|
|
الزمن تجمد لدى المصريين عند 6 أكتوبر |
| |
القاهرة - مرت هذا الأسبوع الذكرى الـ42 لحرب العبور (6 أكتوبر 1973)؛ وككلّ سنة، قامت الفضائيات العربية بواجبها “الوطني”، فأخرجت من أدراج أرشيفها مجموعة الأغاني الوطنية التي تعرض في كل مناسبة مماثلة، وبضعة أفلام تحدّثت عن حرب أكتوبر، وهي أعمال اكتشف الجمهور، بعد أن فقدت بريقها الذي رافقها إبان صدورها حيث الشعوب العربية منتشية بفرحة الانتصار بعد هزيمة 67، أنها خدعة و”صدى حرب لا صوت الحرب”.
“الوفاء العظيم”، “الرصاصة لا تزال في جيبي”، “حتى آخر العمر”، “قم يا مصري”، “يا حبيبتي يا مصر”، “فدائي”، نشيد “الله أكبر”… وغيرها كثير من الأعمال الفنية التي تجمّد عندها زمن الإبداع الفني والعسكري المصري، بل والعربي عموما، والذي يتجاوز الجانب السياسي ليطال أيضا الجانب الديني، فهو بدوره ليس أفضل حالا؛ ففي الوقت الذي تغزو فيه أفلام داعش الهوليودية الشبكة العنكبوتية، توقّف التاريخ الإسلامي عند الفنانين العرب عند أفلام “الرسالة” و“رابعة العدوية” و“واسلاماه”؛ ليلحق بها مسلسل “الفاروق” الذي أنتج منذ حوالي ست سنوات، وأصبح بدوره جزءا من منظومة الأعمال التي تجترها كل الفضائيات العربية، دون استثناء، في كل مناسبة دينية.
إن دلّ هذا التكرار الجامد على شيء فهو يدلّ فعلا على الميل العربي لتمجيد الماضي، والثقافة العربية من أكثر الثقافات وقوفا على الأطلال واحتفاء بالأمجاد الغابرة والأيام الخوالي. وإذا كانت الفنون هي المرآة التي تعكس تطور الشعوب والتغيرات التي تطرأ عليها والفكر الذي تعبر عنه، فإن الفن العربي يجسد بحق حقيقة الأوضاع العربية.
مظاهر كثيرة جعلت الفنون العربية تنضم إلى جدول الهزائم الأخرى التي يعيشها العالم العربي وسط معركة الحداثة وفي زمن خرج عن المألوف حتى في طرق صناعة الفن وتذوقه؛ وبينما حوّلته تركيا وإيران، إلى سلاح قومي، فإنه، على المستوى العربي، استقال من دوره الوطني منذ زمن.
من 6 أكتوبر 1973 إلى 6 أكتوبر 2015، تغيّرت أحوال كثيرة في مصر والعالم العربي، وانقلبت الأوضاع وكثرت الهزائم، لكن يبدو أن الزمن تجمّد لدى المصريين عند تلك الانتصارات التي اعتبرها العرب من المحيط إلى الخليج أحد أغرّ أيامهم في التاريخ الحديث، لكن لم تنصفها حتى الأعمال التي أنتجت في ذلك الوقت.
"الوفاء العظيم".. من الأعمال الفنية التي تجمّد عندها زمن الإبداع الفني والعسكري المصري
ولولا أهمية الفن، وخصوصا الفن السابع، الذي أسر العقول وأبهر العالم واستطاع تمرير الكثير من المفاهيم والقيم لما سيطر رأس المال اليهودي على صناعة السينما والإعلام في العالم. وما تغييب حرب أكتوبر المقصود عن الأعمال الإسرائيلية إلا أكبر دليل على أهمية السينما والفنون في كشف الحقائق، فالإسرائيليون الذين أنتجوا العشرات من الأفلام عن حرب 67 واخترعوا عديد القصص السينمائية عن بطولاتهم الوهمية، لا يكاد يذكر لهم عمل واحد عن حرب أكتوبر التي ثأرت في ستّ ساعات لهزيمة حرب الأيام الستة.
إثر حرب 1967 التي مني فيها العرب بهزيمة مذلّة ظهرت مجموعة من الأفلام الإسرائيلية التي صوّرت بطولات وهمية أسطورية عن “جيش إسرائيل الذي لا يقهر”، أما الغنانون العرب، فماذا قدّموا لأبطالهم غير قصص الحب الخيالية التي تم تركيبها على انتصارات الحرب؟
ماذا كان الردّ العربي، فنا وإعلاما، على صيف لبنان 2006 وشتاء غزة 2009، وما هو الردّ اليوم على العراق الذي دُمّر وسوريا التي “شيّعت” واليمن الذي أحيا العزيمة العسكرية العربية مرة أخرى عبر عاصفة الحزم، لكن لوم تواكبه عزيمة فنية.
ما ردّ الفن والإعلام العربي على انتشار الفكر المتشدّد وثقافة والتكفير، وما الردّ العربي المماثل على الأفلام الإيرانية والأعمال التركية التي تتناول التاريخ الإسلامي المشترك من زاويتها؛ غير الصراخ والكلام الخالي من التأثير، في منابر إعلامية لكلّ منها أجندتها.
الجيش الإيراني كسر القاعدة، مؤخّرا، ولجأ إلى ما يصفه رجال الدين المتنفّذون في إيران، إلى “الفنون الشريرة” ليروّجوا للاتفاق النووي مع الولايات المتحدة، حين قرّر الاستعانة بمغني راب مثير للجدل ليقدم أغنية حمّلت عنوان “الطاقة النووية”.
قد لا يضر العرب ما فعله الجيش الإيراني إذا كان الجمهور المستهدف هو الشباب الإيراني، لكن يضرّهم كثيرا ويتحول الأمر إلى مساس بالأمن القومي، حين تجنّد إيران وتركيا ميزانيات ضخمة وأسطولا إعلاميا يفوق الخيال لتقديم مادة خاصة موجّهة أساسا للمشاهد العربي. ويضرّهم أكثر أن يصدر فنان إيراني، في مثل هذا الوقت والأحداث التي تموج بها المنطقة، أغنية، تعكس بشكل كبير بواطن السياسية الإيرانية، حين يكون عنوانها “اقتل عربيا”، وتحقق نسب مشاهدة عالية وتأييدا شعبيا داخليا كبيرا.
وظفت السياسة الإيرانية كثيرا الفن، في اتجاهين، اتجاه طائفي موجّه للشيعة الإيرانيين والعرب، واتجاه موجّه للعرب السنّة، الذين أعجبوا بمسلسل يوسف الصدّيق لدرجة أنهم تناسوا القصة الأصلية كما ذكرها القرآن وأصبحوا يتّخذون المسلسل الإيراني مرجعا.
|
|
لميس جابر: حقبة الستينات لم تكن حافلة بالريادة، كما يتصور البعض |
| |
وفي خطوة استفزازية جديدة، وبعد أيام قليلة من صدور أغنية “اقتل عربيا” الطائفية، جاء الحديث عن الفيلم الإيراني الجديد “محمّد رسول الله” الذي يجسد لأول مرة شخصية الرسول الأكرم، للمخرج مجيد مجيدي؛ في خطوة أكّد خبراء أنها لا تنفصل عن الصراع بين السعودية وإيران.
والمتابع لسير الدراما التركية، على الساحة العربية، يلحظ تمشّيا خطيرا ومتسلسلا بدأ بالتأثير الاجتماعي ليصل في الأخير إلى الهدف السياسي الأساسي؛ فـ“مهنّد” التركي حين عزا الشاشة العربية أشعل نيران فتنة اجتماعية خطيرة، ووصلت إلى حد تسجيل نسب طلاق عالية، استنفرت في العالم العربي محاكم الأسرة ومراكز اجتماعية ونفسية.
وبعد النجاح الساحق الذي حققه أول مسلسل تركي، يعرض بدبلجة عربية، توالت العشرات من الأعمال الفنية التركية، ثم جاء دور الفضائية الناطقة بالعربية، (وقد سارت أيضا إيران على نفس الدرب)، لتعبّد الطريق أمام رجب طيب أردوغان ليحوّل دفة تركيا نحو الماضي الإسلامي بعد أن انقطعت بها السبل نحو اكتساب الهوية الأوروبية. وكانت مجلة فورين بوليسي الأميركية ذكرت أن الدراما التركية أثبتت أن كسب قلوب من يعيش في العالم الإسلامي ليست مهمة مستحيلة.
تراجع الفن المصري
تقول إحدى وثائق “ويكيليكس” إن تأثير المسلسلات الأميركية، التي تعرضها الفضائيات العربية، كان أنجع في ترسيخ الثقافة الغربية من مئات ملايين الدولارات التي أنفقت على دعايات وحملات لهذا الغرض.
ما جاء في الوثيقة يعكس بشكل كبير الدور الخطير الذي بات يلعبه الفن والإعلام اليوم في حرب الهيمنة والسيادة؛ بل إن بعض المختصين صنّفوا هذا السلاح ضمن أسلحة الدمار الشامل، الذي يشكل اتجاها قويا لخدمة بعض الحروب السياسية والعسكرية وخطورته تأتي من كونه قوّة ناعمة، تتسلّل بصمت لتنفّد الأجندات الاستراتيجية القومية.
والعالم العربي ليس بمعزل عن هذه التجربة، حيث لعب الفن على وتر السياسة، وأبرز مثال يطرح عند الحديث عن شراكة الفن والسياسة جمال عبدالناصر الذي استعان بالفن للمساهمة في نشر الانتمائية القومية عندما طلب من أم كلثوم وعبدالحليم وكبار فناني الخمسينات والستينات أن ويحفزوا الشعب من خلال تقديم الأغاني الحماسية وتمجيد ثورة يوليو ثم حرب أكتوبر.
ولم يختلف الأمر كثيرا، في الأقطار العربية الأخرى، خصوصا في لبنان وسوريا، حيث لم ينفصل الفن عن السياسة وكانت أغاني الرحابنة وأعمال محمد الماغوط وغيرهما كثر، تواكب وتنقد وتؤثّر وتقلب الموازين.
تأثير المسلسلات الأميركية، التي تعرضها الفضائيات العربية، كان أنجع في ترسيخ الثقافة الغربية من مئات ملايين الدولارات أنفقت على دعايات لهذا الغرض
لكن، عندما غابت الانتصارات العسكرية غاب الإبداع الفني وانتكس على مستوى الجوهر والقيمة، لدرجة أنه عجز، عن مواكبة التطورات السياسية الراهنة. ليتأكّد ما يذهب إليه الخبراء والناقدون الفنيون العرب حين قالوا إن أزمة الفن العربي ليس قضاء وقدرا بل محنة من صنع أيدينا، وحيث لا فن حقيقي فلا حياة، فهل هناك أمل بعودة الفن والحياة للعالم العربي؟
بعض المختصين، أجابوا “العرب” عن هذا السؤال قائلين إن هناك رغبة في النهوض بالفن، لكن المشكلة أن الأدوات غير ناضجة، وأن مرحلة التجريف التي عصفت بمصر على مدار الأربعين عاما الماضية، لا تزال آثارها باقية حتى الآن، ناهيك عن أن العاملين بالحقل الفني، لا تتوافر عندهم الرغبة الصادقة في القيام بدور يخدم الفن المصري، لأن مصالحهم الشخصية تبدو طاغية.
في هذا السياق، قال الناقد أحمد يوسف لـ“العرب” إن أوضاع الفن حاليا تعكس الفقر في أمور عديدة، مثل عدم وجود البنية التحتة التي تمثل دورا مهما في الصناعة والرغبة السياسية في استنهاض الهمم الفنية. وهناك جزء خاص بالإبداع، فمع الأسف معظم العاملين في الحقل الفني يعيشون في دائرة مغلقة، معتقدين أنهم يقدمون أفضل ما لديهم، فهم لا يتطلعون إلى ما يحدث في العالم من طفرات كبيرة.
وأكد يوسف أن مصر بحاجة لأدوات علمية لدراسة الأزمة الفنية، فهل يعقل أن نظل نطلق لفظ “أزمة” على صناعة السينما، وهناك الكثير من الدول التي كانت تعيش أوضاعنا منذ فترة قريبة، لكن استعادت قوتها، مثل البرازيل، التي كانت تنتج في العام ثلاثة أو أربعة أفلام، وصلت حاليا إلى مئة فيلم في العام الواحد؟
بدروه، يؤكّد الفنان التشكيلي العراقي عقيل خريف إلى أن الفنان يلعب دورا مهما في كل المجتمعات التي تمر بصراعات وحروب؛ ويضيف قائلا لـ”العرب” إن “الوضع في العراق أشبه بالمياه الآسنة وعلى الجميع أن يضع حجرا قرب حجر لكي نعبر على الضفة الثانية، فالطبيب يضع حجرا والعامل يضع حجرا والمعلم يضع حجرا والفنان له الحجر الأكبر، فالأمم المتقدمة تقاس بمبدعيها”.
مصر بحاجة لأدوات علمية لدراسة الأزمة الفنية، فهل يعقل أن نظل نطلق لفظ "أزمة" على صناعة السينما
دور الحكومة
الكاتبة لميس جابر، التي تقف موقفا سلبيا من فترة حكم الرئيس عبدالناصر، قالت لـ”العرب” إن حقبة الستينات لم تكن حافلة بالريادة، كما يتصور البعض، وأن صدى التنوير الثقافي الذي عاشته مصر في مرحلة الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، ظهرت نتائجه بعدها بعشر سنوات، ولم تكن (في تقديرها) هناك حرية رأي خلال هذه المرحلة، حتى أن أفلاما بعينها (فيلم شيء من الخوف) منعت حتى يراها الرئيس جمال عبدالناصر. وقالت جابر إنها تتوقع حدوث طفرة في المجال الإعلامي المصري خلال الفترة المقبلة، كإنشاء محطة فضائية إخبارية قوية، الأمر الذي يعتبر أكثر أهمية من الدراما.
بدوره، أكد بشير الديك، الكاتب والسيناريست لـ”العرب” أن الفن المصري مخلص على الدوام لقضايا وطنه بنسبة كبيرة، لاسيما في أوقات المحن والأزمات، لكن الحكومة عندما تخلت عن دورها في الإنتاج، أصبح الأمر في قبضة القطاع الخاص، الذي يهدف بالأساس إلى الربح.
وأوضح الديك أن الانهيار الكبير بدأ عام 1974 عندما بدأ الرئيس الراحل أنور السادات تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي، التي أطاحت بكثير من القيم الأدبية والفنية.
ولا يخالف رأي المخرج محمد فاضل ما سبق، حيث قال إن “الخطابات السياسية ليست الحل”، مشيرا إلى أن الدولة المصرية ليس لديها مستشار ثقافي على سبيل المثال، رغم أن صناعة السينما والدراما مربحة كثيراً ولها أهمية كبرى، ودورها في حكم الأدوار الإستراتيجية، التي لا غنى عنها لأي بلد طامح للصعود. وتساءل المخرج الكبير عن عدم استثمار مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي الذي أقيم في مارس الماضي في الدفع بعجلة الإنتاج فنيا.
وأشار إلى أنه توقع حدوث انتفاضة شاملة على مستوى الثقافة والفن والإعلام خلال الفترة الماضية، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، منوها إلى أن ريادة مصر في الستينات، صاحبتها خطوات عملية، مثل إنشاء المعاهد الفنية، وقصور الثقافة، وإصدار الدولة لكتب عن روائع المسرح العالمي، مع تأسيس الكثير من الفرق المسرحية، بين العالمي والكوميدي والتراجيدي، وإرسال البعثات للدول الأوروبية، وهذه أولى خطوات النهضة الفنية، فالكلام وحده لن يجدي ما لم يكن مصحوبا بتصرفات فنية حقيقية على الأرض. لذلك إذا “كنا مدافعين فاشلين عن القضية، فالأجدر بنا أن نغيّر المدافعين، لا أن نغيّر القضية”، مثلما قال غسان كنفاني.
|