تحالف أجوف بين الغرب وأنظمة عربية سنية سلطوية
تتقلص مناطق الاستقرار في العالم العربي الإسلامي، ونظرا للحروب والفوضى يتشبث الغرب بحلفائه الجدد القدامى، أي "الأنظمة السنّية المعتدلة"، كما يرى الصحفي الألماني شتيفان بوخن في تعليقه التحليلي التالي.
مسألة تفكير الغرب في شكل الحكم الذي من شأنه أنْ يكون الأفضل لبلدان الشرق، واحدةٌ من تقاليد الاستشراق الراسخة منذ حملة نابليون على مصر، بيد أنَّ تصوُّرات الغرب عن طبيعة السلطة المثاليَّة في الشرق لم تتغيَّر بهذه الكثرة وهذه الجذرية كما حدث في السنوات الخمس عشرة الماضية إطلاقًا.
إنَّ الخوف من "الجماهير الشرقية" ومن "نموذجٍ شرقيٍ أصيلٍ للدولة" كالنموذج الذي أقامه آية الله الخميني مثلاً، دفع الحكومات في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا لفترةٍ من الزمن إلى الرهان على حكَّامٍ ديكتاتوريين شديدين نحو الداخل موثوقين في الخارج. وكان حسني مبارك في هذا السياق مثالًا نموذجيًا. بيد أنَّ معمَّر القذافي وبشار الأسد أثبتا أيضًا قدرتهما على التطور للقيام بهذا الدور.
ثم جاءت هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، فأمرت إدارة بوش إثر ذلك بـ "ثورةٍ عن طريق الحرب" مُنقلبةً بذلك على مبدأ استراتيجي معروف. وكان الغرض من غزو العراق والإطاحة بـ"جمهورية الخوف"Republic of Fear التي حكمها صدام حسين، ومن فرض إنشاء دولةٍ جديدةٍ قائمةٍ على دستورٍ ديمقراطيٍ وانتخاباتٍ حرَّةٍ بالقوة العسكريَّة، أنْ ينعكس الأمر على جميع أنحاء "الشرق الأوسط الكبير" Greater Middle East. وأُريدَ لأحذية جنود الجيش الأمريكي العسكرية أن تُطْلِقَ موجة من عمليات بناء الديمقراطية. وعندما التقت في لبنان الصغير جموع رجالٍ ونساءٍ معظمها من الجيل الشاب حول جثمان الملياردير السياسي رفيق الحريري الممزّقة لتقوم بـ "ثورة الأرز"، اعتقد البعض في واشنطن أن المخطط آخذٌ في التحقُّق.
بيد أنَّ الرياح جرت باتجاهٍ آخر، فقد غرق العراق في حربٍ أهليةٍ طائفيةٍ، وخسر جيشُ الاحتلال الأمريكي مكانته كـ"نموذج للديمقراطية" بسبب تعذيب المعتقلين والمجازر التي أوقعها بحق المدنيين، فجاءت هذه الملابسات مواتيةً لرد الاعتبار للدكتاتور السابق. وهذه الصِيْغَة بالذات كانت أكثر واقعية.المفاجأة: "ربيعٌ عربيٌ"
بعد ذلك أحرق بائع فاكهةٍ نفسه بسبب تعسف السلطات به في مدينة تونسية صغيرة مطلقًا بذلك "الربيع العربي". فجأة شرعت "الجماهير العربية" المثيرة للخوف بالمطالبة بالحرية وحقوق الإنسان. هنا كان من الصعب على الغرب أن يقول "لا". فهل لدى الإنسان الشرقي قدرةٌ على تشييد الديمقراطية؟ ثمَّ دار الهمس آنذاك بين واشنطن وبرلين: "النصر لإرادة الشعب! حتى وإنْ أدَّى ذلك إلى انتخاب جماعة الأخوان المسلمين لتتبوأ أعلى المناصب في الدولة".
هذا وتزداد سرعة الدوّامة باستمرارٍ. ويغرق جلَّ بلدان "الربيع العربي" في الفوضى والحرب، وبخاصةٍ سوريا. وما كاد أوباما ينهي قوله: "هذا ليس عملنا"، حتى نهض في الهلال الخصيب من مناطق الحطام والأنقاض التي صارت خارجةً عن السيطرة "تنظيم الدولة الإسلامية" وخليفته ذو اللحية السوداء أبو بكر البغدادي.
على الإسلام "الصحيح" أنْ يُقوِّمَ الاعوجاج
لا بدَّ لأوباما إذًا من أنْ يخوض حربًا في الشرق الآن. وقد صرَّح في البيت الأبيض وفي قمة حلف شمال الأطلسي في ويلز بأنـَّه سيقوم بذلك "مع شركائنا في المنطقة". فمن هم هؤلاء الشركاء؟ إنَّهم الأكراد بالتأكيد، إذ لطالما كانت الأقليات في الشرق الأوسط حليفةً للغرب. هذا أمرٌ ثابتٌ منذ عهد نابليون. ولكنَّ هذا لا يكفي. نرى الآن، حيث تتقلص جزر الاستقرار، ويدَّعي "تنظيم الدولة الإسلامية" أنَّه القائمُ على التأويل السياسي-الفقهي جاذبًا المتعصبين أصحاب الرؤوس الحامية من كافَّة أنحاء العالم، فيعمل الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية على بناء نموذجٍ توجيهيٍ جديدٍ بغية تشكيل نظام الحكم المثالي في الشرق. هذا النظام يتمثّل في ممارسة السلطة من قبل حكَّامٍ سُنَّةٍ "معتدلين" يستمدُّ أغلبهم شرعيته من انتمائه لعائلةٍ مالكةٍ.
هذا النموذج بحدِّ ذاته ليس جديدًا بالتأكيد، فالسلالات الملكيَّة كانت موجودةً أيضًا في عهد الاستعمار الأوروبي. أما الجديد حقًا فهي الوظيفة التوجيهية النموذجية. أنظمة حكمٍ كنظام حكم آل سعود، و "العائلة الهاشمية" في الأردن، وآل مكتوم في دبي وآل خليفة في قطر هي أدوات النجاة التي يتشبث بها الغرب الآن لكي لا يفقد كلَّ نفوذه في الشرق.
كان من الممكن مؤخرًا رؤية هذه العلاقات بشكلٍ جليٍّ، لدى قيام أوباما وأولاند وشركائهما بالحجِّ إلى الرياض حزنًا على وفاة الملك عبد الله، حتى أنَّ ديفيد كاميرون قد نكَّس الأعلام في بريطانيا العظمى، هذا وتمنَّى الجميع التوفيق لولي العهد ابن التسعة والسبعين عامًا. علاوة على ذلك، يحلو للولايات المتحدة الأمريكية منذ أيلول/ سبتمبر 2014 التأكيد على مشاركة سلاح الطيران السعودي والأردني في الحرب على "تنظيم الدولة الإسلامية" (هذا له الآن تأثير أكبر في الذاكرة بفعل صور الطيَّار الأردني الأسير الذي أحرقه تنظيم "الدولة الإسلامية"). ومن المفروض أن يتعزّز التحالف من خلال "الجيش السوري الحر" وقوات "الحرس الوطني" السُّنيَّة المعتزم تشكيلها في المحافظات الشمالية والغربية من العراق.
يبدو أنَّ الغرب في حاجةٍ إلى تجاوز الجوانب العملية البحتة للتعاون مع "الحلفاء السُّنَّة المعتدلين" وإلى شحن التحالف معنويًا. هنا يأتي دورُ الإسلام، أو بتعبيرٍ أدقٍ دورُ تأويله بالشكل "الصحيح". فنظرًا لزحف تنظيم "الدولة الإسلامية" الأيديولوجي كما يراه الغرب، ينبغي على الحكَّام السُّنَّة "المعتدلين" المساعدة في غرس "إسلام السلام والرحمة الحقيقي" في قلوب الناس.
السيسي: "من دكتاتورٍ إلى سُنِّيٍّ معتدلٍ"
كانت رانيا ملكة الأردن أول من تلقف هذه المهمة بوجهٍ مشرقٍ، حيث طالبت في قمَّة أبو ظبي للإعلام في تشرين الثاني/ نوفمبر 2014 باسم "أغلبية المسلمين المعتدلة" -باللغة الإنجليزية طبعًا- طالبت باستخدام وسائل الإعلام الاجتماعي من أجل نشر مشروعٍ مضاد لمشروع "الإرهابيين".
ربطت الملكة ذات الشعر المصبوغ باللون الأشقر دورها المعروف باعتبارها أيقونةً دعائيةً في يوتيوب وإنستاغرام وفيسبوك بالوظيفة الجديدة كَــ "فيلسوفة شعبيَّة" للإسلام المعتدل. إذن، بهذه السرعة يمكن استبدال شعار يوتيوب القائل "انشر مشاركاتك" بشعار "انشر الاعتدال الإسلامي". وتغيب الأوصاف التي من شأنها أنْ تعبِّرَ عن هذا المشهد الملكيِّ، ولكنْ يجوز رغم ذلك التخمين بأنَّ ثمة من يتبادل التهاني بين كاليفورنيا وواشنطن العاصمة، ويؤكِّد -ربما أثناء تناول شرائح خبز التوست- أنَّ "الاستراتيجية نجحت".
ومنذ ذلك الحين توسَّعت هذه الجوقة من خلال حكَّامٍ "سُّنَّةٍ معتدلين" آخرين. المشير عبد الفتاح السيسي، الذي يريد بعد انقلابه العسكري أن يجعل مصر مجددًا "جزيرة استقرار"، طالب شيوخ جامعة الأزهر بـ "ثورةٍ دينيةٍ"، لكي يواجه المسلمون "الأفكار الخاطئة" التي يحملها المتطرفون. وأوضح السيسي أنَّه لا بدَّ لهذه الثورة من أنْ تتخذ "كتاب الله وسُّنَّة نبيِّه" منهاجًا أساسيًا لها.
أما كيف تنسجم مبادئ الاعتدال والعقلانية مع جَلْدِ المدونين المزعجين ومع احتجاز المعارضين السياسيين، فليس هو السؤال الحاسم في هذا السياق، إنَّما الثمار التي ستنتجها الشراكة السياسيَّة المصيريَّة الجديدة للغرب وللحكَّام السُّنَّة المعتدلين على حدٍّ سواء هي ما يثير الاهتمام أكثر.
وجه العالم العربي اللطيف: ربطت الملكة ذات الشعر المصبوغ باللون الأشقر دورها المعروف باعتبارها أيقونةً دعائيةً في يوتيوب وإنستاغرام وفيسبوك بالوظيفة الجديدة كَــ "فيلسوفة شعبيَّة" للإسلام المعتدل، بحسب ما يكتب شتيفان بوخن.
يصعب استشرافُ توقعاتٍ إيجابيةٍ للشراكة المصيريَّة، حتى وإنْ استطاع هذا الحاكم المعتدل أو ذاك إظهار نحو أربعين خَلَفًا لهُ من الذكور، وبالتالي البرهنة على قدرٍ معيَّن من "استقرار السُلالة الحاكمة"، فما مدى المصداقية التي يمتلكها الشركاء (بعد كل ما حصل) والتي تخوِّلهم أن يمثـِّلوا رسالةً سياسيَّةً أساسها أخلاقيّ؟
تحالفٌ بين المتطرفين الشيعة والسُّنَّة
لقد أطاح الغرب بمصداقيته في الشرق الأوسط لعدة أجيال قادمة من خلال مغامرة العراق في سنة 2003. ومن يُقدِم على الانضمام إلى هذا التحالف سوف يمضي في إضعاف شرعيَّته الضعيفة أصلاً. وتبدو الشراكة المصيريَّة الجديدة بمثابة وصفةٍ لزوال السلالات السُّنيَّة الحاكمة بسرعة.
كلُّ شيءٍ يشير إلى أنَّ تنظيمي "الدولة الإسلامية" والقاعدة سوف يحاولان الضرب في هذه الثغرة ونقل إرهابهما على نحو متزايد إلى شبه الجزيرة العربية. وسيكون من السذاجة الاعتقاد بأنَّ الخصوم الأقوى بكثير، أي إيران وحلفاءها الشيعة لن يستغلِّوا نقاط الضعف الواضحة في تحالف الحكام السُّنَّة والغرب. وجليٌ أنَّ إيران سوف تتعاون تكتيكيًا في ساحات المعارك في الهلال الخصيب وفي اليمن حتى مع السُّنَّة المتطرفين، من أجل إلحاق الضرر بالولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها.
إذًا هناك احتمالٌ كبيرٌ بأنْ يضطر الغرب قريبًا لأنْ يبتدع من جديدٍ أفضل نموذجٍ ممكنٍ للدولة في الشرق. ولكن من المحتمل أيضًا أنْ لا تسعفه قواه بعد الفشل المُرَجَّج للشراكة المصيريَّة الحاليَّة. وربما ستتوقف أخيرًا همرجة إنتاج الأفكار في وزارات الخارجية ومراكز الأبحاث والدراسات عن الحركة. وسوف يخشى جميع "اللاعبين" في الشرق الاقتراب من الغرب كما يخشى الشيطان من الماء المقدس.
شتيفان بوخن
ترجمة: يوسف حجازي
حقوق النشر: موقع قنطرة ar
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق