ان قيمة الفعل تقاس بنتائجه لابمصادره اى انها تقاس بغده لا بأمسه ...
تعالوا نفكر بأبجدية جديدة
المفكر الدكتور :ذكى نجيب محمود
12 من ديسمبر 1983
الاهرام ص13
هذا الكوكب الارضى بيتنا، وذلك الكون الفسيح من حولنا كتابه مفتوح
الصفحات امام ابصارنا ولنا فى بيتنا حق العيش كما نريد لانفسنا ان نعيش ...
شريطة ان نحمل تبعات ما اردناه امام ضمائرنا وبين يدى الخالق جل وعلا يوم
الحساب ثم علينا ان نقرأ حقائق الكون فى صفحاته المفتوحة ما وسعتنا
القدرة وما اسعفتنا الحيلة...
، وذلك لان الحقائق لم تفسح عن نفسها فى تلك الصفحات بل لجأت الى
الرمز والايماء وتركت للناس ان يقرؤها كما يحلو لهم...
ان يقرؤا وبالطريقة التى يطيب لهم ان يسلكوها ولو كان المسطور فى كتاب
الكون معلنا فى وضوح صريح لما اختلفت العصور المتعاقبة فى قراءته لكنها
اختلفت ...
سار الانسان على طريق الحياة يطوى طريقه مرحلة بعد مرحلة : بدأه صيادا
لطعامه ثم كان راعيا يتنقل مع قطعانه الى المرعى ثم اصبح زارعا مسقرا
عند زراعته ثم امسى صانعا يشكل مواد الارض على اى صورة يشاء وكانت
له حقائق الكون معروضة امامه على طول الطريق بمختلف مراحله ولكن
كانت له فى كل مرحلة طريقة يقرأ بها مايراه ويسمعه فلم يكن ادراك صياد
المرحلة الاولى ليدرك الكائنات كما ادركها من بعده الراعى ولا كان متاحا
للراعى ان يرى رؤية الزارع ولااقتضت ضرورات الزراعةمن فلاح الارض كل ما
اصبحت ظروف الصناعة تقتضيه من انسان الصناعة فى يومنا الراهن ...واذا
شئت فقل ان هذا الكون قصيدة كبرى تنشدها العصور واحدا بعد واحد فيكون
لكل عصر تأويله لما يقرؤه وللشعر قابلية التأويل على اوجه ليس لها نهاية
كان لكل مرحلة قيسها وليلاها وكان قيس فى كل مرحلة يغنى بما تطرب له
ليلاه .
نعم قد تداخلت المراحل بعضها فى بعض فصياد الحيوان فى المرحلة الاولى
عرف كيف يصنع لنفسه من الحجر سكينا كما ان فى عصر الصناعة هذا
لايخلو الامر من صيد ...لكن الحكم على العصور انما يكون على اساس الغلبة
والروح السائدة وعصرنا -بغير شك- عصر صناعة وعلوم ولكن بطريقته الخاصة
فى صناعاته وعلومه كأن له ابجدية يفكر بها غير ابجديات العصور السابقة
...فهل علينا من حرج اذا دعونا من لم يتعلم تلك الابجدية الجديدة منا ان
يتعلمها عسى ان يفتح عليه الله فيدخل عصره من أوسع ابوابه بعد ان كان
خارج الاسوار مقعدا يقنع بالاصداء الغامضة تأتيه من ثقوب تلك الابواب ؟
مأساتنا هى اننا لانكاد نحيا فى عصرنا الا بجسومنا واما عقولنا فممتلكة
هناك مع اهل عصور ذهبت وذهب زمانها نعيش فى عصرنا بأشباحنا وأما
ارواحنا فهاءمة هناك فى ارض غير ارض زماننا وتحت سماء ليست هى
السماء التى تظل زماننا ...اننا بالنسبة الى عصرنا نعيش خارج اسواره وحتى
اذا اراد لنا الله عزيمة للدخول امسكنا بأيدينا المفتاح المغلوط الذى لاتنفتح به
الابواب تلك هى مأساتنا ...واما مأساة المأساة فهى اننا لانشعر ببرودة
الغربة ولانحس لسعة الحرمان .
فهل تريد ان تعرف ماذا هناك داخل الاسوار وخلف الابواب ؟
اسمع ياسيدى -اذن- وصفا امينا ...استعين فيه بما رواه اولئك الذين يعلمون
عن العصر وروحه واتجاهه ولفتاته ما لاعلم لنا به ولكن قبل ان اسوق اليك ما
اريد لك ان تعرفه اراه لزاما على ان اسبق السياق لاقول انه لاينبغى لنا ان
ناخذ عن الاّخرين أخذ القردة حين يحاكون مايرونه حركة حركة بل ان العصر
كما يعرفه صانعوه من اهل الغرب تنقصه جوانب لابد من اضافتها اليه لكى
يجئ الانسان انسانا سويا ومن حسن الحظ ان تلك الجوانب المراد اضافتها
الى انسان العصر لينجو مما اصابه من تمزق وقلق ويأس وميل الى العنف
والشر ...هى هى نفسها البضاعة الى بين ايدينا نحن ابناء الثقافة العربية
كما ورثناها ومن عجب ان ثقافتنا العربية هذه لم تعد تصلح وحدها لمن اراد
ان يعيش فى هذا العصر بظروفه المستحدثة من علوم وصناعات وكذلك
ثقافة العصر كما تسود فى الغرب فى يومنا لاتصلح وحدها اذا اراد الانسان
ان يحيا حياته سليم النفس متفائلا وسأذكر تلك الجوانب التى اعنيها بعد ان
اعرض الموجز الذى سوف اعرضه وصفا لروح العصر وجوهره.
فهنالك دعامتان اساسيتان يقوم عليهما بنيان الحياة فى عصرنا هذا : الاولى
هى العلوم بصورتها التقنية الجديدة (وساتناولها بشئ من الشرح والتوضيح) .
والثانية هى ان تقام الاخلاق واعنى معايير السلوك فى تعامل الناس بعضهم
مع بعض على ماينتج عنها من منفعة لا للفرد الواحد بل للصالح العام (
وسأتناول هذا الجانب ايضا بالايضاح)
هاتان هما الدعامتان الاساسيتان فى بنيان الحياة العصرية ونظرة واحدة الى
حياتنا وحياة الامة العربية فى جملتها تكفى لنتبين منها اننا لانحن نفكر
بالمنهج الذى من شأنه ان ينتج علوما من النوع الذى يتميز به عصرنا ولانحن
نسلك فى حياتنا العملية مسالك من شأنها مراعاة المصلحة العامة.
ولنبدأ بشرح النقطة الاولى فى ايجاز : فأقول ان الحياة العلمية فى مراحل
تاريخها لم تنهج نهجا واحدا امتد بها ومعها طوال ذلك التاريخ بل كان ذلك
المنهج يتغير كلما تغيرت طبيعة الموضوع الذى شغل به العلماء ...كل
مجموعة منهم فى عصرها الخاص نعم ان ماهو حق من الناحية العلمية هو
حق دائما واذا لم يكن كذلك فأنما يكون اصحابه قد تساهلوا مع انفسهم حين
زعموا له الصواب على اساس علمى لكن الذى حدث والذى يحدث وسيظل
يحدث هو ان الانسان فى عصر ما حين يصب فكره العلمى على موضوع
معين فأنه بالطبع لايلم الابرقعة ضيقة هى رقعة الموضوع المعين الذى
اختاره لبحثه فهو لايستوعب فى لحظة واحدة كل مايمكن ان يكون ذا صلة
بعيدة بموضوع بحثه ومن هنا نرى نتائجه العلمية تتعرض للقصور عندما تأتى
الايام المقبلة بمشكلات تمس ذلك الموضوع الذى كان العلماء قد فرغوا منه
فى عصرهم ، وعندئذ لايسع ابناء الزمن الجديد الا ان يعيدوا النظر لعلهم
يجدون نتيجة علمية اوسع نطاقا فى تطبيقها من النتيجة السابقة بحيث
تشمل النتيجة الجديدة ما كانت شملته سالفتها ثم تشمل كذلك الجوانب
الاخرى التى استحدثت مع مر الزمن ...أرسطو ايام اليونان القديمة حين
تحدث عن حركة الاجسام -مثلا- لم يكن قد شمل بنظرته تلك الجوانب التى
شملتها نظرة جاليليو بالنسبة لحركة الاجسام وايضا لم تكن نظرة جاليليو -
بدوره-قد شملت ما جاءت نظرة عصرنا الحالى لتشمله من حركة الكهارب
داخل الذرة الواحدة وهكذا كان ارسطو مصيبا ولكن فى دائرة بحثه و جاءت
عصرنا لتصيب فى دائرة اوسع واشمل ومن يدرى ماذا تكون نظرة الغد الى
الموضوع نفسه حين تظهر ظواهر توجب على العلماء ان يوسعوارقعة النظر
من جديد على ان العلم كلما وسع من مجال النظر ليجئ بفكرة علمية جديدة
تشمل مالاتشمله الافكار العلمية السابقة قد يضطر الى انتهاج منهج جديد
