الوهم الأول، أن أغلب المصريين عقولهم فى آذانهم. وكأن الإنسان المصرى بلا عقل يفكر به، وبلا حس داخلى يمكن له أن يميز الخبيث من الطيب والمدعى من الصادق.
نعم بيننا من هو مستعد لبيع صوته مقابل مبلغ من المال، وبيننا من قد يتبنى موقفا ما بسبب حماسة دينية حتى لو كانت مغلوطة، وبيننا من لم يقرأ فى حياته كتابا ولا خط كلاما بيمينه بسبب الأمية التى خلق أسبابها نظام فاسد، ولكن هل يعقل أن نجعل هؤلاء هم الممثلون الشرعيون الأساسيون للشعب المصرى؟ شكسبير وصف هذه الحالة فى مسرحية يوليوس قيصر حين قال: «عقول العامة فى آذانهم» وهو نفس المعنى الذى جاء فى مسرحية «مصرع كليوباترا» لأحمد شوقى حين قال: «اسمع الشعب (دُيُونُ) كيف يوحون إليه، ملأ الجو هتافا بحياة قاتليه، أثّر البهتانُ فيه وانطلى الزور عليه، ياله من ببغاء عقله فى أذنيه».
ولكن هكذا يقول الساسة المهزومون فى كل بقاع الدنيا، حيث يصبون جم غضبهم على الناخبين لأنهم لم يجددوا لهم العهد أو البيعة. ألم يقل وينستون تشرشل فى ثلاثينيات القرن الماضى: «إن أفضل حجة ضد الديمقراطية هو حوار لمدة خمس دقائق مع مواطن عادى.؟ وهو نفس المعنى الذى قال به ماريانو رومر (رئيس وزراء إيطاليا فى الستينيات) والذى وصف الناخبين الإيطاليين بأنهم غير واعين بخطورة الصوت الانتخابى الذى يحملونه. وهو نفس ما يفعله بعض النخبة عندنا حين تكون تفضيلات الناس على غير هواهم.
الوهم الثانى، أن وعى النخبة أفضل بالضرورة من الوعى الشعبى. ولا أعرف من أين يأتى هذا التكبر فى إبداء الرأى. من يقرأ ما قاله هيجل عن «دهاء التاريخ» وما كتبه أرنولد توينبى عن «التحدى والاستجابة» وما كتبه إدوارد سعيد عن «خطورة الاختيارات المحدودة التى يتوهمها المثقفون» وما كتبه مانسور أولسن عن «تاريخية عملية تقييم القرارات الرشيدة الآنية»، بل عنوان رواية نجيب محفوظ الشهيرة «عبث الأقدار». كل ذلك وغيره، يؤكد أن اختيارات النخبة قد لا تكون الاختيارات السليمة بالضرورة وهو ما يفرض علينا أن نترفق بأنفسنا وببلدنا عند إبداء آرائنا.
الوهم الثالث، بما أن ذلك كذلك، «فأمر مصر أخطر من أن يترك فى يد العوام وحدهم» كما قال أحد المثقفين فى نقاش عام.
وعليه فهؤلاء يعتقدون أنه لابد من الإقصاء لمن لا يعلم ما يعلمون، ولابد من التصعيد ضد من لا يقول ما يقولون، ولابد من الوصاية على من لا يعرفون ما يعرفون. وإن صح هذا الكلام، إذن فهؤلاء القوم أنفسهم أكدوا لنا خطأ منطقهم لأنهم لو كانوا متسقين مع أنفسهم لكان عليهم أن يقبلوا عرض مبارك وعمر سليمان بأن يتولى هذا الأخير الحكم حتى سبتمبر المقبل ولما كنا تبنينا صيغة «الديمقراطية الكاملة» وقبلنا فقط صيغة «الديمقراطية الموجهة» التى تخشى أن تكون كل الاختيارات مفتوحة أمام جموع المواطنين.
أرجو ألا يزعم أحد أنه أوعى من العقل الجمعى المصرى، لأن بعض هؤلاء الكبار زينوا لمسئولين سابقين ما فعلوا، وليس من حقهم الآن أن يمارسوا نفس الدور إلا فى حدود أن يقدموا الرأى بتواضع بلا وصاية أو إقصاء أو تصعيد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق