أخلاق العبيد
د / زكي نجيب محمود
د / زكي نجيب محمود
سأقول وأعيد، ثم أقول وأعيد ، إننا نتخلق بأخلاق العبيد مهما بدا علينا من علائم الحرية وسمات السيادة، سأقول ذلك وأعيده ألف ألف مرة، لعله يطنُّ في الآذان فيرن صداه في الرؤوس، فتقر آثاره في النفوس، ولو كان جزائي من ذلك كله أن أحول رجلاً واحداً، استغفر الله، بل لو كان جزائي من ذلك كله أن أحول نفسي من العبودية إلى الحرية، ومن الذل إلى العزة والسيادة، لعددت ذلك جزاء وافياً شافياً، ولاستقبلت منيتي بعدئذ مطمئناً راضياً.
لقد زعمت لك* أيها القاريء الكريم أننا عيال على العالم المنتج، لا نكاد نخلق شيئاً واحداً جديداً في الأدب أو العلم أو الفلسفة أو الفن، لا أقول اليوم، ولا أقول أمس ، ولكني أقول إننا لم نكد نخلق جديداً من أول الزمان إلى يومنا هذا ، لقد كنت أتحدث منذ أيام إلى إمام من أئمة الأدب في الشرق العربي ، فقال: إن مصر في كذا ألفاً من السنين لم تنجب أديباً عطيما، فرددت عليه في ابتسامة الخجل: بل إن مصر يا سيدي في كذا ألفاً من السنين لم تنجب عظيما، لا في الأدب، ولا في غيره من شتى نواحي الفكر والحياة.
زعمت لك ذلك وعللته بما "نتحى" به من أخلاق العبيد، لأن الخَلْق عندي لا يكون إلا بعد عزة وسيادة وطموح، فلاحظت لك أننا عبيد في فلسفتنا الأخلاقية، لأننا نصدر فيما نفعل عن طاعة لأمر سلطان خارج نفوسنا، ولاحظت لك أننا عبيد في فلسفتنا الاجتماعية، لأننا نقيم نظام الأسرة ونظام المجتمع على أساس من سيد ومسود، ثم لاحظت لك أننا عبيد في بطانتنا الثقافية، لأننا ننصاع في يسر يشبه الانزلاق نحو الإيمان والإعجاب بما قاله الأولون.
ولو كنا عبيداً ناقمين ساخطين على ما نحن فيه، جاهدين ساعين نحو إعزاز النفس وتحريرها، لهان الخطب وخف البلاء، لأن أول مدارج الإصلاح نقمة وسخط على الحاضر، ورغبة في التغيير وسعي نحو تحقيقه، لكن الخطب –فيما أرى- فادح، والبلاء جسيم، لأننا نجد من العبودية مرتعاً خصيباً نسرح فيه ونمرح، مغتبطين أشد الغبطة، راضين أكمل الرضى، وقد عبرت عن ذلك في مقال "الكبش الجريح" إذ عجبت لهذا "الخروف" – وقد وثب عليه الذئب فمزق منه وانتهش- عجبت له كيف استمرأ ضرب المخالب، واستلذ وقع الأنياب، دماؤه تسيل وعلى شفتيه ابتسامة، ويلغ الذئب فيه ويلعق وفي عينيه نظرة استسلام ورضى!
لكن لما زعمت أننا عبيد، عجب فريق مما زعمت، وأخذ كل يتلفت حوله لعله يرى في جاره مصداق ما أقول.... واعجبا! كيف نكون عبيداً وليس في أرجلنا أصفاد ولا في أيدينا أغلال؟ بل كيف نكون عبيداً وقد حفظنا في المدارس أن أمهاتنا قد ولدتنا أحراراً، ولا يجوز لأحد أن يستعبد أحدا؟ ... كلا! أنت أنت العبد لا تتلفت، والأغلال والأصفاد في طوية فؤادك ودخلية نفسك، ولو كانت في يديك أو قدميك، لكان الخطب أيسر، لأن تحطيمها عندئذ يهون، أنت أنت العبد لا تتلفت، فلست تستطيب لنفسك عيشاً بغير سيد إن لم تجده في الأرض ألتمسته في السماء.
لقد رأيت بعيني رأسي – إذ كنت في لندن- وزيراً في الوزارة الانجليزية الحاضرة – مستر نويل بيكر - كان يمثل حكومته في جمعية الأمم المتحدة ، رأيته بعيني رأسي ذات يوم، حين آن أوان الشاي في العصر، ينزل إلى طابق البناء الأسفل ليقف في صف كان بين أفراده صغار الكتبة والخدم! وقف هناك ينتظر دوره ليشتري فنجاناً من الشاي وقطعة من الكعك، وما فكّر هو، ولا فكّر أحد ممن وقفوا أمامه أن تكون له أسبقية بحكم منصبه، فسألت نفسي: هل يمكن أن يحدث ذلك في مصر؟ وأجبت نفسي: أن حدوث ذلك في بلادنا مستحيل لسببين:
الأول – وهو أخف السببين شراً وأقلهما وبالاً، هو أن الوزير المصري لا يرضى لنفسه أن يكون في جمهرة من الناس تضم بين أفرادها عدداً من صغار الكتبة والخدم، لأنه – كغيره من البشر- يريد لنفسه سطوة وسيادة، وهاتان شرطهما "الترفع" و "التعالي" .
الثاني- وهو المأساة الحقيقية التي تمزق النفوس كمدا، لو كان لنا نفوس يمزقها الكمد – الثاني هو أنه حتى لو فرضنا حدوث المستحيل، ففرضنا أن الله قد هيأ لنا الوزير الذي يجد نفسه " رفعة" لا تحتاج إلى "ترفع" و "علواً" لا يعوزه "التعالي" ، فلم يجدغضاضة في الوقوف في صف الكتبة والخدم ساعة العصر، ليأخذ في دوره فنجانه من الشاي، أقول إننا لو فرضنا حدوث هذا المستحيل، لأبَى الناس أنفسهم على الوزير أن يكون مثلهم، وأن يقف معهم على قدم المساواة في شئون حياته الخاصة التي لا يكون فيها وزيرا، لو تنازل الوزير المصري ووقف في الصف مع الكتب والخدم، لأبى عليه ذلك هؤلاء الكتبة والخدم، وتسابقوا إلى التنحي للوزير الخطير عن مكان الصدارة في الصف، بل لتسابقوا إلى دفع القرش أو القرشين نيابة عنه، بل لتسابقوا إلى حمل فنجانه إلى حيث يطيب للوزير الجلوس.
ولو حدث ذلك وقلت لأحد ممن وقفوا في الصف: هذه منك عبودية وذلة، لدهش من قولك وأخذه العجب ونظر إلى يديه وإلى رجليه، حتى إذا لم يجد بها أغلالا وأصفادا، صاح في وجهك محتجاً غاضباً: واعجبا! كيف أكون عبداً وليس في قدمي أصفاد ولا في يدي أغلال؟ وأعود فأستعير شيئاً مما قلته في مقالة " الكبش الجريح" : "قل في ذلك ما شئت يا "خروف" ، قل إنها وداعة الحملان ، أو قل إنه التواضع ، وإن للتواضع عند الله رفعة الشأن، أو قل إنه كرم النفس، وليس الكرم بغريب على بني القطعان، قل في ذلك ما شئت يا خروف، لكنه عندي علامة لا تخطيء على مافي نفسك من ذل العبيد ، الذي يستمريء ضرب المخالب، ويستلذ وقع الأنياب".
وأحب أن أذكر لك على سبيل الموازنة بالوزير الإنجليزي الذي وقف في صف الكتب والخدم، مصرياً كبيراً – إذا قيس الكبر بدرجات الوظائف، كما تقاس حرارة الماء بالترمومتر- أعرفه حق المعرفة، ويعرفني حق المعرفة كذلك، لقيته بعد غيبتي أعواما، وشاءت الظروف أن نلتقي في ديوان حكومي، فأرادات له أوضاع المجتمع أن يسلم عليّ تسليم الذي لا يعرفني كثيراً أو قليلاً، وأنا لا أتهمه هو، لأني موقن أنه طيب النفس كريم العنصر، إنما أتهم المجتمع بأسره الذي هو عضو فيه، لأن هذا المجتمع – فيما يظهر- هو الذي وسوس له ألا يسلم على الناس أما الناس في شيء من الترحيب، خشية أن يظن الناس أنه أمسى وبات مساوياً للناس!! وعندئذ ابتسمت لنفسي ، أعني أنني ابتسمت ابتسامة أحسها دون أن يراها الناس – وأنا كثير الابتسام لنفس هذه الأيام- ابتسمت لنفسي لما أدركت أن المصري الكبير قد فوّت الغرض على نفسه وهو لا يدري، وإليك البيان:
أراد المصري الكبير أن يكون كبيراً – مع إنه كبير – فاتخذ لغايته سبيلا يعرفها علم النفس ودارسوه، ألا وهي اصطناع القوة ليمتاز من سائر الناس، ولا شك أن من دواعي القوة أن يسلم عليك الناس فلا تأبه للناس! وهذا في ذاته من المصري الكبير جميل جد جميل، لأن هذا هو ما أراده الله لعباده، وليس في وسع مصري كبير أو صغير أن يعصي ما أراده الله لعباده، لكن الذي غاب عن المصري الكبير فلم يدركه، هو أن القوة المنشودة لها سبيلان: إحداهما حقيقة تؤدي إلى القوة بمعناها الصحيح، وأما الأخرى فسبيل زائفة تخدعه وتخدع أمثاله ممن لا يتعمقون الأمور إلى لبابها، وسبيلا القوة هما المقدرة والسيطرة، المقدرة هي السبيل التي لا زيف فيها ولا خداع، والسيطرة لذاتها هي السبيل المضللة الخادعة ، وهي مضللة خادعة، لأنها تؤدي بسالكها إلى عكس ما أراد لنفسه، إذ تؤدي به إلى الضعف والعجز، وإنما أراد لنفسه قوة وسلطانا.
والعجيب في هاتين السبيلين، سبيلي القدرة والسيطرة أنهما نقيضان لا يجتمعان، فإن كنت قويا بسبب قدرتك فيستحيل أن تلجأ إلى بسط سيطرتك على الآخرين، وإن كنت راغباً في بسط سيطرتك، فيستحيل أن تكون قادرا ماهرا، وقد يبدو هذا الكلام عجيبا، لكنه فيما أعتقد كلام صواب، فهل تتصور – مثلا- عالماً متبحراً في علمه متملكا نواصيه، يعمل في معمله بغية الوصول إلى نتائج في العلم جديدة، هل تتصور مثل هذا العالم راغبا في بسط نفوذه على الناس؟ لا أظن ذلك، لأنه ليس بحاجة إلى مثل ذلك، فهو يتجه بأمله ومجهوده نحو الطبيعة يريد أن يملك زمامها، لا نحو عباد الله يبتغي إذلال رقابهم، هو لا يريد بغياً ولا طغيانا، لأنه قادر ماهر، مكتف بنفسه، والعكس صحيح، أي أن الإنسان إذا ما شعر بخواء نفسه وعجزها وهي وحدها، التمس القوة عن طريق الآخرين، فبطش وتعسف.
الطاغية في صميم طبيعته عبد يذل للقوة حيث يراها، كما إنه يبطش بالضعف إينما رآه، الضعف عند الإنسان القوي القادر يستثير العطف والإشفاق أما الضعف عند الذي صاغه الله طاغية بطبعه، فيغري بالاعتداء، وكلما إزدادت الفرية ضعفاً، أزداد الطاغية بطشاً وعسفاً وطغياناً، والعبودية والطغيان وجهان لشيء واحد.
والرأي عندي هو أننا عبيد لأننا طغاة، وطغاة لأننا عبيد. وأما الإنسان الحر القادر المكتفي بنفسه في عزة وكبرياء، فلا هو يطغى بالضعيف، ولا هو يعنو بوجهه ذلا لطاغية.
_______________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق