بغداد تدخل العصور المظلمة
صباح علي الشاهر
عندما قال جيمس بيكر وزير خارجية أميركا لوزير خارجية العراق وقت ذاك طارق عزيز "سنعيد العراق إلى القرون الوسطى"، أكان يُهدد أم أنه كان يُعلن قراراً أصبح برسم التنفيذ، وإن كان على نار هادئة؟
أكثر من عقدين من الزمن تفصلنا على اللقاء الإملائي من طرف واحد، والذي عدوه لقاء اللحظة الأخيرة، زاعمين أنه كان حواراً بين وزيرين لبلدين مستقلين، في حين لم يكن سوى لقاء لتبليغ إنذار كُتب بصلف وعنجهية، كانت من سمات القطب الذي أصبح أوحداً وقتها. ليس مهماً أن طارق عزيز ترك الإنذار الصلف على المنضدة، وإنما المهم أن فحوى الإنذار أُبلِغ ليس للقيادة العراقية، وإنما للعالم أجمع، ليعلن لهذا العالم كيف يُترجم غضب أميركا إلى تدمير مُمنهج، وصولاً إلى "الصدمة والترويع"، لتكون هذه الصدمة وهذا الترويع درساً لكل من تسوّل له نفسه الخروج على الإرادة الأميركية.
لم يكن احتلال أفغانستان، ولا تقسيم يوغسلافيا، ولا خروج الدول الاشتراكية من ما كان يُسمى المعسكر الاشتراكي، ولا حل حلف وارشو، هو التدشين العملي للهيمنة الأميركية على العالم، وإنما احتلال بغداد، الذي خُطط له منذ أمد بعيد، فاحتلال بغداد يعني خضوع المنطقة برمتها للقطب الأوحد، وخضوع العالم مُرغماً وإجباره على الإقرار بوحدانية القطب المُهيمن عالمياً، فمصير هذه القطبيّة تحدده الهيمنة على هذه المنطقة المحورية والمفصليّة، ليس بسبب ثرواتها الهائلة فقط، الطاقة على وجه الخصوص، وإنما لأسباب أخرى، منها الموقع الجيوسياسي، ألا وهي المنطقة المسماة بالشرق الأوسط، وما هي شرق أوسط جغرافياً، وإنما هي صرّة العالم وقلبه، إلا إذا اعتبرنا الدالة هي بريطانيا العظمى، و"بكبنها"!
الشرق الأوسط الافتراضي، الموسوم منذ عهد الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، ينبغي إعلان وفاته، والمباشرة ببناء شرق أوسط آخر، شرق أوسط جديد، يتماشى مع وقائع الحاضر، وهيمنة القطب الأوحد، ولذا فإن الدعوة إلى شرق أوسط كبير، أو جديد، ينبغي أن تحمل من جملة ما تحمل هذا المُعطى الذي تصوّر المُخطِط الأميركي أنه بات بحكم الواقع الذي لا مراء فيه، والذي يؤكد الهيمنة الأميركية الأحادية، والكليّة على عالم ما بعد الحرب الباردة، وبلا أدنى لبس، وهو ما سعت وتسعى إلى فرضه الدولة التي تصوّرت أن العالم كله قد وقع كالتفاحة في يدها، والذي لم تفلح لحد الآن في إنشائه، ولسنا بصدد الحديث عن الأسباب التي أعاقت هذا الحلم المُجهض، الذي كان إجهاضه أكبر خدمة للبشرية ومستقبلها، والذي سيكون مؤشراً لعالم سينشأ لا محال، وهو على غير ما أرادت أميركا وتصورت، وعلى غير ما توعد به جيمس بيكر، الذي تمرّغ صلفه وكبرياؤه في وحل العراق، الذي لم تخرج منه أميركا إلا وهي مهلهلة، وربما ستنسحب مرغمه إلى عقر دارها، لتواجه العزلة والأزمات المحتمله، التي ليس أقلها تهديد وحدتها الجغرافية داخلياً، هذه الوحدة التي بدت هشة على غير ما كان متصوراً، بعد أن امتهنت تهديد وحدة أوطان الآخرين وبالقوّة الخارجية الغاشمة والهمجيّة.
أحسب أن شقاً من تهديد جيمس بيكر قد نفذ، وبإتقان وتفوق، إلا وهو الشق المتعلق بإعادة العراق إلى العصور المُظلمة، ربما مجازياً، ولكن إلى حدود بعيدة، فالعراق اليوم موضوعاً في آخر السلم، في الأمن والاستقرار، وفي الخدمات، وفي الصحة والتعليم، والاستثمار المجدي، رغم وجود فرص استثمارية لا مثيل لها بين الدول المحيطة به، وحتى الأبعد، وهو لا يكون في قمة السلم إلا في الفساد والخراب والفوضى، أما على الصعيد الاجتماعي فقد أعادونا إلى عهد داحس والغبراء، والعصبيّة القبلية، وأججوا العصبيات المذهبية والطائفية والأثنية، بحيث بتنا قاب قوسين أو أدنى من الكارثة التي لا تبقي ولاتذر.
لم يشهد العراق في تأريخه، ما يشهده الآن من هدر ممنهج للمال العام، ليس عبر السرقات المكشوفة والمسستترة، وإنما عبر مشاريع غاية في البؤوس والتخلف والتأخر، تصرف عليها مليارات الدولارات دون جدوى، ولا نبعد كثيراً عن الواقع إذا قلنا أن ليس ثمة بلد في العالم يحدث فيه ما يحدث في العراق الآن.
قبل أيام استمعت إلى نائب محافظ المثنى بكل انتباه، كنت أظن أنه سيزف البشرى لجماهير المدينة الذين انتظروا عشر سنوات ليزف أحدهم بشرى الانتهاء من أعمال المجاري والصرف الصحي، والبدء بأعمال إكساء الشوارع، التي كانت عبارة عن حفر ومطبات، بحجة أنه لا يجوز الإكساء إلا بعد الانتهاء من مشروع المجاري، الذي قيل أن عددا من الشركات التزمت تنفيذه ثم أخفقت، وهرب أصحابها، تاركين الخراب والدمار، وكل مرّة يُعلن المسؤولون في المدينة أن الشركة الجديدة إلتي رسى عليها المشروع ستقوم بتنفيذه على أحسن وجه، متجاوزة إخفاقات الشركة التي سبقتها، وإذا بنائب المحافظ يفاجئنا من جديد بأن الشركة الأخيرة فشلت في إنجاز المشروع، وأن المشروع يعاني تخسفات جمه، وأن مدير الشركة غير موجود، وقيل أنه في بغداد، وأن المهندس المقيم قد غادر إلى جهة مجهولة، وهذا يعني أن القضية تتكرر، نفس الأسباب، ونفس القصور، وإن على أبناء المدينة الإنتظار سنوات أخرى إضافية، ومن دونما جدوى.
قضية المجاري والحفريات ليست مقتصرة على السماوة، فأطراف بغداد، وبغداد ذاتها، وديالى، والبصرة، ومدن أخرى عديدة، تعاني ما تعانيه مدينة السماوة، من نفس الشركات تقريباً، مما يدفعنا للتساؤل من يحمي هذه الشركات؟، ومن هم عرابوها؟
القضية هنا لا تتعلق بانعدام الكفاءة، ونقص الخبرة، فإذا كان المسؤول المُنتخب قليل الخبرة، فإن الكادر الموجود في دائرته ومؤسسته، يمتلك هذه الخبرة، ولا يمكن لأحد الزعم بأن الكادر العراقي، وبالأخص في مجال التشييد والإعمار، أقل قدرة وخبرة من الكادر في البلدان الفقيرة، قليلة التطور. القضية أكبر من قضية كفاءة وخبرة، فهذه حتى لو انعدمت فأنه يمكن شراؤها، في عالم يُباع ويشترى فيه كل شيء، ولكن القدرات والخبرات مُعطلة في بلد أريد أن يتعطل فيه كل شيء، ثم من ذا الذي يجبر المسؤولين في أي موقع على إعطاء مناقصات بهذا الحجم إلى شركات تفتقد القدرة والدارية والتأهيل، فتفشل في مهامها، ثم يناط بها مرّة أخرى نفس العمل، ولكن في مكان آخر، ثم كيف تكون هذه الشركات في مأمن من العقاب، وهي تتعامل مع دولة عريقه، فيها من القوانين الناظمة ما يضاهي ما هو موجود في أرقى الدول؟
كيف يمكن لشركة، أو مقاول، أو أي كان، أن يفلت من العقاب، ويذهب بالجمل بما حمل؟ هل أصبحت الأمور سائبة إلى هذا الحد؟ وهل أصبح المال العراقي كالدم العراقي مهدوراً، ولا يوجد من يطالب به، فلماذا أذن لدينا حكومة، وبرلمان، وقضاة؟
الأمر هنا لا يتعلق بالمجاري وإكساء الشوارع، والمجسرات، وإنما يمتد إلى كل المرافق تقريباً، المصانع المعطلة، والكهرباء، والسكك، والصحة، والتعليم، وكل ما يمكن أن يُدرج في البنية التحتية.
قبل فترة أعلنت الصين عن بناء فندق فخم خمس نجوم بكفاءه عالية، ومقاوم للزلزال حتى 9 درجة، مع نظام العزل الحراري العالي الجودة والتقنية، أما المواد المستخدمة في البناء فهي صديقة للبيئة، تم بناء هذا الصرح بتسعين ساعة، نعم تسعين ساعة فقط ياعالم!، وأعلنت عن الشروع بتشييد أعلى برج في العالم، يحطم برج خليفة بتسعين يوماً، تسعين يوما فقط لا غير!، ونحن لا ننتهي من بناء مدرسة إبتدائية بخمس سنوات، ولا نكمل نفق هزيل تحت شارع ضيق إلا بعد سنوات طويلة، ثم نحسب هذا إنجازاً، فيأتي السيد المسؤول متبختراً، مع حشد من الأتباع ليقص الشريط! أخزّاكم الله! العالم يتقدم، يسابق الزمن، ونحن نراوح، فلا نحن أعدنا البنية التحتية إلى ما كانت عليه على الأقل، رغم إنفاقنا مليارات الدولارات التي لم تعرف ميزانية العراق مثيلاً لهـا، ولا نحن وضعنا لبنة، ولو واحدة، لبناء شيء للمستقبل، الذي يبدو مظلماً إذا بقينا على هذه الحال، ولا تصدقوا ما يقولون عن ميناء الفاو الكبير، فما زلنا ليومنا هذا لم نبدأ بكاسر الأمواج حتى، وأغلب الظن أننا سنعتمد ميناء مبارك ميناء لإحتياجاتنا التي لا تتعدى الأمور الإستهلاكية، والمعدات التي سنتركها كالعادة في العراء حتى يصيبها الصدأ.
أعادنا جيمس بيكر إلى العصور المظلمة، هذا أمر شاهدناه وعرفناه، وعشناه، بات الظلام هو الشيء الأبرز في العراق، فلا نور الكهرباء، ولا نور الثقافة، وإنما ظلام الجهل، وتحكم الجاهلين، الذين وجدوا العراق بقرة حلوب، فطفقوا يحلبونها، من دون اعتبار حتى لحدود الحلب التي تجعل المحلوب يدر شيئاً..
يُخيّل لي أن جيمس بيكر لم يرد إعادتنا إلى العصور الوسطى فقط، وإنما أراد تأبيد بقائنا في جحيم التخلف، لذا هندّس لنا نظامنا، هو ومن أتى من بعده، وأختار بهذه الطريقة أو تلك من سيقودنا، وهذا لعمري ما يجعل الحياة أمر من الحنظل، وأقسى من أن تُعاش.
عندما قال جيمس بيكر وزير خارجية أميركا لوزير خارجية العراق وقت ذاك طارق عزيز "سنعيد العراق إلى القرون الوسطى"، أكان يُهدد أم أنه كان يُعلن قراراً أصبح برسم التنفيذ، وإن كان على نار هادئة؟
أكثر من عقدين من الزمن تفصلنا على اللقاء الإملائي من طرف واحد، والذي عدوه لقاء اللحظة الأخيرة، زاعمين أنه كان حواراً بين وزيرين لبلدين مستقلين، في حين لم يكن سوى لقاء لتبليغ إنذار كُتب بصلف وعنجهية، كانت من سمات القطب الذي أصبح أوحداً وقتها. ليس مهماً أن طارق عزيز ترك الإنذار الصلف على المنضدة، وإنما المهم أن فحوى الإنذار أُبلِغ ليس للقيادة العراقية، وإنما للعالم أجمع، ليعلن لهذا العالم كيف يُترجم غضب أميركا إلى تدمير مُمنهج، وصولاً إلى "الصدمة والترويع"، لتكون هذه الصدمة وهذا الترويع درساً لكل من تسوّل له نفسه الخروج على الإرادة الأميركية.
لم يكن احتلال أفغانستان، ولا تقسيم يوغسلافيا، ولا خروج الدول الاشتراكية من ما كان يُسمى المعسكر الاشتراكي، ولا حل حلف وارشو، هو التدشين العملي للهيمنة الأميركية على العالم، وإنما احتلال بغداد، الذي خُطط له منذ أمد بعيد، فاحتلال بغداد يعني خضوع المنطقة برمتها للقطب الأوحد، وخضوع العالم مُرغماً وإجباره على الإقرار بوحدانية القطب المُهيمن عالمياً، فمصير هذه القطبيّة تحدده الهيمنة على هذه المنطقة المحورية والمفصليّة، ليس بسبب ثرواتها الهائلة فقط، الطاقة على وجه الخصوص، وإنما لأسباب أخرى، منها الموقع الجيوسياسي، ألا وهي المنطقة المسماة بالشرق الأوسط، وما هي شرق أوسط جغرافياً، وإنما هي صرّة العالم وقلبه، إلا إذا اعتبرنا الدالة هي بريطانيا العظمى، و"بكبنها"!
الشرق الأوسط الافتراضي، الموسوم منذ عهد الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، ينبغي إعلان وفاته، والمباشرة ببناء شرق أوسط آخر، شرق أوسط جديد، يتماشى مع وقائع الحاضر، وهيمنة القطب الأوحد، ولذا فإن الدعوة إلى شرق أوسط كبير، أو جديد، ينبغي أن تحمل من جملة ما تحمل هذا المُعطى الذي تصوّر المُخطِط الأميركي أنه بات بحكم الواقع الذي لا مراء فيه، والذي يؤكد الهيمنة الأميركية الأحادية، والكليّة على عالم ما بعد الحرب الباردة، وبلا أدنى لبس، وهو ما سعت وتسعى إلى فرضه الدولة التي تصوّرت أن العالم كله قد وقع كالتفاحة في يدها، والذي لم تفلح لحد الآن في إنشائه، ولسنا بصدد الحديث عن الأسباب التي أعاقت هذا الحلم المُجهض، الذي كان إجهاضه أكبر خدمة للبشرية ومستقبلها، والذي سيكون مؤشراً لعالم سينشأ لا محال، وهو على غير ما أرادت أميركا وتصورت، وعلى غير ما توعد به جيمس بيكر، الذي تمرّغ صلفه وكبرياؤه في وحل العراق، الذي لم تخرج منه أميركا إلا وهي مهلهلة، وربما ستنسحب مرغمه إلى عقر دارها، لتواجه العزلة والأزمات المحتمله، التي ليس أقلها تهديد وحدتها الجغرافية داخلياً، هذه الوحدة التي بدت هشة على غير ما كان متصوراً، بعد أن امتهنت تهديد وحدة أوطان الآخرين وبالقوّة الخارجية الغاشمة والهمجيّة.
أحسب أن شقاً من تهديد جيمس بيكر قد نفذ، وبإتقان وتفوق، إلا وهو الشق المتعلق بإعادة العراق إلى العصور المُظلمة، ربما مجازياً، ولكن إلى حدود بعيدة، فالعراق اليوم موضوعاً في آخر السلم، في الأمن والاستقرار، وفي الخدمات، وفي الصحة والتعليم، والاستثمار المجدي، رغم وجود فرص استثمارية لا مثيل لها بين الدول المحيطة به، وحتى الأبعد، وهو لا يكون في قمة السلم إلا في الفساد والخراب والفوضى، أما على الصعيد الاجتماعي فقد أعادونا إلى عهد داحس والغبراء، والعصبيّة القبلية، وأججوا العصبيات المذهبية والطائفية والأثنية، بحيث بتنا قاب قوسين أو أدنى من الكارثة التي لا تبقي ولاتذر.
لم يشهد العراق في تأريخه، ما يشهده الآن من هدر ممنهج للمال العام، ليس عبر السرقات المكشوفة والمسستترة، وإنما عبر مشاريع غاية في البؤوس والتخلف والتأخر، تصرف عليها مليارات الدولارات دون جدوى، ولا نبعد كثيراً عن الواقع إذا قلنا أن ليس ثمة بلد في العالم يحدث فيه ما يحدث في العراق الآن.
قبل أيام استمعت إلى نائب محافظ المثنى بكل انتباه، كنت أظن أنه سيزف البشرى لجماهير المدينة الذين انتظروا عشر سنوات ليزف أحدهم بشرى الانتهاء من أعمال المجاري والصرف الصحي، والبدء بأعمال إكساء الشوارع، التي كانت عبارة عن حفر ومطبات، بحجة أنه لا يجوز الإكساء إلا بعد الانتهاء من مشروع المجاري، الذي قيل أن عددا من الشركات التزمت تنفيذه ثم أخفقت، وهرب أصحابها، تاركين الخراب والدمار، وكل مرّة يُعلن المسؤولون في المدينة أن الشركة الجديدة إلتي رسى عليها المشروع ستقوم بتنفيذه على أحسن وجه، متجاوزة إخفاقات الشركة التي سبقتها، وإذا بنائب المحافظ يفاجئنا من جديد بأن الشركة الأخيرة فشلت في إنجاز المشروع، وأن المشروع يعاني تخسفات جمه، وأن مدير الشركة غير موجود، وقيل أنه في بغداد، وأن المهندس المقيم قد غادر إلى جهة مجهولة، وهذا يعني أن القضية تتكرر، نفس الأسباب، ونفس القصور، وإن على أبناء المدينة الإنتظار سنوات أخرى إضافية، ومن دونما جدوى.
قضية المجاري والحفريات ليست مقتصرة على السماوة، فأطراف بغداد، وبغداد ذاتها، وديالى، والبصرة، ومدن أخرى عديدة، تعاني ما تعانيه مدينة السماوة، من نفس الشركات تقريباً، مما يدفعنا للتساؤل من يحمي هذه الشركات؟، ومن هم عرابوها؟
القضية هنا لا تتعلق بانعدام الكفاءة، ونقص الخبرة، فإذا كان المسؤول المُنتخب قليل الخبرة، فإن الكادر الموجود في دائرته ومؤسسته، يمتلك هذه الخبرة، ولا يمكن لأحد الزعم بأن الكادر العراقي، وبالأخص في مجال التشييد والإعمار، أقل قدرة وخبرة من الكادر في البلدان الفقيرة، قليلة التطور. القضية أكبر من قضية كفاءة وخبرة، فهذه حتى لو انعدمت فأنه يمكن شراؤها، في عالم يُباع ويشترى فيه كل شيء، ولكن القدرات والخبرات مُعطلة في بلد أريد أن يتعطل فيه كل شيء، ثم من ذا الذي يجبر المسؤولين في أي موقع على إعطاء مناقصات بهذا الحجم إلى شركات تفتقد القدرة والدارية والتأهيل، فتفشل في مهامها، ثم يناط بها مرّة أخرى نفس العمل، ولكن في مكان آخر، ثم كيف تكون هذه الشركات في مأمن من العقاب، وهي تتعامل مع دولة عريقه، فيها من القوانين الناظمة ما يضاهي ما هو موجود في أرقى الدول؟
كيف يمكن لشركة، أو مقاول، أو أي كان، أن يفلت من العقاب، ويذهب بالجمل بما حمل؟ هل أصبحت الأمور سائبة إلى هذا الحد؟ وهل أصبح المال العراقي كالدم العراقي مهدوراً، ولا يوجد من يطالب به، فلماذا أذن لدينا حكومة، وبرلمان، وقضاة؟
الأمر هنا لا يتعلق بالمجاري وإكساء الشوارع، والمجسرات، وإنما يمتد إلى كل المرافق تقريباً، المصانع المعطلة، والكهرباء، والسكك، والصحة، والتعليم، وكل ما يمكن أن يُدرج في البنية التحتية.
قبل فترة أعلنت الصين عن بناء فندق فخم خمس نجوم بكفاءه عالية، ومقاوم للزلزال حتى 9 درجة، مع نظام العزل الحراري العالي الجودة والتقنية، أما المواد المستخدمة في البناء فهي صديقة للبيئة، تم بناء هذا الصرح بتسعين ساعة، نعم تسعين ساعة فقط ياعالم!، وأعلنت عن الشروع بتشييد أعلى برج في العالم، يحطم برج خليفة بتسعين يوماً، تسعين يوما فقط لا غير!، ونحن لا ننتهي من بناء مدرسة إبتدائية بخمس سنوات، ولا نكمل نفق هزيل تحت شارع ضيق إلا بعد سنوات طويلة، ثم نحسب هذا إنجازاً، فيأتي السيد المسؤول متبختراً، مع حشد من الأتباع ليقص الشريط! أخزّاكم الله! العالم يتقدم، يسابق الزمن، ونحن نراوح، فلا نحن أعدنا البنية التحتية إلى ما كانت عليه على الأقل، رغم إنفاقنا مليارات الدولارات التي لم تعرف ميزانية العراق مثيلاً لهـا، ولا نحن وضعنا لبنة، ولو واحدة، لبناء شيء للمستقبل، الذي يبدو مظلماً إذا بقينا على هذه الحال، ولا تصدقوا ما يقولون عن ميناء الفاو الكبير، فما زلنا ليومنا هذا لم نبدأ بكاسر الأمواج حتى، وأغلب الظن أننا سنعتمد ميناء مبارك ميناء لإحتياجاتنا التي لا تتعدى الأمور الإستهلاكية، والمعدات التي سنتركها كالعادة في العراء حتى يصيبها الصدأ.
أعادنا جيمس بيكر إلى العصور المظلمة، هذا أمر شاهدناه وعرفناه، وعشناه، بات الظلام هو الشيء الأبرز في العراق، فلا نور الكهرباء، ولا نور الثقافة، وإنما ظلام الجهل، وتحكم الجاهلين، الذين وجدوا العراق بقرة حلوب، فطفقوا يحلبونها، من دون اعتبار حتى لحدود الحلب التي تجعل المحلوب يدر شيئاً..
يُخيّل لي أن جيمس بيكر لم يرد إعادتنا إلى العصور الوسطى فقط، وإنما أراد تأبيد بقائنا في جحيم التخلف، لذا هندّس لنا نظامنا، هو ومن أتى من بعده، وأختار بهذه الطريقة أو تلك من سيقودنا، وهذا لعمري ما يجعل الحياة أمر من الحنظل، وأقسى من أن تُعاش.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق