مصر على طريق.. الهند أم باكستان؟
نشر فى :الإثنين 17 ديسمبر 2012 - 8:35 ص
آخر تحديث :الإثنين 17 ديسمبر 2012 - 8:35 ص
آخر تحديث :الإثنين 17 ديسمبر 2012 - 8:35 ص
أود أن أتناول أوضاع مصر اليوم، لكن هناك خبرا صغيرا ربما يكون فاتكم. فمنذ ثلاثة أسابيع مضت، عين رئيس وزراء الهند، سيد آصف إبراهيم مديرا لمكتب المخابرات الهندية (وكالة المخابرات الداخلية).
وإبراهيم رجل مسلم. والهند غالبيتها من الهندوس، لكنها أيضا ثالث أكبر بلد إسلامى. ويأتى أكبر تهديد لأمن الهند اليوم من جانب المتطرفين المسلمين. وتعيين الهند مسلما لرئاسة المخابرات لهو صفقة كبيرة جدا. لكنه يشكل أيضا جانبا من تطور تمكين الأقليات. ورئيس وزراء الهند ورئيس أركان جيشها اليوم من السيخ، ووزير خارجيتها ورئيس محكمتها العليا من المسلمين. وهذا أشبه بأن تعين مصر رئيس أركان لجيشها مسيحيا قبطيا.
ستقول: «هذا غير معقول».
حسنا، نعم، هذا غير حادث الآن. لكن إذا ظل الحال كذلك خلال عقد أو عقدين، فسندرك ساعتها أن الديمقراطية فى مصر قد فشلت. سندرك أن مصر سارت على طريق باكستان وليس الهند. أى أنها بدلا من أن تصبح بلدا ديمقراطيا تتفجر فيه أقصى طاقات المواطنين، أصبحت بلدا إسلاميا يتساند فيه الجيش والإخوان المسلمين ليتمكنا من الاستمرار فى الحكم بينما يتحول «الشعب» مجددا إلى جمهور من المتفرجين. وسواء اختارت مصر طريقا أقرب إلى باكستان أو الهند، فسيكون لذلك أثره على مستقبل الديمقراطية فى العالم العربى ككل.
ومن المؤكد أن الهند لا زالت تعانى مشاكل فى الحوكمة ولا يزال مسلموها يعانون التمييز. إلا أن «الديمقراطية مهمة»، كما يقول تفيل أحمد، الهندى المسلم، الذى يدير مشروع دراسات جنوب آسيا بمعهد أبحاث إعلام الشرق الأوسط؛ لأن «الديمقراطية فى الهند هى التى استطاعت، على مدى ستة عقود، إزاحة العوائق الأساسية، مثل الطبقة الاجتماعية والقبيلة والدين؛ لتفسح الطريق أمام القطاعات المختلفة من المجتمع للصعود حسب جدارتهم»، وهو ما حدث بالضبط فى حالة إبراهيم.
وقد عاشت مصر ستة عقود من الطغيان جعلت منها بلدا منقسما بشدة، حيث لا تعلم شرائح كبيرة شيئا عن بقية الشرائح أو تثق فيها، وحيث تشيع نظريات المؤامرة. وتحتاج مصر كلها اليوم أن تتوقف لوهلة وتفكر فى سؤال واحد: كيف وصلت الهند، وهى مستعمرة بريطانية أخرى، إلى ما صارت إليه (تنحية الثقافة الهندوسية جانبا)؟
الإجابة الأولى هى: الوقت. فالديمقراطية تعمل بنجاح فى الهند منذ عقود، بعد أن ناضلت فى سبيلها قبل الاستقلال. وعمر الديمقراطية فى مصر لم يبلغ العامين. فقد تجمد المجال السياسى لمصر واحتُكر على مدى عقود نفس العقود التى كان الزعماء السياسيون من المهاتما غاندى إلى جواهر لال نهرو إلى مانموهان سينج «يبنون نظاما بالغ التنوع والاختلاف، لكنه مرن ومتوافق بطريقة مؤثرة»، كما يقول خبير الديمقراطية بجامعة ستانفورد، لارى دياموند، مؤلف كتاب «روح الديمقراطية: النضال من أجل بناء مجتمعات حرة فى أرجاء العالم».
كما أن الحزب السياسى السائد فى الهند عندما أطاح بحاكمه الاستعمارى «ربما كان أكثر الأحزاب السياسية المطالبة بالاستقلال فى المستعمرات فى القرن العشرين من حيث تعدد الأعراق، والإيمان بالديمقراطية، ونعنى بذلك حزب المؤتمر الوطنى الهندى»، على حد قول دياموند. فى حين أن الحزب السائد عند الإطاحة بطغيان مبارك، أى الإخوان المسلمين، «هو حزب دينى لطائفة واحدة ذو جذور استبدادية عميقة اتجه مؤخرا فقط نحو الانفتاح والتعددية».
كما أن هناك فرق، كما يقول دياموند، بين فلسفة وخلفاء المهاتما غاندى وسيد قطب، النور الهادى للإخوان المسلمين. إذ يقول دياموند إن «نهرو لم يكن قديسا، لكنه حاول الحفاظ على روح التسامح والتوافق، واحترام القواعد». كما كان يثمن التعليم. وبالمقابل، كما يرى دياموند، «يبعد قادة الإخوان المتشددون، الذين يجلسون فى مقعد القيادة منذ بدأت مصر التحرك باتجاه الانتخابات، المعتدلين داخل التنظيم، ويستغلون سلطات الطوارئ، ويضربون خصومهم فى الشوارع، ويسعون الآن إلى التعجيل بإصدار دستور يفتقد إلى التوافق رغم أنف شرائح كبيرة من المجتمع المصرى التى تشعر بالاستبعاد والافتئات على حقوقها».
كما أن هناك الجيش. فعلى عكس الحال فى باكستان، أبعد زعماء الهند فى مرحلة ما بعد الاستقلال الجيش عن السياسة. وللأسف، أدخل جمال عبدالناصر، بعد انقلاب 1952، الجيش فى السياسة وحافظ كل خلفائه، حتى مبارك، على هذا الوضع واحتفظوا بمناصبهم بفضل الجيش وأجهزة المخابرات التابعة له. وما أن سقط مبارك، وأعاد قادة الإخوان الجدد الجيش إلى معسكراته، شعر جنرالات مصر بضرورة عقد صفقة تحمى شبكة المصالح الاقتصادية الضخمة التى بنوها. يقول دياموند إن «انتماءهم القوى للنظام القديم جعلهم خطرا على النظام الجديد. والآن لا يمكنهم العمل بعد تحديد نفوذهم».
نعم، الديمقراطية مهمة. لكن الإخوان المسلمين بحاجة لأن يدركوا أن الديمقراطية أكبر من أن تقاس بمجرد الفوز فى الانتخابات. إنها ترعى ثقافة التعدد والحوار السلمى، حيث يحظى القادة بالاحترام بمفاجأة المعارضين بالحلول الوسط وليس الإملاء. وقد قال عالم الاقتصاد الهندى الحائز على جائزة نوبل، امارتيا سن، إن تاريخ الهند المتحدر من الحوار والنقاش هو الذى أعدها لاستقبال المؤسسات الديمقراطية الرسمية.
وتحتاج مصر الآن، وأكثر من أى وقت مضى، إلى تبنى ثقافة الحوار، والنقاش السلمى المحترم والذى كان مقموعا تماما على عهد مبارك بدلا من إلقاء الحجارة، والمقاطعة، وترويج المؤامرات المزعومة وانتظار إدانة أمريكا لهذا الطرف أو ذاك، والذى ساد المشهد السياسى قبل الثورة. فالانتخابات بدون ثقافة مثل كمبيوتر بلا برامج. ولن تؤتى ثمارها.
نقلا عن صحيفة «نيويورك تايمز»
وإبراهيم رجل مسلم. والهند غالبيتها من الهندوس، لكنها أيضا ثالث أكبر بلد إسلامى. ويأتى أكبر تهديد لأمن الهند اليوم من جانب المتطرفين المسلمين. وتعيين الهند مسلما لرئاسة المخابرات لهو صفقة كبيرة جدا. لكنه يشكل أيضا جانبا من تطور تمكين الأقليات. ورئيس وزراء الهند ورئيس أركان جيشها اليوم من السيخ، ووزير خارجيتها ورئيس محكمتها العليا من المسلمين. وهذا أشبه بأن تعين مصر رئيس أركان لجيشها مسيحيا قبطيا.
ستقول: «هذا غير معقول».
حسنا، نعم، هذا غير حادث الآن. لكن إذا ظل الحال كذلك خلال عقد أو عقدين، فسندرك ساعتها أن الديمقراطية فى مصر قد فشلت. سندرك أن مصر سارت على طريق باكستان وليس الهند. أى أنها بدلا من أن تصبح بلدا ديمقراطيا تتفجر فيه أقصى طاقات المواطنين، أصبحت بلدا إسلاميا يتساند فيه الجيش والإخوان المسلمين ليتمكنا من الاستمرار فى الحكم بينما يتحول «الشعب» مجددا إلى جمهور من المتفرجين. وسواء اختارت مصر طريقا أقرب إلى باكستان أو الهند، فسيكون لذلك أثره على مستقبل الديمقراطية فى العالم العربى ككل.
ومن المؤكد أن الهند لا زالت تعانى مشاكل فى الحوكمة ولا يزال مسلموها يعانون التمييز. إلا أن «الديمقراطية مهمة»، كما يقول تفيل أحمد، الهندى المسلم، الذى يدير مشروع دراسات جنوب آسيا بمعهد أبحاث إعلام الشرق الأوسط؛ لأن «الديمقراطية فى الهند هى التى استطاعت، على مدى ستة عقود، إزاحة العوائق الأساسية، مثل الطبقة الاجتماعية والقبيلة والدين؛ لتفسح الطريق أمام القطاعات المختلفة من المجتمع للصعود حسب جدارتهم»، وهو ما حدث بالضبط فى حالة إبراهيم.
وقد عاشت مصر ستة عقود من الطغيان جعلت منها بلدا منقسما بشدة، حيث لا تعلم شرائح كبيرة شيئا عن بقية الشرائح أو تثق فيها، وحيث تشيع نظريات المؤامرة. وتحتاج مصر كلها اليوم أن تتوقف لوهلة وتفكر فى سؤال واحد: كيف وصلت الهند، وهى مستعمرة بريطانية أخرى، إلى ما صارت إليه (تنحية الثقافة الهندوسية جانبا)؟
الإجابة الأولى هى: الوقت. فالديمقراطية تعمل بنجاح فى الهند منذ عقود، بعد أن ناضلت فى سبيلها قبل الاستقلال. وعمر الديمقراطية فى مصر لم يبلغ العامين. فقد تجمد المجال السياسى لمصر واحتُكر على مدى عقود نفس العقود التى كان الزعماء السياسيون من المهاتما غاندى إلى جواهر لال نهرو إلى مانموهان سينج «يبنون نظاما بالغ التنوع والاختلاف، لكنه مرن ومتوافق بطريقة مؤثرة»، كما يقول خبير الديمقراطية بجامعة ستانفورد، لارى دياموند، مؤلف كتاب «روح الديمقراطية: النضال من أجل بناء مجتمعات حرة فى أرجاء العالم».
كما أن الحزب السياسى السائد فى الهند عندما أطاح بحاكمه الاستعمارى «ربما كان أكثر الأحزاب السياسية المطالبة بالاستقلال فى المستعمرات فى القرن العشرين من حيث تعدد الأعراق، والإيمان بالديمقراطية، ونعنى بذلك حزب المؤتمر الوطنى الهندى»، على حد قول دياموند. فى حين أن الحزب السائد عند الإطاحة بطغيان مبارك، أى الإخوان المسلمين، «هو حزب دينى لطائفة واحدة ذو جذور استبدادية عميقة اتجه مؤخرا فقط نحو الانفتاح والتعددية».
كما أن هناك فرق، كما يقول دياموند، بين فلسفة وخلفاء المهاتما غاندى وسيد قطب، النور الهادى للإخوان المسلمين. إذ يقول دياموند إن «نهرو لم يكن قديسا، لكنه حاول الحفاظ على روح التسامح والتوافق، واحترام القواعد». كما كان يثمن التعليم. وبالمقابل، كما يرى دياموند، «يبعد قادة الإخوان المتشددون، الذين يجلسون فى مقعد القيادة منذ بدأت مصر التحرك باتجاه الانتخابات، المعتدلين داخل التنظيم، ويستغلون سلطات الطوارئ، ويضربون خصومهم فى الشوارع، ويسعون الآن إلى التعجيل بإصدار دستور يفتقد إلى التوافق رغم أنف شرائح كبيرة من المجتمع المصرى التى تشعر بالاستبعاد والافتئات على حقوقها».
كما أن هناك الجيش. فعلى عكس الحال فى باكستان، أبعد زعماء الهند فى مرحلة ما بعد الاستقلال الجيش عن السياسة. وللأسف، أدخل جمال عبدالناصر، بعد انقلاب 1952، الجيش فى السياسة وحافظ كل خلفائه، حتى مبارك، على هذا الوضع واحتفظوا بمناصبهم بفضل الجيش وأجهزة المخابرات التابعة له. وما أن سقط مبارك، وأعاد قادة الإخوان الجدد الجيش إلى معسكراته، شعر جنرالات مصر بضرورة عقد صفقة تحمى شبكة المصالح الاقتصادية الضخمة التى بنوها. يقول دياموند إن «انتماءهم القوى للنظام القديم جعلهم خطرا على النظام الجديد. والآن لا يمكنهم العمل بعد تحديد نفوذهم».
نعم، الديمقراطية مهمة. لكن الإخوان المسلمين بحاجة لأن يدركوا أن الديمقراطية أكبر من أن تقاس بمجرد الفوز فى الانتخابات. إنها ترعى ثقافة التعدد والحوار السلمى، حيث يحظى القادة بالاحترام بمفاجأة المعارضين بالحلول الوسط وليس الإملاء. وقد قال عالم الاقتصاد الهندى الحائز على جائزة نوبل، امارتيا سن، إن تاريخ الهند المتحدر من الحوار والنقاش هو الذى أعدها لاستقبال المؤسسات الديمقراطية الرسمية.
وتحتاج مصر الآن، وأكثر من أى وقت مضى، إلى تبنى ثقافة الحوار، والنقاش السلمى المحترم والذى كان مقموعا تماما على عهد مبارك بدلا من إلقاء الحجارة، والمقاطعة، وترويج المؤامرات المزعومة وانتظار إدانة أمريكا لهذا الطرف أو ذاك، والذى ساد المشهد السياسى قبل الثورة. فالانتخابات بدون ثقافة مثل كمبيوتر بلا برامج. ولن تؤتى ثمارها.
نقلا عن صحيفة «نيويورك تايمز»
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق