بعض المحللين والصحفين يتحدث عن نصارى مصر وكأنهم فصيل واحد متماسك، وهذا غير صحيح، فالنصارى في مصر عددٌ من الملل. كل واحدةٍ منها لا تؤمن بالأخرى، أو يكفر أحدهم إن ارتحل من ملَّةٍ لأخرى من ملل النصارى الموجودة في مصر.
وليس هذا فقط بل في الساحة النصرانية المصرية تجد في داخل الملة الواحدة عدداً من الملل، التي يُكَفِّرُ بعضها بعضاً. وليس هذا فقط بل: وفي داخل كل فصيل من هذا التقسيم تجد حالة من عدم الرضا والقلق والاضطراب والانشقاق المستمر.!!
وحتى يتضح المقال نضرب الأمثال، وليكن بما اشتهر عند الناس من هذه الملل، وهي ملة "الأرثوذكسية"والتي تبدو في عين بعضهم متماسكة:
الأرثوذكسية في مصر لها ثلاثة كنائس رئيسية، أرثوذكس رومان، يتبعون الكنيسة اليونانية(وهي امتداد للكنيسة الأرثوذكسية الأصلية المعرفة قديمة بالبيزنطية أو اليونانية، أو الكنيسة الشرقية)، وأرثوذكس مصريين، يتبعون كنيسة الأسكندرية التي يتزعمها شنودة الثالث، وكنيسة الأرثوذكس الأمريكان يتبعون الأنبا ماكسيموس الأول، وتسمى ـ عند أهلها بـ" الكنيسة القبطية الحقيقية"أو"كنيسة القديس أثناسيوس الرسولي". وكنيسة ماكسيموس الأول انشقاقٌ على كنيسة شنودة الثالث، انشق ماكسيموس ثم استجلب شرعية من كنيسة أخرى أرثوذكسية منشقة في أمريكا.
وفي الأفق بوادر تأسيس كنيسة أخرى منشقة على كنيسة الأنبا شنودة، والتي بدورها منشقة على الكنيسة الشرقية، إذ يهدد الآن مرقص عزيز بالانشقاق عن الكنيسة وتأسيس كنيسة أخرى أرثوذكسية قبطية في أمريكا. وقبلهما انشقت كنائس كانت تابعة لكنيسة الأسكندرية في الجنوب (أثيوبيا، وإريتريا)، والشمال (أوروبا)، والشرق (الشام والعراق).
وتتواجد تحركات فكرية تنبئ عن انشقاقات قريبة في الساحة القبطية، مثل حركة التكفير للكنيسة التي يتزعمها أستاذ اللاهوت جورج حبيب بباوي، وغير قيلٍ من أولئك الذين يتحدثون بما خطَّ الأنبا "متى المسكين" في كتاباته.
والمتتبع لآليات الانشقاق داخل الأرثوذكس المصريين(أتباع شنودة الثالث) يجد أن بعضها راجع لما يسميه خروج عن العقيدة الأرثوذكسية، وهذا كثير، ومن إفرازاته ماكسيموس الأول، فقد كان من الكهنة التابعين لشنودة ثم أحدث شغباً علمياً ففصلوه، فسافر لأمريكا واستجلب شرعية من هناك. والدكتور جورج حبيب بباوي إفراز لخلافات عقدية أيضاً، ويتحدث بأن هؤلاء خارجون عن الكنيسة الأرثوذكسية (مرتدون)، وحديثه مُدعَّم بالأدلة والاستقراء الموسع في كتابات "آباء الكنيسة".
ودون هذا وذاك يكثر الحديث عن "البدع المكفرة"، كبدعة "الخلاص اللحظي" التي رمي بها زكريا بطرس.
والمتتبع لآليات الانشقاق داخل الأرثوذكس المصريين(أتباع شنودة الثالث) يجد أن بعضاً منها يرجع لأمور "حركية"، أو يقوم به "حركيون" لا علاقة لهم بالناحية العلمية، ينشقون عن الكنيسة بناء على مواقف تتخذها الكنيسة لا على عقيدة تعتقدها الكنيسة، وهذا النوع من الانشقاق جديد، ويترأسه الآن القمص المتطرف "مرقص عزيز" فقد جاهر من قريب أنه يريد الخروج من الكنيسة كلية، وتأسيس كنيسة جديدة تضم أقباط المهجر، يقول: كنيسة لا تتنازل عن قضايا الأقباط !!
فالانشقاقات متتالية، ومستمرة، مع الأخذ في الاعتبار أنهم مشغولون الآن بقضايا كلية من المفترض أن تجمعهم ولا تفرقهم، كالتعاون المشترك بينهم على "إقامة كنيسة الرب على أرض مصر"، وطرد "الضيوف". ومع الأخذ في الاعتبار أنهم مدعومون بالخارج كله، بعد مؤتمرات التنصير العالمية في نهاية الستينيات ومنتصف السبعينيات الماضية.
والانشقاقات ليست فقط بين القائمين على الناحية العقدية والحركية في الكنيسة وإنما أيضاً العامة "شعب الكنيسة"، يمور كالقدر حين يغلي. توجد حالة احتقان بداخل المجتمع النصراني، لغير قليلٍ من الأسباب على رأسها قضية الطلاق، فبعض الباحثين النصارى يتحدث عن نصف مليون أسرة تقف على أبواب الكنائس والمحاكم تصرخ مما أصابها من غمٍّ وهم بسبب "التشدد" في قضية الطلاق، وتحريم ما كان قد أحلَّ لهم الذين كانوا من قبل. وقد تجرأ نفر من هؤلاء وحاصروا الكنيسة واشتبكوا مع بعض "المقدسين".
فكأني غداً بانفجارٍ يحصل في الداخل النصراني، من عامة الناس، على غرار ثورة 25يناير يطيح بالكنيسة الحالية، وإن لم يحدث ، فسيخرج من بين الآباء الموجودين من يخطب ود هؤلاء،ويحدث إنشقاقاً جديداً في الصف الأرثوذكسي التابع لشنودة الثالث؛ ولعل ماكسيموس كان أحدهم، فقد قضى أعواماً يتحرك بين الشباب ـ كما يحكي هو ـ حتى جمع غير قليل من الغاضبين ثم أسس بهم عدداً من الكنائس بعد أن جلب "شرعية" من الخارج. فغداً يتكرر النموذج، بل قد يحدث طوفان يقتلع رؤوس الكنيسة الآن، على غرار ثورة 25 يناير، وربما نرى "ميدان تحرير" داخل كاتدرائية هنا أو هناك. لا أستبعد هذا أبداً.
المقصود أن الانشقاقات داخل الكنيسة النصرانية كثيرة وعلى محاور عدة، ويسعنا أن نقول أن الصف النصراني في حالة انشطار دائم، وفي حالة تناحر فكري، وحركي، وتصدع اجتماعي. وهذا مسكوت عنه حال تناول الحالة النصرانية. فنجد حديث الصحافة والمتابعين عن هذا التجمع المتناحر المنقسم وكأنه "كتلة لا يستهان بها"، ونجد من يقف بعيداً عنهم يحسبهم جميعاً، والحقيقة أن قلوبهم شتى... وأننا نجد تأويل قول الله تعالى في وصفهم {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }المائدة14، فهذه هي الحقيقة التي نشاهدها بأعيننا: أن العدواة والبغضاء استعرت بينهم فأغرت بعضهم ببعض.
ونجد من يتحدث عنهم وكأن في تصعيدهم للمشهد السياسي حلاً لمشاكل مصر. وكيف؟!!
كيف لهؤلاء المختلفين المتناحرين أن يحلوا مشاكل غيرهم؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق