بقلم : فهمى هويدى
ضاق الناس ذرعا بجرأة اللصوص والفتوات وأرباب السوابق، الذين باتوا يرهبونهم ويعتدون على ممتلكاتهم جهارا نهارا، وهم مطمئنون إلى أن الشرطة «صائمة» عن الشغل.
ذهبوا إلى قسم شرطة مصر الجديدة فصارحوهم قائلين:
في الوقت الراهن لن نشتبك مع أحد في الشارع، خصوصا أولئك النفر من البلطجية.
وإذا أردتم نصيحة مخلصة فلا حل سوى أن تتولوا أنتم الأمر بأنفسكم، فتلقوا القبض عليهم وتحتجزوهم، ثم تبلغونا بما فعلتم، وحينئذ سنسارع إليكم لنقوم بما علينا بعد ذلك.
لم يكذب السكان خبرا، ولم يكن أمامهم خيار أمام ذلك الاعتراف من جانب الشرطة. ففعلوها ونظموا «مقاومة مدنية» من بينهم، وحين نجحوا في التصدي لواحد من البلطجية واحتجازه، فإن ذلك شجعهم على استكمال المهمة مع ثان وثالث ورابع حتى العاشر.
وانتبهوا إلى أن البلطجية ليسوا بالقوة التي يصورونها للناس، وإن بعضهم يملك من «البجاحة» وعلو الصوت وبذاءة اللسان أكثر مما يملك من العضلات والعافية. تماما كما أنهم أدركوا أنهم ليسوا ضعفاء حقا ولكنهم متقاعسون ومستضعفون، وقد صاروا أقوى وأكثر منعة حين تكاتفوا وضموا سواعدهم إلى جانب بعضها البعض.
في أقل من أسبوع كان قد تم تطهير الحي من البلطجية، ولم يعد يجرؤ أحد منهم على الاقتراب منه، فقد أوفت الشرطة بما وعدت. ونقلت بسياراتها الذين تم احتجازهم بواسطة السكان. وعرف القاصي والداني أن في الحي رجالا وشبابا يذودون عنه، وأن من دخله قاصدا شرا لن يخرج منه آمنا. حيث هناك من ينتظره لكي يوقع به، ثم يسلمه بعد ذلك إلى من هو أقدر على التعامل معه.
القصة حقيقية وتفاصيلها عندي، وقد اهتممت بها لسببين أحدهما موضوعي والآخر شخصي.
في الشق الموضوعي أسجل ثلاث ملاحظات هى:
أن الشرطة باتت أكثر حذرا ــ أكثر سلبية إن شئت الدقة ــ في التعامل مع المجتمع.
وأن السمعة السيئة التي لاحقتها طوال الأشهر الأخيرة دفعت كثيرين من الضباط إلى إيثار السلامة والبقاء في مكاتبهم، حتى لا يتعرضوا للأذى أو الإهانة إذا خرجوا إلى الشارع.
أدري أن البعض فعلها عامدا إما خوفا من انتقام الناس وإما لتأديبهم وإقناعهم بأنهم بدون الشرطة فلا راحة لهم ولا أمان.
ولا أستبعد أن يحاول بعض «الفلول» من قياداتهم إقناع الرأي العام بأن عصر مبارك كان أفضل، وأن غيابه هو الذي تسبب في الفوضى والانفلات الأمني.
لكني أزعم أن نسبة الأولين أكبر وأن الذين باتوا يؤثرون السلامة وأن الآخرين يمثلون النسبة الأقل التي تتراجع كل حين.
< أن حذر الشرطة وسلبيتها زاد من جرأة الناس عليها، وأغرى البلطجية وأرباب السوابق بأن يتغولوا في المجتمع ويأخذوا «راحتهم» في ممارسة أنشطتهم المختلفة.
أصبح ضابط الشرطة يتصرف وكأن على رأسه «بطحة» يريد إخفاءها وأنه ارتكب ذنبا يجب أن يكفر عنه.
وإذا كان الناس العاديون قد أصبحوا ساخطين على الشرطة، ومستعدين للانفجار في وجه أي واحد منهم لأي سبب، حتى إذا كان تحرير مخالفة مرورية، فلك أن تتصور موقف البلطجية الذين أقنعهم الفلتان الأمني بأن أيديهم باتت مطلقة في الإتيان بما يشاءون من أفعال.
< أن الأغلبية الساحقة من الناس لا يزالون عند سلبيتهم. بحيث باتوا غير مستعدين للتحرك، حتى إذا كان ذلك لأجل الدفاع عن أنفسهم، إلا إذا طلب منهم ذلك أو اضطروا إليه.
ذلك أن ثقافة المجتمع التابع وليس المشارك أو المبادر لا تزال مهيمنة.
وفي القصة التي نحن بصددها فإن شعور الناس بالخطر لم يكن كافيا لتحركهم، ولكن إدراكهم أن الشرطة لن تغيثهم إلا إذا تقدموا هم وبادروا إلى الدفاع عن أنفسهم، هو الذي شجعهم على الانتقال من الموقف السلبي إلى الإيجابي، ومن حالة الاستكانة أمام البلطجية إلى التصدي لهم وإيقافهم عند حدهم.
ذلك يقودني إلى الجانب الشخصي في القصة، وهو أنني أسكن في حي آخر بمصر الجديدة، يعيث فيه اللصوص والبلطجية فسادا في النهار، وينتشر على نواصيه جيش من الشباب والفتيات الذين يعانون من الفراغ والضياع إلى ما بعد منتصف الليل. فيعبثون ويلهون، وأحيانا يتعاركون ويتراشقون بالألفاظ البذيئة والأسلحة البيضاء.
كل ذلك يحدث والشرطة غائبة والناس يتفرجون عليهم من وراء زجاج النوافذ وعبر الشرفات الغارقة في الظلام،
ولم أجد وسيلة لحثهم ــ هم وغيرهم ــ على التخلي عن السلبية والمبادرة إلى تنظيم لجان الدفاع المدني ضد غارات البلطجية واستهتار العاطلين العابثين سوى أن أوجه إليهم النداء من هذا المكان مذكرا بأنه ليس بإحكام «ترابيس» الأبواب وتغليظ الأقفال وحده يأمن الإنسان، وإلى أن تستعيد الشرطة دورها وتثبت حضورها ستظل المقاومة المدنية هي الحل.
ضاق الناس ذرعا بجرأة اللصوص والفتوات وأرباب السوابق، الذين باتوا يرهبونهم ويعتدون على ممتلكاتهم جهارا نهارا، وهم مطمئنون إلى أن الشرطة «صائمة» عن الشغل.
ذهبوا إلى قسم شرطة مصر الجديدة فصارحوهم قائلين:
في الوقت الراهن لن نشتبك مع أحد في الشارع، خصوصا أولئك النفر من البلطجية.
وإذا أردتم نصيحة مخلصة فلا حل سوى أن تتولوا أنتم الأمر بأنفسكم، فتلقوا القبض عليهم وتحتجزوهم، ثم تبلغونا بما فعلتم، وحينئذ سنسارع إليكم لنقوم بما علينا بعد ذلك.
لم يكذب السكان خبرا، ولم يكن أمامهم خيار أمام ذلك الاعتراف من جانب الشرطة. ففعلوها ونظموا «مقاومة مدنية» من بينهم، وحين نجحوا في التصدي لواحد من البلطجية واحتجازه، فإن ذلك شجعهم على استكمال المهمة مع ثان وثالث ورابع حتى العاشر.
وانتبهوا إلى أن البلطجية ليسوا بالقوة التي يصورونها للناس، وإن بعضهم يملك من «البجاحة» وعلو الصوت وبذاءة اللسان أكثر مما يملك من العضلات والعافية. تماما كما أنهم أدركوا أنهم ليسوا ضعفاء حقا ولكنهم متقاعسون ومستضعفون، وقد صاروا أقوى وأكثر منعة حين تكاتفوا وضموا سواعدهم إلى جانب بعضها البعض.
في أقل من أسبوع كان قد تم تطهير الحي من البلطجية، ولم يعد يجرؤ أحد منهم على الاقتراب منه، فقد أوفت الشرطة بما وعدت. ونقلت بسياراتها الذين تم احتجازهم بواسطة السكان. وعرف القاصي والداني أن في الحي رجالا وشبابا يذودون عنه، وأن من دخله قاصدا شرا لن يخرج منه آمنا. حيث هناك من ينتظره لكي يوقع به، ثم يسلمه بعد ذلك إلى من هو أقدر على التعامل معه.
القصة حقيقية وتفاصيلها عندي، وقد اهتممت بها لسببين أحدهما موضوعي والآخر شخصي.
في الشق الموضوعي أسجل ثلاث ملاحظات هى:
أن الشرطة باتت أكثر حذرا ــ أكثر سلبية إن شئت الدقة ــ في التعامل مع المجتمع.
وأن السمعة السيئة التي لاحقتها طوال الأشهر الأخيرة دفعت كثيرين من الضباط إلى إيثار السلامة والبقاء في مكاتبهم، حتى لا يتعرضوا للأذى أو الإهانة إذا خرجوا إلى الشارع.
أدري أن البعض فعلها عامدا إما خوفا من انتقام الناس وإما لتأديبهم وإقناعهم بأنهم بدون الشرطة فلا راحة لهم ولا أمان.
ولا أستبعد أن يحاول بعض «الفلول» من قياداتهم إقناع الرأي العام بأن عصر مبارك كان أفضل، وأن غيابه هو الذي تسبب في الفوضى والانفلات الأمني.
لكني أزعم أن نسبة الأولين أكبر وأن الذين باتوا يؤثرون السلامة وأن الآخرين يمثلون النسبة الأقل التي تتراجع كل حين.
< أن حذر الشرطة وسلبيتها زاد من جرأة الناس عليها، وأغرى البلطجية وأرباب السوابق بأن يتغولوا في المجتمع ويأخذوا «راحتهم» في ممارسة أنشطتهم المختلفة.
أصبح ضابط الشرطة يتصرف وكأن على رأسه «بطحة» يريد إخفاءها وأنه ارتكب ذنبا يجب أن يكفر عنه.
وإذا كان الناس العاديون قد أصبحوا ساخطين على الشرطة، ومستعدين للانفجار في وجه أي واحد منهم لأي سبب، حتى إذا كان تحرير مخالفة مرورية، فلك أن تتصور موقف البلطجية الذين أقنعهم الفلتان الأمني بأن أيديهم باتت مطلقة في الإتيان بما يشاءون من أفعال.
< أن الأغلبية الساحقة من الناس لا يزالون عند سلبيتهم. بحيث باتوا غير مستعدين للتحرك، حتى إذا كان ذلك لأجل الدفاع عن أنفسهم، إلا إذا طلب منهم ذلك أو اضطروا إليه.
ذلك أن ثقافة المجتمع التابع وليس المشارك أو المبادر لا تزال مهيمنة.
وفي القصة التي نحن بصددها فإن شعور الناس بالخطر لم يكن كافيا لتحركهم، ولكن إدراكهم أن الشرطة لن تغيثهم إلا إذا تقدموا هم وبادروا إلى الدفاع عن أنفسهم، هو الذي شجعهم على الانتقال من الموقف السلبي إلى الإيجابي، ومن حالة الاستكانة أمام البلطجية إلى التصدي لهم وإيقافهم عند حدهم.
ذلك يقودني إلى الجانب الشخصي في القصة، وهو أنني أسكن في حي آخر بمصر الجديدة، يعيث فيه اللصوص والبلطجية فسادا في النهار، وينتشر على نواصيه جيش من الشباب والفتيات الذين يعانون من الفراغ والضياع إلى ما بعد منتصف الليل. فيعبثون ويلهون، وأحيانا يتعاركون ويتراشقون بالألفاظ البذيئة والأسلحة البيضاء.
كل ذلك يحدث والشرطة غائبة والناس يتفرجون عليهم من وراء زجاج النوافذ وعبر الشرفات الغارقة في الظلام،
ولم أجد وسيلة لحثهم ــ هم وغيرهم ــ على التخلي عن السلبية والمبادرة إلى تنظيم لجان الدفاع المدني ضد غارات البلطجية واستهتار العاطلين العابثين سوى أن أوجه إليهم النداء من هذا المكان مذكرا بأنه ليس بإحكام «ترابيس» الأبواب وتغليظ الأقفال وحده يأمن الإنسان، وإلى أن تستعيد الشرطة دورها وتثبت حضورها ستظل المقاومة المدنية هي الحل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق