصر فى قيعانه لامثيل له بين الأمم.
لكن وجه الشبه الأساسى بين النظامين، الاستبداد والسيطرة الأمنية الكاملة، وتغلغلهما فى بنية كل من المجتمعين على مختلف الأصعدة كى يدير كل منهما سلطته المطلقة بكفاءة وشراسة مطلقة أيضا، هو الذى يطرح علينا ضرورة الاستفادة من الدرس الألمانى. فلم تأت استعارة السرطان فى المقال السابق، وأكررها هنا، عفو الخاطر، لأن ما عاشته مصر سرطان خبيث تغلغلت خلاياه المدمرة فى شتى انحاء الجسد الاجتماعى والاقتصادى والسياسى المصرى. وهو ما كان عليه الأمر فى ألمانيا النازية عشية سقوط هتلر.
وكان من الضرورى استئصال جميع خلايا هذا السرطان الخبيث من الجسد الألمانى حتى يصح، وينهض وينطلق من جديد كى يحقق معجزته، التى نرجو لمصر أن تحقق هى الأخرى معجزتها المشابهة برغم تغير الظروف والسياقات. وأهم ما يطرحه علينا الدرس الألمانى هو ضرورة التطهير، والتخلص من كل خلايا سرطان النظام السابق المتغلغلة فى كل ثنايا المجتمع. وقد أجمعت قوى الاحتلال الأربع عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية على ضرورة هذا التطهير، وإن تفاوت منطلق كل منها له.
وتحت إدارة الجنرال أيزنهاور، الذى أصبح فيما بعد رئيسا للولايات المتحدة، وقتها تم تحديد أربع فئات هى: فئة المسئولين الكبار عن المرحلة وجرائمها، ثم فئة الضالعين فى الجرائم والمستفيدين من العهد البائد، الأقل ضلوعا فى تلك الجرائم والمتسترين عليهم أو الضالين، ثم التابعين أو المتعاطفين.
وبدأت عملية تطهير شاملة، كان على الجميع فيها إبراء ذمتهم من هذا النظام. وكان السوفييت فى نفس تشدد الأميركان مع النازية، وتعاملوا بصرامة مع الفئات الأربع كلها. لكن الفرنسيين والإنجليز كانوا أكثر حصافة فى موقفهم من عملية استئصال النازية، إذ قصروا الأمر على الفئة الأولى وحدها من بين الفئات الأمريكية الأربع.
وبدأ التطهير بكل المنتمين إلى الحزب، «الحزب الوطنى» وحرمان كل أعضائه من أى ممارسة سياسية. ولم يكتف أيزنهاور بإلغاء الحزب، ولكنه عمد إلى استئصال أيديولوجيته وأخلاقياته وممارساته غير الديمقراطية من شتى مناحى الحياة. فلم يكن همّ أيزنهاور استئصال فلول النازية القديمة فحسب، وإنما الأفكار النازية نفسها من الرءوس الألمانية. وبذلك أجبر كل بالغ على أن يملأ استمارة تدعى Fragebogen، وهى استبيان ملزم قانونيا يقدم فيها بيانات عن ماضية وتفاصيل عن مختلف خدماته للنظام النازى أو حتى اتصالاته به وبحزبه وبأى من رموزه.
وشكل مجموعة كانت منوطة بإزالة آثار المرحلة من شعارات وأفكار ورموز من جغرافيا ألمانيا ووثائقها، كما كانت هناك مجموعة خاصة بجمع الأدلة على ما ارتكب أثناء هذه المرحلة من جرائم فى حق الأشخاص أو فى حق الوطن معا، وتزويد المحققين بها. وما أن مر عام على ذلك حتى كان هناك 900 ألف ألمانى فى معسكرات الاعتقال، ومليونين ممنوعين من العمل فى أى مجال ما عدا مجالات العمل اليدوى، وهذا العدد ثلاثة ملايين تقريبا هو من 80 مليون ألمانى وقتها، وهو أقل من تعداد الشعب المصرى الراهن.
وبموازاة الاستئصال والتطهير، كانت هناك عملية التثقيف وإعداد المجتمع لممارسات مختلفة، وتصورات مغايرة كلية عن دور المواطن وحقوقه ومسئولياته. وفى هذا المجال كان لإصدار مجلة (النداء Der Ruf) عام 1945 والتى حررها هانز فارنر ريشتر Hans Werner Richter وكانت تستهدف طرح رؤية الجيل الجديد من الشباب، دور أساسى فى إعادة تثقيف الألمان حول ماهية الديمقراطية الحقيقية وتغيير عقلية الوطن والمواطن معا.
وبعد وضع الدستور الألمانى الجديد، وانتخاب كونراد إديناور كمستشار لألمانيا الاتحادية، بدأت سياسة جديدة، أنهت التعنت الأمريكى وصفحت عن ما يقرب من ثمانمائة ألف مصنف سابق بالنازية. ووضعت ألمانيا على الطريق، الذى حقق المعجزة الألمانية.
والواقع أننى وطوال سنوات عملى الطويلة فى الغرب، لم ألتق ألمانيا أو ألمانية إلا ولمست فيه وفيها أثر هذا الإحساس الجمعى بالمسئولية عما جرى فى تلك الفترة العصيبة والكريهة من تارخهم الحديث، وبالتصميم على ألا يحدث هذا لألمانيا مرة أخرى. وهذا ما أعنيه بالدرس الألمانى، وبضرورة تجذير الوعى فى كل مصرى، بالمسئولية عما جرى فى تلك الفترة المظلمة من تاريخ مصر، فترة مبارك المخلوع، والتصميم على ألا تتكرر. فكيف نحقق ذلك: هذا ما سنتابعه فى المقال التالى.