غير المنهج الذى كان اسلافه قد اصطنعوه فى بحوثهم حتى ليمكن القول
بصفة عامة ومبسطة ان العلم قد استخدم فى تاريخه ثلاث مناهج كل منهج
منها جاء فى عصره ليسد نقصا فى المنهج الاسبق ولاحظ بدقة اننى لااقول
ان منهجا ماكان خطأ فى عصره وفى مجاله ؟ بل اقول انه (قصر)دون ان
يشمل رقعة اوسع واذا اردت تشبيها موضحا فقل ان الانسان فى رؤيته
البصرية للاشياء يستخدم عينيه المجردتين ثم يتبين له ان عينيه لم تريا الافى
حدود معلومة اذ قد يكون هناك خارج المجال البصرى ماهو ابعد من ان تراه
العينان وماهو اصغر من ان ترياه فيستحدث نوعين من المناظير لتغطية اوجه
النقص نوعا منهما يقرب البعيد( التليسكوب )ونوعا اّخر يكبر الصغير
(الميكروسكوب) فيرى الانسان مالم يكن يراه لكن هل يعنى ذلك ان العين
البشرية فى مرحلتها الاولى قد (اخطأت) الرؤية؟...كلا فقد رأت مارأته رؤية
صحيحة لكنها لم تكن كافية وهكذا شأن المناهج العلمية حين يكمل بعضها
بعضا على تعاقب العصور.
اقول ان الانسان قد عرف فى مراحل تاريخه العلمى ثلاثة مناهج متعاقبة
احدها صيغت نظريته وقواعده على ايدى اليونان الاقدمين وهو الذى يطلق
عليه اسم منهج (القياس) بمعنى ان الباحث فيه يستخلص نتيجة (لفظية )
من مقدمات (لفظية )كذلك ...وكان منهج القياس هذاهو الذى اخذه العرب
السابقون وهم فى عز نشاطهم العلمى من علوم اللغة الى الفقه الى
العلوم الطبيعية والرياضية وهكذا لبثت السيادة المطلقة معقودة لمنطق
القياس فى مجالات النظر العلمى طالما كان مدار العلم(كلاماً)من نوع او اّخر
وطالما كان المطلوب من العالم هو ان يستخرج لفظا من لفظ اّخر.
فلما جاءت المرحلة التى يسمونها (بالنهضة)الاوروبية وكان ذلك فى نحو
القرن السادس عشر ...وجد المشتغلون بالعلم ان الذى اصبح مطلوبا هو
قراءة ظواهر الطبيعةقراءة مباشرة لا ان يقرأ عنها فى كتب الاولين فاحسوا
عندئذبضرورة تقنين منهج علمى جديد يقوم على اسس مختلفة عن الاسس
الى كان منهج القياس يقوم عليها ففى مكان المقدمات اللفظية التى كانت
توضع فى الصدارة ليستخرج الباحثون مضموناتها اصبح المطلوب هو
(مشاهدة) ظواهر الكون ذاتها بالعين او بما يساعد العين من مناظير مقربة او
مكبرة وبذلك ولد منهج علمى جديد كان مداره هو الكشف عن مواضع الاقتران
بين الظواهر حتى اذا ماوجدت ظاهرتان مقترنتان دائما احداهما بالاخرى عد
هذا الاقتران بينهما قانونا من قوانين الطبيعة يستخدم فى التنبؤ العلمى لانه
اذا وقعت احدى الظاهرتين توقعنا حدوث مايقترن بها.
ودار الزمان دورته وجاء القرن التاسع عشر فجائت معهرؤية جديدة للكون
وظواهره كما جاءت معه (قدرة ) جديدة فأما الرؤية الجديدة فكان مؤداها ان
كل شئ -جمادا او حيوانا -انما هو كائن ذو تاريخ اى ان حقيقته كامنة فى
تسلسل ما طرأ عليه وماسوف يطرأ عليه من احداث يتطور معها من حال الى
حال واما القدرة الجديدة فهى اصطناع(الاجهزة) العلمية فى اجراء البحوث
العلمية اذ لم يكن الانسان قبل ذلك قد استخدم من هذه الاجهزة الا القليل بل
الاقل من القليل ،وماذا تصنع هذه الاجهزة ؟...انها تفعل ماتفعله الحواس
الطبيعية فى جسم الانسان ولكن بدقة اكثر وبهذا العنصر الاضافى الجديد
دخل العلم فى اكناف منهج جديد وذلك هو ادق المعانى لكلمة (تكنولوجيا ) اذا هى كلمة تعنى -حكما بمقطعيها اللذين تتكون منهما - :
(علم بواسطة الاجهزة) ثم حدث ان كان من نتائج العلم القائم على هذا
المنهج ان تمت صناعات اّلية كثيرة كالطائرة والسيارة والثلاجة وهلم
جرا،فأنتقل استخدام كلمة تكنولوجيا من كونها اسما لمنهج الجديد ...الى
كونها ايضا اسما لمنتجات ذلك المنهج.
ولعلك بعد هذه الصورة الموجزة لتطور مناهج البحث العلمى تستطيع ان
تدرك بعض الابعاد التى نقصد اليها حين نقول ان احدى الدعامتين
الاساسيتين لعصرنا هى علوم قامت على اجهزة وأدت الى صناعة اجهزة...
وننتقل الاّن الى الدعامة الثانية فى بنيان العصر الحاضر وهى الدعامة
الخلقية والتى قلنا انها تركز على(المنفعة)الناجمة عن الفعل بشرط ان يفهم
من هذه الكلمة تلك المنفعة التى تعم فتخدم المصلحة العامة.
وكشأن الفلسفة فى كل عصورها تجئ دائما انعكاسا للمناخ الثقافى
والحضارى السائد جاءت فلسفة الاخلاق عند القوم اصحاب حضارة العصر
بعلومها الجديدة وتقنياتها ...جاءت الفلسفة لتبلور روح عصرها فقالت
ماخلاصته :ان قيمة الفعل تقاس بنتائجه لابمصادره اى انها تقاس بغده لا
بأمسه ...وهنالك عاملان يعملان على تشكيل الناس تشكيلا يتسق مع هذه
الوجهة للنظر هما : القانون من ناحية ...والرأى العام من ناحيةاخرى فكلا
هذين العاملين بما يقدمانه من ضروب الثواب والعقاب ينتهيان بالفرد من
الناس الى ان يدرك كم هو فى حدود المستطاع ان تلتقى منفعة الفرد مع
منفعة المجموع اننا لانطالب الافراد بتضحية منافعهم من اجل احد بل نطالبهم
بأن (يتفهموا )مصالحهم على وجهها الصحيح واذا هى فهمت على هذا الوجه
الصحيح متفقة اّخر الامر مع صالح المجموع ...اذ ماذا يجدى كسب الملايين
عن طريق الجريمة ...او نهب حقوق الاّخرين،اذا كان من شأن ذلك ان ينهدم
البناء الاجتماعى على رؤس ساكنيه سواء منهم من كسب حراما ومن
اغتصبت حقوقه ليتحقق هذا الكسب الحرام لاصحابه...انه يجب ان يكون
مفهوما ان الأثرة لاتتناقض مع الايثار وان رعاية الفرد لمصالح نفسه قد تكون
هى نفسها رعاية لمصالح الجميع ،واذا كان الامر كذلك وجب ان تتجه تربية
النشء فى اتجاه هذا الهدف.
قد تسألنى:اليس العصر كما يعيشه الناس فى الغرب هو اكثر من هاتين
الدعامتين اللتين ذكرتهما دعامة العلوم وتقنياتها ...ودعامة الاخلاق بالمعنى
الذى يجعل قيمة الافعال مرهونة بنتائجها لا بمصادرها ؟
اجيبك نعم هى اكثر جدا من هاتين الدعامتين فهنالك فنون شتى من طراز
جديد لم تعهده العصور السابقة فى الموسيقى والتصوير والشعر والرواية
والمسرح والعمارة وهنالك نظم سياسية واجتماعية واقتصادية قد لاتكون
استمرارا حرفيا لما كان قائما ابان القرن الماضى وماسبقه من قرون لكن
هذه الجوانب كلها -اذا امعنت فيها النظر -وجدتها نتائج تلزم بالضرورة عن
قيام العلوم وتقنياتها بصورتها الجديدة ...وعن لفتة الاخلاق تلك لفتة قائمة
فى الحياة العملية الى حد كبير ولايلزمنا تجاهها الا ان نوجه اليها الانظار.
ان تركيزنا على نتائج الافعال لا على مصادرها واسانيدها معناه ان نستوثق
دائما كلما قمنا بضرب من ضروب النشاط او حكمنا على مناشط الاّخرين من
ان ذلك النشاط مؤد الى تحقيق الاهداف ...اهداف من؟ انها كما اسلفنا
اهداف صاحب الفعل بالنسبة لنفسه هو ...ولكنه بحكم تربيته سيجعل تلك
الاهداف الشخصية مؤدية الى تحقيق الاهداف القومية ...ومن الذى يضع
للقوم اهدافهم القريبة والبعيدة وعلى اى اساس توضع تلك الاهداف ؟
الجواب: يضعها الشعب بالرأى المباشر او بالاحرى محمولا على ألسنة نوابه
...واما على اى اساس توضع ...فها هنا تتبدى الفوارق بين شعب وشعب اذ
يعمل كل شعب على ان تكون اهداف حياته متفقة مع تراثه الذى هو قوام
هويته وشخصيته .
وعند هذه النقطة لابد لنا من القول اننا اذا أشرنا الى دعائم العصر الجديد
بثقافته وحضارته لم نكن نعنى ان نحاكى ما هناك محاكاة القردة -كما
اسلفت القول-بل ينبغى علينا الا ننسى مقوماتنا نحن دون ان نتنكر للاطار
العصرى لا لشئ الا لانه عصرى ... والحق ان امامنا فى مجال الاضافة
الشخصية مجالا واسعا وذلك ان حضارة العصر وثقافته كما هما قائمان
بالفعل فى اوروبا وامريكا قد ثبت انهما يطغيان على نفوس الافراد حتى
ليكادان يطمسانها طمسا ومن هنا اخذهم القلق والسأم وشعور الاغتراب
...لكن من هنا ايضا نشأ عند القوم انفسهم مايحدث التوازن المفقود وذلك
بأصطناع الفنون فى اتجاهاتها الجديدة لانها بتلك الاتجاهات تبرز الاهتمام
بالجانب الذاتى الصرف للفنان ...وكذلك نشأت الفلسفة الوجودية لتقر فى
اذهان الناس حق الفرد فى اتخاذ القرار ليكون بحق انساناً حراً و مسئولاً ،
فالفلسفة الوجودية بمعالجتها لبعض مايترتب على سيادة العلوم وتقنياتها
هى فى الوقت نفسه برهان على قيام تلك السيادة التى هى ابرز معالم
العصر... وفى هذا القول منى رد على اولئك الذين يحتجون على كلما قلت
عن فلسفة العصر انها اساساً فلسفة تخدم العلوم ...بقولهم : وهل نسيت
الفلسفة الوجودية الى ليس لها شأن بالعلم ؟...نعم هى هناك ...وهى فى
ذاتها برهان سلبى على انه عصر تسوده العلوم و ملحقاتها.
واخيرا قد اسمع صوتا يعاتب: اهكذا نحن كما وصفتنا غرباء على العصر
ومقوماته ؟...اليس فينا العلماء أشكالاً وألواناً ومنهم من بلغ من العلم حدا
لاينكره الاجاحد؟...جوابى هو نعم والف نعم لرجالنا النوابغ فى مجالات العلم
والفن جميعا ولكن العبرة اّخر الامر انما هى بالجمهور ...بالرأى العام...بالمناخ
السائد...بوجهة النظر العامة ...فعلماؤنا النوابغ ورجال الفن منا على ارتفاع
قدرهم -قد تراهم هم انفسهم -خارج حدود علمهم وفنهم- مع عامة الجمهور
فى الروح ووجهة النظر... وهاهنا تكمن المأساة...
نريد ان نقرأ الحياة الجديدة بأبجدية جديدة ...قوامها روح العلم الجديد ومنهجه
الجديد ولن يكون لنا من عصرنا ذلك النصيب الذى يتناسب مع مجدنا ومكانتنا
فى التاريخ ...اذا نحن قنعنا بالحفظ والتسميع والتطبيق لما يبدعه الاّخرون
...نريد ان (نسهم) فى الابداع الحضارى الجديد بسهم منظور ...وليس
اسهاما ان ننقل عن القوم علومهم حتى لو حفظناها جفظا عن ظهر قلب وان
ننقل عنهم اجهزتهم وتقنياتهم ...حتى لو بلغنا الغاية القصوى من مهارة
تشغيلها او حتى مهارة محاكاتها (بتجميع) للاجزاء نجربه على ارضنا ...فاذا
كانت الأبجدية الجديدة قوامها أجهزة ومكنات وصناعات ومغامرات فى كشف
المجهول ...واذا كان اهل الغرب قد قصروا فى المحافظة على (نفوس)
الافراد و(قلوبهم)...فدورنا نحن -ارتكازا على تراثنا وعقائدنا- هو ان نعلمهم
كيف يمكن المشاركة فى مقومات العصر كلها ...مع المحافظة على انسانية
الانسان.
ان يقرؤا و
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق