أحجية الشرق الأوسط تصبح أكثر تعقيدا
© RIA Novosti. Сергей Пятаков20:00 | 2012 / 11 / 24
كتب فيودور لوكيانوف، رئيس تحرير مجلة "روسيا في السياسة العالمية" ("Russia in Global Affairs" )
لقد أسفرت موجة تصعيد جديدة في نزاع الشرق الأوسط عن نتائج عدة، أهمها أن حركة "حماس" الفلسطينية أصبحت لاعبا شرعيا معترفا به من قبل الجميع في شؤون المنطقة، فيما تقدمت مصر إلى مواقع سياسية أمامية، وهي تنتهج خطا مستقلا يختلف كل الاختلاف عن ذلك الذي كانت القاهرة تتبعه في عهد حسني مبارك. أما إسرائيل فوجدت نفسها ضمن محيط أكثر عدائية لها منذ النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي.
وفي الوقت ذاته عانى الأردن حالة من الاضطراب والبلبلة واستمرت الانظمة الملكية من السعودية الكبيرة وحتى قطر الصغيرة في حياكة المخططات المعقدة في محاولة منها لتوطيد مواقع القوى الصديقة في البلدان "الثورية" ومواجهة تنامي الحراكات الشيعية في الشرق الأوسط كله.
وفي الحصيلة الأولية، دخلت الأوضاع في الشرق الأوسط في تشابك أكثر الآن، وذلك بخلاف زمن القرن العشرين عندما ساد وضوح حول خط امتداد جبهة المواجهة. حينذاك كانت القوى الهامشية مثل الإسلاميين الراديكاليين تتعرض للقمع من كل الأطراف، بينما كان اللاعبون النظاميون يتوصلون إلى اتفاقات بينهم بصورة شكلية أو غير شكلية، وإن كانوا يختبرون قدرات بعضهم البعض وصلابتهم من حين إلى آخر في حروب إقليمية. أما اليوم فيتعذر فهم من يقف إلى جانب من وخلال كم من الوقت!
وتحاول الولايات المتحدة منذ بداية العام 2011 وعلى عجل بناء علاقات مع القوى الجديدة التي وصلت إلى سدة الحكم على موجات "الربيع العربي". ولكن لا تحمل هذه الجهود الأمريكية المحمومة أي طابع منظوماتي بل وتقتصر على التعامل، كحد أقصى، مع تعرجات السياسة المحلية المحدودة الأبعاد. والنتيجة مثيرة للمفارقات العجيبة حيث أن واشنطن تجد نفسها واقفة مرة تلو الأخرى إلى جانب أولائك (قوى الإسلام الراديكالي المتطرف) الذين خاضت ولا تزال حربا شعواء ضدهم، بينما لا يتورع حلفاؤها الجدد عن الاستفادة من الدعم الأمريكي، مستغلين سعيها إلى الحفاظ على مواقعها، دون أن يكفوا عن الحقد على الولايات المتحدة، والغرب عموما وإسرائيل، بطبيعة الحال. وتبقى حماية مصالح الدولة العبرية، مع ذلك، من الأولويات الدائمة والمطلقة للسياسة الأمريكية، ما يجعل الوضع في غاية السخافة!
وفيما يخص الاتحاد الأوروبي فتتركز اهتماماته على تسوية المشكلة السورية "على هواه". ونجد دليلا جديدا على ذلك في القرار الجماعي الذي اتخذه الاتحاد، الأسبوع الماضي، بشأن الاعتراف بـ "الائتلاف الوطني السوري" المعارض باعتباره ممثلا شرعيا للشعب السوري رغم أن هذا الائتلاف، مثل سلفه "المجلس الوطني السوري"، لا يمثل جميع المعارضين للسلطات السورية الرسمية. ولا تعرف القارة العجوز في الوقت ذاته ما يمكنها أن تعمل مع قطاع غزة لأن دعمها المتواصل لإسرائيل تبعد البلدان العربية عنها، خاصة فلا يعترف الاتحاد الأوروبي بحركة "حماس" رغم أن تلك الحركة فازت بالانتخابات التشريعية الديمقراطية في الأراضي الفلسطينية. وعلى خلفية التطورات الأخيرة حول قطاع غزة ظهرت السلطة الفلسطينية الرسمية في الضفة الغربية كمن لا يعبأ به كثيرا نظرا لعدم سيطرتها على القطاع من فترة طويلة.
أما المؤسسات والهيئات الدولية مثل رباعية الوسطاء الدوليين للتسوية في الشرق الأوسط، فلا يتذكرونها بعد أحداث غزة وحولها إلا بسخرية، حيث أن قوى أخرى تماما صارت تحدد ديناميكية التطورات في هذا الجزء من العالم. كيف لا، فاسم توني بلير لم يذكر ولو مرة واحدة بالارتباط بتلك الأحداث، رغم أنه يعتبر ممثلا مفوضا للجنة الرباعية التي تضم الولايات المتحدة، روسيا، الاتحاد الأوروبي وهيئة الأمم المتحدة.
قد يتولد انطباع في هذا الصدد أن الأنظمة الملكية لدول الخليج العربية تعتبر الجهات المستفيدة الوحيدة من الوضع الناشئ، إلا أن هذه الحقيقة ليست بديهية تماما، لأن تلك الدول بالذات تبدو قلقة على استقرارها الداخلي أكثر من أي وقت مضى. صحيح أن إمكانيات هذه الدول الغنية بالموارد الهيدروكربونية تتيح لها امتصاص غضب المواطنين عن طريق ضخ الاعتمادات المالية. ولكن لا تستطيع هذه الأنظمة شراء كل شيء، خاصة وعامل الشيعة الذي يلعب دورا ملحوظا متناميا في المملكة العربية السعودية، والبحرين والكويت، لا يرتبط بالأوضاع المالية بقدر ما تعود جذوره إلى حالة عدم المساواة السياسية.
لكن في ظروف النهوض الشيعي في إيران والعراق وليبيا، ووجود المخاطر في الساحة الأردنية قد يؤدي أي تغيير في أوضاع الشيعة في الأنظمة الملكية في دول الخليج العربية (وحتى نحو تحسينها) إلى حدوث طفرة في النشاط السياسي وهذا ما تخاف حكوماتها منه. ويظهر النزاع في سوريا التي اتخذت المواجهة السنية – الشيعية في مجرياته مكان الصدارة بكل جلاء اليوم، أن محاولات إقصاء الشيعة (وإيران في المقام الأول) عن مواقعهم الإقليمية التي تمكنوا من احتلالها في الآونة الأخيرة، لا تنجح. ويمثل بقاء نظام بشار الأسد في السلطة وصموده في جبهات القتال بعد أن اعتبروه فاشلا ومكتوبا عليه بالسقوط في بداية هذه السنة، دليلا على ذلك.
أما في ما يتعلق بروسيا فهي بالمقارنة مع غيرها من اللاعبين في ساحة الشرق الأوسط تجد نفسها في وضع مريح نسبيا، لكونها لا حاجة لها لكي تتدخل، بالضرورة. بالطبع، لا أحد يستطيع منعها من طرح مبادرات دبلوماسية ومشاريع قرارات في مجلس الأمن الدولي، ولكن قبولها أو عدم إقرارها لن يؤثر عليها حيث أن موسكو لن تفقد شيئا من جراء ذلك التطور أو ذاك. ويثبت تطور الأحداث صحة تلك المقولة التي تكررها روسيا دون كلل وملل في خضم "الربيع العربي" أن التدخلات الخارجية لن تجدي نفعا في المنطقة حيث تشابكت الأمور وتعقدت لدرجة لا تقدر القوى الخارجية معها صنع قرار سحري وفرضه، لأن الوضع هناك يصبح أكثر فأكثر تعقيدا من جراء ذلك.
لكن بخلاف موسكو لا يمكن لواشنطن أو العواصم الأوروبية النأي عما يجري في المنطقة. فبالنسبة لأمريكا تعود المسألة إلى حرصها على هيبتها العالمية، بينما تكون هموم أوروبا مرتبطة باعتبارات استقرار الشرق الأوسط الواقع على مقربة مباشرة من حدودها الجغرافية.
وعودة إلى روسيا يمكننا أن نلحظ أنها تستطيع أن تلعب دورها كقوة أقل ارتباطا من غيرها بشؤون المنطقة من حيث مصالحها الحيوية. وتكمن قيمتها بالذات في شغلها موقفا يختلف عن الموقف الغربي، وإن تتعرض موسكو من جراء ذلك حتى الآن لألذع الانتقادات. ذلك أن هناك اعتقادا ساذجا مفاده أن روسيا في حال انضمامها إلى الغرب يمكنها أن تجعل التسوية المنشودة أقرب. أضف إلى ذلك أن هذا الاعتقاد يحمل طابع التكبر حيال باقي اللاعبين الإقليميين في الشرق الأوسط.
إن أحجية الشرق الأوسط لا حل لها في إطار المقاربات الحالية منها وفي المستقبل المنظور. وفي ظل عدم وجود ميزان القوى السابق والثابت، كما في الماضي غير البعيد، وكذلك فرص واقعية لإيجاد توازن جديد في المصالح، يجب النظر في كل الاحتمالات حتى حدوث انعطافات جذرية في العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران، وبين إسرائيل وإيران، مثلا.
ومما يمكن حدوثه أيضا إعادة النظر إلى كيان الدولة الفلسطينية التي لن تنشأ أبدا بشكل كانوا يتكلمون عنه دوما. كما من الجائز جذب لاعبين جانبيين من خارج المنطقة مثل الهند والصين لممارسة وساطات بين أطراف النزاعات فيها. ذلك أن من غير المجدي التظاهر بأن هيكل الشرق الأوسط يمكن رأبه واستعادته كما كان في الأزمنة غير البعيدة.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق