في عام 2009 نشرت صحيفة المصريون الموقّرة ملخصاً لخطاب السفيرة الأمريكية السابقة مارجريت سكوبي في حفل بمناسبة مرور ثلاثين عاما على إنشاء المركز الثقافي الأمريكي بالإسكندرية ، كشفت فيه النقاب عن عزم الولايات المتحدة علي إنشاء : "العشرات من المدارس النموذجية بالقاهرة والإسكندرية بمناهج وإدارة أمريكية كاملتين بتمويل من المعونة الأمريكية، وبالاتفاق مع وزارة التربية والتعليم ، وقالت إن الدراسة بتلك المدارس ستكون بالمجان، وتخصص للطلاب المتميزين ممن تنطبق عليهم الشروط الأمريكية، وأوضحت أن الهدف من ذلك هو تخريج مئات الطلاب سنويا ليكونوا نواة لقاعدة طلابية متوافقة مع أحدث الأساليب المتبعة بالولايات المتحدة" [1] ، وقبل ثلاثة شهور ، وأمام الكونجرس الأمريكي أدلي عدة خبراء دوليون في شئون الحركات الإسلامية المصرية بشهادتهم بشأن تطور موقف تلك الحركات علي الساحة السياسية المصرية بعد الثورة ، وفي التوصيات الملحقة بتلك الشهادات أوصي الأستاذ الدكتور أحمد صبحي منصور رئيس المركز العالمي للقرآن الكريم والأستاذ السابق بجامعة الأزهر الإدراة الأمريكية بالتدخل المباشر في تغيير أنظمة التعليم المصرية بما يشمل الأزهر ومؤسسات التعليم العالي حتي يمكن للولايات المتحدة أن ترقي صورتها في عقول المصريين ، وحتي يمكنها الفوز في الحرب الفكرية ضد ما أسماهم بــ"السلفيين الراديكاليين" ، وحتي يمكن للإدارة الأمريكية أيضاً أن تضمن تقبل الشعب المصري للديمقراطية والليبرالية بأنموذجيها الأمريكيين [2].
وبعيداً عن الولايات المتحدة التي تشكل أهم وأخطر عائق أمام المشروع الإسلامي في مصر ، فإن الواقع المصري يبرز لنا ظاهرتين في غاية الأهمية والخطورة أيضاً ، الظاهرة الأولي هي الغياب الكامل لأي منظومة تعليمية متقدمة ومتطورة وعاية الجودة ذات مرجعية إسلامية بل إن المنظومات الأعلي جودة والأكثر تطوراً وتقدماً هي منظومات غربية إما أمريكية علمانية أو فرنسية نصرانية مثل مدارس الراهبات المنتشرة في المدن المصرية ، أما الظاهرة الثانية فهي حالة فقدان الهوية الثقافية والحضارية التي يعاني منها الإنسان المصري علي تنوع بيئته وطبقته الاجتماعية والتي نجحت الأنظمة المصرية منذ انقلاب يوليو 1952 في تثبيتها في وعي وعقل الإنسان المصري بشتي الصور والأشكال ، فمبادئ القومية العربية قد استبدلت بمبادئ الإنتماء للأمة الإسلامية ، والحطام الذي يسمي بـ(الثقافة المصرية) قد استبدل بالثقافة الإسلامية المستمدة من السنة النبوية المطهرة وتراث الأجيال الأولي لهذه الأمة ، وبالتالي فأصبح الإنسان المصري رهين ثلاثة محابس : الأول هو الحدود الجغرافية التي رسمتها له قوي الاحتلال الغربي بدئاً من اتفاقية سايكس-بيكو وانتهاءاً باتفاقية الجلاء المشئومة ، والثاني هو النظام القومي الوطني الذي أسسه عبد الناصر علي جماجم الدعاة والمفكرين الإسلاميين اقتداءاً بتجارب الثورات الشيوعية والاشتراكية آنذاك ، والثالث هو نظام التعليم الغربي القائم علي المبادئ المهلكة للمادية Materialism والحداثة Modernity والذي أصبح هو (التعليم العام) إلي يومنا هذا ، حتي الأزهر الشريف تم اعتقاله في هذا المحبس أيضاً بتشويه نظام الدراسة فيه وطمس الهوية الإسلامية لمناهجهه التعليمية إلي حدٍ كبير.
إذن فالنظر إلي هاتين الظاهرتين بعين الإعتبار سيرينا أن الأجيال الناشئة في مصر الآن ليس أمامها نظام تعليم عالي الجودة ومتطور إلا كان محفوفاً بالثقافة التغريبية التي تسلخ التلاميذ في هذه السن المبكرة مما قد تبقي من هويتهم الإسلامية والتي ربما يد تلقاها بعضهم علي يد أبويه إن كانا ممن يعرف بعض ملامح تلك الهوية الضائعة ، أما الجيل الفاعل في مصر الآن وهو جيل الشباب فقد تم تغريب أغلبه من خلال ما ذكرنا من عناصر ثقافية مزيفة أفرزت وحشةً مظلمةً بين أبناء هذا الجيل وبين أمتهم الإسلامية العالمية ، بما تحمله من مشاكل وهموم وأزمات ، وفي نفس الوقت تقف الولايات المتحدة موقفاً متربصاً لا تري من خلاله سوي مصالحها التي ترتكز علي أربعة محاور كما ذكرت في مقالي السباق [3] ، وأهم هذه المحاور يتطلب استمرار عملية التغريب الثقافي والفكري الحادثة في مصر وذلك من خلال عدة مسارات أهمها التعليم ، ومنظمات المجتمع المدني ، والفنون والإعلام.
أين الإسلاميون من كل هذا...؟
منذ عهد عبد الناصر إلي نهاية عهد مبارك مرَّ الإسلاميون بعدة محن وانفراجات ، وهبط منحني الدعوة الإسلامية إلي مستويات تكاد تقترب من الصفر ، وصعد وارتفع إلي مستويات تكاد تقترب من القمة ، لكن خلال كل تلك العقود كان محظوراً علي أصحاب المشروع الإسلامي باختلاف أطيافهم ومسميات جماعاتهم أن ينشئوا منظومات تعليمية خاصة بهم ترتكز علي مبادئ الشريعة الإسلامية لبناء إنسان مسلم مدرك لعمقه الثقافي الحضاري وقادر علي مواجهة التحديات التي تفرضها مكتسبات الحضارة الإنسانية الحديثة سواءاً كانت تلك التحديات علمية أو اقتصادية أو أدبية ثقافية. وهذا الحظر كان يرجع لإدراك أهمية التعليم في السيطرة علي الجماهير سواءاً من النظام الشمولي اليساري لعبد الناصر ، أو من النظام المدعوم أمريكياً وصهيونياً الذي أسسه السادات باتفاقية كامب ديفيد وخلفه مبارك وعصابته علي رأس ذلك النظام فيما بعد ، فتوصيات المركز الثقافي الأمريكي بالقاهرة والتي كانت تعتبر من أهم المراجع لصياغة سياسة مصر إبان عهد المخلوع كانت لا تخلو من التنبيه علي تطوير التعليم بما يتوافق مع الأهداف الأمريكية في مصر ، وأحياناً كانت تطلب من الحكومة المصرية هدم ما (تعتقد) الولايات المتحدة أنه مدارس إسلامية ، وكانت جماعة الإخوان المسلمين هي المستهدف الأول من تلك المطالب لاسيما وأن التيار السلفي كان محظوراً عليه علي الإطلاق إقامة مثل هذه المدارس ، وحادثة مدرسة الجزيرة بالإسكندرية لا تزال ماثلة في الأذهان.
وبالتالي فإن سؤال الإسلاميين عن دورهم في مواجهة الغزو التغريبي من خلال توفير أنظمة تعليمية عالية الجودة وعلي قدر منافس من التقدم والتطور لأنظمة التعليم التغريبية لن يكون مجدياً علي الإطلاق ، إذ أن خلال الستين عاماً الأخيرة كانت كل التيارات الإسلامية ليس لها منافذ لنشر أفكارها سوي من خلال المساجد والقليل من الجمعيات الخيرية وعلي الرغم من فعالية العمل من خلال تلك المنافذ إلا أن الفكر الذي ينشر بهذه الطريقة لا ينجح في بناء الجيل المطلوب للنهضة الإسلامية الحقيقية والتي يعتقد البعض أن بوادرها قد بدأت تلوح في الأفق القريب الآن ، وذلك لعدة أسباب ، من أهمها: 1- أن التعليم الأساسي والمتوسط هو أهم مرحلة يتم فيها بناء الهوية الإسلامية للإنسان ، وفي أغلب الأحيان يصعب مخاطبة النشئ في هذا السن من خلال المساجد ووالدروس والخطب الوعظية ، حيث يكتسب الطفل أغلب العناصر المكونة لهويته الثقافية من المدرسة ثم البيت 2- أن المواد المتاحة للخطاب الفكري من خلال المساجد لا تعدو أن تكون مواد دينية بحتة ربما تعلقت بالعقيدة أو الفقه أو تحفيظ القرآن ، بينما المواد الثقافية مثل التاريخ الحديث للأمة الإسلامية ونقد الفكر الغربي بمختلف صوره والتي تستطيع بالفعل مواجهة الخطاب الفكري التغريبي السائد في المجتمع من غير الممكن توجيهها من خلال المساجد ، لا سيما للنشئ والأطفال 3- انعدام المنهجية التربوية في الخطاب الفكري في المسجد ، وذلك لأن القائمين علي وضعه وتدريسه وتقييمه من غير المتخصصين في تقنيات التربية وعلومها بل هم في الأغلب من الدعاة الدينيين والشباب المتحمس لنشر علوم الدين والفقه وتحفيظ القرآن ، وغياب المنهجية التربوية يجعل تأثير الخطاب الفكري في المسجد يتطاير بسهولة بمجرد احتكاك المتلقي بمناهج فكري قائم علي أسس تربوية وتلقينية صحيحة كذلك الذي يقدم من خلال الإعلام الحكومي والخاص وكالموجود في المدارس الغربية المنتسرة في مجتمعاتنا والتي يأتي جزء غير صغير من مناهجها وطرق التربية والتدريس فيها من دزل غربية كأمريكا وفرنسا وانكلترا.
و بعد انهيار النظام الطاغوتي منذ ستة اشهر تقريباً تغير هذا الواقع تماماً ، فقد أصبحت الفرصة متاحة تماماً أمام التيارات الإسلامية – بكافة أطيافها – للجهاد في جبهة الإصلاح الحقيقية ، وهي جبهة إيجاد منظومات تعليمية عالية الجودة وبالغة التقدم والتطور ذات أسس ثقافية وفكرية إسلامية ، والتي يفترض بها أن تهدف إلي : 1- توفير مدارس أهلية متميزة لأبناء الدعوة الإسلامية ليحظوا ببناء ثقافي إسلامي أفضل مما حظي به الجيل الحالي في الدعوة وبالتالي يحدث تطور نوعي في وسائل تحقيق المشروع الإسلامي في المستقبل القريب 2- مقاومة المد التغربي في التعليم الخاص ، والذي يلجأ إليه العامة – في حالة قدرتهم علي تكاليفه – ابتغاءاً للجودة المتوفرة فيه والتقدم العلمي الغربي الذي سيتيح لأبنائهم معيشة أفضل في المستقبل 3- مقاومة الفكر التربوي والتعليمي والإعلامي التغريبي المنتشر في المجتمع والذي يتهم الإسلام – والإسلاميين علي حدٍ سواء – بالتخلف العلمي و العجز عن مواكبة العصر والتقدم والإلمام بمكتسبات الحضارة الإنسانية المعاصرة ، ودحض ذلك الزاعم عن طريق ضرب أمثلة حية بمنظومات تعليمية فائقة الجودة وبالغة التقدم والتطور مبنية علي أسس ثقافية وفكرية إسلامية مستمدة من الكتاب والسنة النبوية المطهرة والتراث النقي لهذه الأمة.
لكن ما رأيناه من التيارات الإسلامية – وأخص بالنقد الدعوة السلفية لأن قادتها كانوا من أكثر المفكرين الذين أصلوا لأهمية هذه الجبهة في الصراع لإعادة بناء الحضارة الإسلامية – أن خلال الستة أشهر التي تلت سقوط النظام قد تم تأسيس حزب تابع للإخوان المسلمين وثلاثة أحزاب تابعة للدعوة السلفية باختلاف أطيافها...ولم يتم تأسيس مدرسة نموذجية مثالية إسلامية واحدة...! ولم يتم تأسيس وإطلاق مشروع قومي لإنشاء مدرسة أهلية واحدة علي الأقل بكل محافظة توفر نظاماً تربوياً وتعليمياً علي قدر فائق من الجودة منصهراً مع مناهج ثقافية إسلامية تعيد بناء الثقافة الإسلامية المحطمة عند أبنائنا...! ومن خلال مئات البرامج التلفازية التي تقدم علي كل القنوات الإسلامية لم نسمع أحداً يتحدث عن بناء مشروعٍ تعليمي إسلامي متقدم يقود أبناء الدعوة الإسلامية لتحقيق ما عجز آبائهم عن تحقيقه...!
بالطبع فإن الأولويات السياسية التي فرضت نفسها علي كل التيارات الإسلامية يمكن تفهمها واستيعابها ، لكن ما لايمكن تفهمه ولا استيعابه هو الغياب الكلي لأهم أولويات المشروع الإسلامي المصري ! وما لا يمكن تفهمه ولا استيعابه أيضاً هو الاستغراق الكامل لكل أجنحة التيارات الإسلامية – والدعوة السلفية خصوصاً – في الأنشطة السياسية وما يتعلق بها ، بما أفرز لنا ثلاثة أحزاب سياسية – خاضعة لقانون الأحزاب بطبيعة الحال ومع ذلك أطلق عليها أنها (ذات مرجعية سلفية !!) - نظمت مؤخراً بالتعاون مع معظم مشايخ التيار السلفي تظاهرة مليونية ضخمة للاعتراض علي (احتمال) قيام الحكومة بوضع مبادئ حاكمة للدستور - وبعيداً عن الإجابة المستحيلة عن سؤال (لماذا ثلاثة أحزاب وليس حزباً واحداً طالما كان كل منها ذو مرجعية سلفية ؟) فإننا في نفس الوقت لم نر أو نسمع عن أي حملة من هذه الأحزاب أو هؤلاء المشايخ (الداعمين للأحزاب) لجمع تبرعات أو طرح أسهم من خلال اكتتاب عام لإطلاق أول مؤسسة تعليمية إسلامية تقوم بأداء فرض الكفاية عن المسلمين ، والنضال علي جبهة التعليم ضد التغريبيين وضد مخططات الولايات المتحدة للمزيد من الإفساد في حياتنا العليمية والتربوية والثقافية !!
إن من يظن أن وصول الإسلاميين إلي سدة الحكم سواءاً بأغلبية برلمانية أو كرسي الرئاسة أو كليهما معاً سوف يجعل تطبيق خطة الإصلاح الإسلامية التي لاتزال حلماً يراود الإسلاميين أمراً متاحاً وممكناً ، إن من يظن هذا فقد جانبه الصواب جملةً وموضوعاً. إن الولايات المتحدة والمجتمع الدولي الغربي لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام سقوط أهم دولة إسلامية وعربية في أيدي التيارات الإسلامية التي يدركون جيداً مدي خطورتها علي النظام العالمي الذي جاهدوا مئات السنين لإرسائه ، ومن ثم فإن الإسلاميين سيتعرضون لمحن كبيرة في حالة اصرارهم علي الإصلاح من خلال قمة الهرم السياسي والاجتماعي فقط ، وسيحتاجون للدعم الشعبي (الفكري وليس العاطفي) لمواجهة مثل هذه المحن وما سيصاحبها من تحديات اقتصادية جمة [3] ، فكيف سيتمكن الإسلاميون من الحصول علي هذا الدعم الشعبي مع غياب جيل مؤهل ثقافياً وإسلامياً لاستيعاب مبررات الإسلاميين لخوض مثل هذه المحن ومواجهة مثل هذه التحديات ؟؟ كيف سيقنع الإسلاميون جماهير الشعب المصري بواقعه الثقافي والديني الحالي بتحمل عقوبات دولية اقتصادية – قد تتسبب في أزمات غذائية وصحية مخيفة - محتملة للغاية في حالة وصول التيار الإسلامي لسدة الحكم ؟ كيف سيقوم الإسلاميون في حال وصولهم لسدة الحكم في المستقبل القريب بإصلاح منظومة التعليم الحكومية المهترئة والتي تم تدميرها وتشويهها علي مدار الستة عقود الأخيرة ، مع غياب تعليم أهلي فعال يفي باحتياجات الإسلاميين أنفسهم أثناء الوقت الذي سيتطلبه إصلاح تلك المنظومة الحكومية المتحللة...؟ هذه الأسئلة موجهة بشكل رئيسي إلي شيوخ التيار السلفي الذين كانوا يناضلون في سبيل إصلاح (قاعدة الهرم) طوال الأربعة عقود الأخيرة ، والذين تحولوا بالكلية إلي إصلاح (قمة الهرم) وأهملوا (قاعدته) كلياً بعد أن أصبحت جاهزة تماماً للإصلاح...!
المراجع
1- " لتخريج أجيال متأثرة بالأسلوب الأمريكي.. "سكوبي" تعلن إنشاء مدارس أمريكية بالقاهرة والإسكندرية الدراسة فيها بالمجان" – صحيفة المصريون بتاريخ 21-10-2009 ، بقلم أحمد حسن بكر
2- "خبراء يدلون بشهاداتهم أمام الكونغرس الأمريكي عن الإخوان المسلمين" تقرير منشور بمركز المسبار للدراسات والبحوث ، بتاريخ 14-06-2011 - http://www.almesbar.net/index.php?option=com_k2&view=item&id=191
3- خيارات الإسلاميين أمام مستقبل العلاقات المصرية – الأمريكية – صحيفة المصريون بتاريخ 07-08-2011 بقلم د. خالد صقر ، http://www.almesryoon.com/news.aspx?id=72566
باحث زائر – جامعة ماليزيا التكنولوجية
khaledsaqr@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق