بسرعة هائلة اكتظ الفضاء الأثيري بكم لايستهان به من الفضائيات العربية زاد من فرصة تكاثرها التكاليف غير الباهظة التي يتطلبها إنشاء القناة الفضائية، إذ أن المطلب الأول والأهم هو الحجز على القمر الصناعي والحصول على التردد، أما البقية فإن غرفة تسمى “استديو” صارت كافية لهذه الفضائيات تجمع فيها أساطين الفتن والكراهية فينبشون في التاريخ القريب والبعيد ما يوفر لهم الفرصة للاقتصاص من خصومهم والتشهير بهم، وصولا إلى تكفيرهم وانتهاء بالحض على العنف والقتل بدعاوى الجهاد أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
هذا الواقع الذي أنتج هذه الفضائيات إنما غذته توجهات سياسية خطيرة واكبت هذا المناخ المسموم فوظفت الفضائيات توظيفا هائلا وأغدقت عليها الأموال، لا لشيء إلا ليستمتع النظام السياسي العربي في هذا البلد أو ذاك بما يطربه من الشتائم والإهانات وأشكال شتى من الأدلة العقلية والنقلية التي تثبت أن الخصوم، ما هم إلا على ضلال وأنهم خطر محدق بالحياة والدين والتاريخ والجغرافيا وكل شيء.
وبموازاة ذلك ومع تعملق هذا الخطاب وتحوله إلى عنصرية طائفية أحيانا وعنصرية مذهبية أحيانا أخرى، صرنا في مواجهة منظومة متكاملة من التوجهات الفكرية الشاذة تستخدم وسيلة سلمية وحضارية هي القنوات الفضائية التي وفرت للإنسان أرقى شكل من أشكال التواصل والمعرفة والتعلم والثقافة.
فبدلا من أن تتجه هذه الفضائيات لطمأنة الجيل وبث الأمل لديه وإرساله إلى العمل والإبداع والدفع به باتجاه المستقبل وحب الآخر وحب الخير، فإنها نقبت في هذا الجيل عن أكثر النقاط ظلامية بل إنها أذكت فيه نزعات إجرامية وإن بشكل غير مباشر من خلال إيجاد الذريعة الشرعية في إطلاق نزعات الانتقام والكراهية العرقية.
إننا في واقع الأمر أمام إشكالية مركبة في تقصي واقع ومستقبل هذه الفضائيات، فالحرية في الإعلام أتاحت لكل حزب أو مجموعة أو تاجر أو مستثمر أن تكون له فضائية ولهذا صارت الأقمار الصناعية العربية تكتظ بأشكال شتى من تلك الفضائيات المتناحرة التي ينسف بعضها معتقدات البعض الآخر في صراع مرير هو مجرد وجه من أوجه صراعات النظام السياسي العربي المأزوم مع خصومه.
وامتدادا لهذه المحصلة أثبت النظام السياسي العربي فعلا أنه يعيش احتقانا ذاتيا يدفعه قدما إلى إيجاد حلول وبدائل تطلق صوته عاليا لمقارعة الخصوم والإجهاز عليهم إعلاميا وتفنيد أفكارهم وتوجهاتهم، فضلا عن خلق جمهور عريض ينجرف مع هذا التيار بل ويمعن أكثر في عقيدة الكراهية والعنصرية. ترى هل أنتجت هذه الفضائيات جيلا عنصريا قائما على عقيدة الكراهية؟
في الحقيقة، إن مسحا موضوعيا للظاهرة سيثبت من دون أدنى شك أنها أسهمت بشكل فعال في استفراغ نزعات الكراهية والعنصرية وإطلاقها إلى العلن، وخلال ذلك كان النظام السياسي العربي مطمئنا أن الأمور جميعا تسير إلى صالحه حتى صرنا إلى ما صرنا إليه اليوم من انتشار الانتقام والقتل والتفجير والتفخيخ ونسف المجتمعات المدنية من الجذور، وصولا إلى النظام العربي نفسه الذي وجد نفسه هو الآخر مستهدفا بشكل مباشر في هذا الصراع.
لاشك أنه مأزق جديد يواجه النظام العربي اليوم، فقد أسرف في تغذية عقيدة العنصرية والكراهية حتى دخل في هباء سديمي لا نهاية له ولا تعرف نتائجه، ما لم يلجأ النظام العربي نفسه إلى بديل عكسي يسعى حقا إلى إصلاح تلك الفوضى الإعلامية – الفضائية التي تورط فيها، وتلك الأخطاء الكارثية التي ارتكبها واللجوء إلى خطاب سلمي قائم على التسامح والإصلاح وقبول الآخر ونبذ العنف والكراهية والعنصرية.
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق