“الذكورات المنبوذة”، مفهوم جديد أو هكذا يُفترض، عملت الأستاذة رجاء بن سلامة على نحته واقتراحه كأرضية للنقاش في إحدى المناسبات الثقافية. لعله كشف مثير ومميّز. لكن المفاهيم تحتاج لبعض الوقت قبل أن تحمل أوجها معلومة. فما هي الأوجه التي قد يحتملها هذا المفهوم؟
لعل زوايا النظر المتاحة متباعدة، ونماذج الأجوبة الممكنة متعددة، وواضح في الأخير أننا أمام مفهوم يندرج ضمن مجال اللاّمفكر فيه. فحين نتكلم عن المرأة فإننا نتكلم عن موضوع مفكر فيه أدبيا أوّلا، ثم سياسيا في التالي، والباقي معارك حقوقية وقانونية وثقافية وتربوية.
حين نتكلم عن المثلية الجنسية فإننا نتكلم عن موضوع مفكر فيه أيضا، أدبيا في الأول، ثم سياسيا في التالي. لكن التفكير في الهوامش المنسية، الهوامش اللامفكر فيها، فإن هذا هو المعنى الأصيل لفعل التفكير.
كيف نقارب هذا المفهوم الجديد؟ كنت أفكر في بعض النماذج التي قد تضيء الموضوع، فإذا بي أصادف حالة معبرة.
في طريق وعر وسط الجبال والأدغال، كان الصباح باكرا، وكنت أخوض مغامرة التسكع بمفردي وسط صقيع برد قارس يلسع جلدي. وما إن بلغت منحدر إحدى الشعاب حتى كنت قد لحقتُ برجل هرم يجرّ خطواته المثقلة مستعينا بعصا غليظة.
وبعد تبادل السلام سألني عن ضريح ولي في إحدى القرى المجاورة. ومن خلال الكلام فهمت بأنه غريب عن المنطقة. ثم سألته عن مقصوده، فكانت الإجابة حكاية تستحق أن تروى: كان هائما على وجه الأرض بحثا عن زوجته التي غادرت المنزل قبل نحو عامين بعد أن أصيبت بمرض عقلي، وهو يلحق أثرها عند أضرحة الأولياء، لا يبلغ مزارا إلا ويخبروه بأن امرأة بالمواصفات المذكورة كانت هناك قبل أسابيع أو أيام.
أشفقت لحاله، فقلت له: عامان من الترحال وأنت فقير الحال، هذا يكفي الآن لكي تعود إلى بيتك. أجابني قائلا: في كل مرة أوشك فيها على العود إلى البيت أفكر فيها تمشي حافية القدمين، أفكر فيها تقتات الفضلات، أفكر فيها بلا سقف يأويها خلال أيام البرد القارس، فيتقطع قلبي ألما وأواصل الطريق، لا لن أعود دونها حتى ولو أفنيت عمري بحثا عنها.
قلت له: وإذا عثرت عليها في أحد الأضرحة ثم رفضت العودة معك إما بسبب مزاجها وإما بسبب مرضها فماذا ستفعل؟
أجابني: سأمكث معها حيث تمكث؛ لا أستطيع أن أتركها، فوالله لو كان عقلها سليما لتركتها لاختيارها، أما وأنها في هذه الحالة فلن أستطيع أن أتركها. ثم ودّعني وانصرف. ناديته: لحظة سيدي ألا تحتاج لمساعدة؟ أجابني: دعواتك تكفي. تلعثمت دون أن أعرف ما أقول له. ولعلي أردت أن أقول له: هذه هي “الرجولة” يا سيدي، لكنها ليست بالمعايير السائدة.
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق