حُلمُكم يا سادة..!
مصطفى حجازي
الإثنين 19-01-2015 21:32
هل «الحُلم» ترف؟!
ليس عن أضغاث «الأحلام» أو «رؤى الصالحين» أتحدث..!
وإن كنت أعرف أن السياق العام فى مصر- الآن- قد لا يشى إلا بذلك.. فغبار الدجل الإعلامى يملأ الأثير.. وبخور الشعوذة الفكرية يزكم العقول قبل الأنوف.
الحديث- ذو الشجون- هو عن «الحُلم» الذى بغيره لا يكون الإنسان إنساناً.. عن حُلم الترقى فى كل وجدان وفطرة سليمة.. الحُلم الذى يهدى العقولَ الحكمةَ والرؤيةَ والاستراتيجيةَ القادرة على توجيه وتأطير كل تحرك منتج ذى قيمة.
الحديث عن أمور فيها كل «القيم».. ابتذلناها باسم الحديث عن «القيمة»..!
هى «الحرية بكام يعنى»؟!.. وهى الكرامة «نصرفها فين»؟!.. وهو الكبرياء «حيأكلنا يعنى»؟!.. هو العدل «ضرورى» ما المساواة فى الظلم تكفى؟!!.. وبمثلها وبجملة ما ابتذلنا.. «حلم إيه» ما تكلمونا كلام يأكل عيش..؟!! أليس هذا هو لسان الحال فى مجتمعنا أحيانا..!! وألم يكن هو لسان مقال نظام مملوكى حكمنا قرابة الأربعين عاماً، حتى إنه حين سُئل عن حلم مصر القومى ومشروعها.. قال «الصرف الصحى»..!
الهند التى تزاحم على صدارة دول الاقتصاد الواعد، وتضع قدمها فى نادى الكبار الفضائى.. ومن قبله النووى.. لم تحرز كل هذا إلا بحلمها الذى «تجسد» فى غاندى، وإن لم «يشخصن» فيه..!
حَلَمَ غاندى وهو هندى يحيا الكفاف.. «بالكفاية» وفيها كل «العدل»، و«بالكفاءة» وفيها كل «الكرامة».. حلم بإنسانية البشر قبل أن ينشغل بتفصيلات استقلال أو بناء اقتصاد.. حلم بإنسان يمارس هذا الاستقلال ويبنى هذا الاقتصاد.. وأطّر نضاله السلمى لخلق هذا الإنسان.. قبل أن يحرره من الاحتلال.
ومهاتير محمد صاحب الإنجاز المعجز فى نهضة ماليزيا، وهو من كتب كتابه الأشهر «معضلة الملايو» عام ١٩٧٠.. والذى شخّص فيه كل العوار النفسى والمادى لبلاده.. حين أراد هو ومن معه أن يشرعوا فى استنهاض ماليزيا.. وضع فى قلب تحدياته التسعة وهى بدورها أحلام لبلاده.. «كبرياء وطنى مستحق» لأبناء الشعب الماليزى، وبهديه صنع أمة ووطنا ودولة.
أعرف أننا وطن غارق فى الحيرة وعاجز عن الحوار.. وليس فى ذلك عيباً إذا أخلصنا النوايا لنتجاوز تلك الحالة.
نحن عاجزون عن الحوار الذى هو ملاذ شركاء الحيرة.. لأن هناك من يكابر بالحيرة ومن يتاجر بها ومن ينكرها ومن يصنعها صناعة..!
ما الذى يجرى إذاً.. وماذا نحتاج أن نفعل إذا كنا جادين فى أن يعبر هذا الوطن بسلام هذه المرة.. والتى يعرف كل عاقل أن ليس بعدها ثمة مرات أخرى..؟!
وما الذى نفعله جميعاً.. مع غياب «الحوار العام» وحضور «الصخب العام» الذى نتراشق فيه بالمفردات الفارغة..؟!
«الصخب العام» بين جوقة أصوات جهورة «تتشاتم».. وفى ركن آخر من «الحيرة العامة» جدال هامس بين صوت «خفيض» «للعقل التقليدى» القليل.. وصوت «خافت» «للحكمة غير التقليدية» الأقل.. «العقل التقليدى» يتساءل..هل نحتاج خططاً.. هل نرسم خططاً.. هل نحتاج تشخيصا لأمراضنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؟
هل نحتاج خبراء؟ هل نحتاج لمعرفة مدى التغيير- أو قُل- مدى التشوه الذى طال الشخصية المصرية؟
هل نحتاج معرفة الحقائق والأرقام عن كل مجال من مجالات حياتنا؟ هل نعرف تلك الأرقام أم لا نعرفها؟
هل نعرف إلى أى مدى انتقلنا وكيف انتقلنا من فساد الإدارة.. إلى إدارة الفساد.. إلى أن الفساد صار فلسفة ومنهج حياة.. إلى فساد طال الفطرة ذاتها؟
هل نحتاج إلى قراءة عميقة لحقيقة تشابك وتعقيد العلاقات الدولية والإقليمية، وحقيقة الصراعات ومستقبلها فى المنطقة والعالم؟
هل نعرف من نحن وماذا نريد؟ حين نقول «نحن» على من تعود «نحن»؟ وحين نقتفى معرفة ما يصدق عن إرادتنا الجمعية.. هل لدينا وسيلة حقيقية لاستقصاء تلك النتائج والحقائق؟
هل نعمل على خلق مجتمع متزن على ثنائية «الحق والواجب» أم سننتقل من ثنائية «القهر والفوضى» إلى توازنات جديدة ليس من بينها أى «توازن قوة».. بل كلها يراوح بين «توازن الضعف».. و«توازن الجهل».. و«توازن الخوف».. و«توازن الفساد»..؟!
يقيناً، نحتاج كل ما سبق- هكذا يقول «العقل»- ولكن علينا أن نعرف أن كل ما سبق لا يعدو كونه عنصر «الضرورة» الذى بدونه لا يمكن للتحرك نحو المستقبل أن يتحقق عملياً.. ولكن عنصر «الكفاية» والتمام الذى به تتحقق أى من أهداف المستقبل هو أن نحدد ملامح «حلم ذلك المستقبل»، وأن نعرف «ضرورات الضرورات» و«استحقاق الكفايات».. هكذا تقول «الحكمة».
كلام ثقيل مرة أخرى.. حديث عن ملامح المستقبل وعن الحلم وعن كل تلك الأمور غير الملموسة أو المقاسة كمّاً.
نحتاج الحديث عن خطط وموازنات ومواد بناء وطاقة.. وأنتم تتحدثون فى تلك التهويمات عن الحلم وملامحه.. يأتى رجع الكلام هكذا من أحد أطراف «الصخب العام».
من قال إن حال وصولنا إلى مصادر ذات جودة وأسعار منافسة لمواد البناء وعمال بناء، أننا نحتاج إلى معرفة تصميم المبنى الذى نحن بصدده.. يعنى إيه تصميم مبنى..؟! أفكار ملونة وتهويمات هندسية تدور فى عقل بعض الحالمين، الذين نسمهم مجازاً مبدعين، توضع على ورق بأشكال زاهية..؟! من قال إن «العقل والعلم والخيال والحلم» شروطٌ، بغيرها لن يكون جدوى أو أمل فى توظيف الموارد الطبيعية؟.. المهم توفير المواد الطبيعية والقدرة على شرائها.. هكذا يجادل طرف آخر من ركن آخر فى «الحيرة العامة»!..
هل الخيال ترف؟!.. هل التفكير ترف؟!.. هل تحديد الوجهة وملامح الهدف وتعريف النصر ترف..؟!
هل من المقبول أن نقدم أولوية مناقشة خطوات الإمداد والتموين فى حق جيش خرج ليحارب معركة بقائه، على حتمية تعريف النصر المروم، وتحديد الأهداف الاستراتيجية من تلك الحرب؟.. هكذا تجادل الحكمة..!
يا سادة..الأحلام ليست ترفاً ولا تهويمات فلاسفة أو خيال شعراء.. ولكنها شرف وفرض.. لكل فرد أراد أن يحيا إنساناً.. ولكل مجتمع أراد أن يبنى وطناً. الأرواح المبتورة والمتنازلة عن إنسانيتها لن تبنى اقتصاداً ولا سياسة ولا دولة ولا حضارة.. حتى وإن توفر لها كل الموارد.
الأحلام لا تتقادم.. لذا لا تسقط بالتقادم.. ولا يملّنا الحلم حتى نملّه.. ولا يهجرنا حتى نهجره.. ولا يحرم علينا إلا إذا تثاقلناه وبددنا أهليتنا لتحقيقه وبقينا هملاً بين البشر والأمم.. وحتى إذا مللناه وهجرناه فهو مختزن فى رحم الزمن لمن يستحقونه ولمن هم أهله.. وعياً وعملاً وجلداً.. وهو حرام على من يستنطقونه بكبر الجهل والتمنى الكاذب أو باختزاله فى سلعة أو رقم.
وأخيراً.. إذا قلنا إن «الوعى» هو «وضوء العقل من أجل المستقبل».. فـ«الحلم» هو أول «النُسُك» فيه.
فكّروا تصحوا..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق