د يحيى مصطفى كامل
2011-02-28
نزار قباني
لكلماتٍ مثل 'النهاية' و'الخاتمة' و'الانهيار' وقعٌ ثقيل على النفس، كما أن لها مذاقاً خاصاً، فترى المتكلم في ما يخصها يلفظها باحتفائيةٍ منتشيةٍ غير اعتيادية، وحين يكتبها يرتجف قلمه كحالي الآن... لتجدنها في الدراما وسائر الأعمال الفنية إحدى المحطات الرئيسية، حتى ليعدها البعض الأهم، ولن تعدم من يعاجلك لدى سردك فيلماً شاهدته أو روايةً قرأتها:' أجل، اجل.. المهم، ماذا كانت النهاية؟'.
حتى في الدين وبعض النظريات الفلسفية حيث الأعمال صائرة في زمنٍ يسير إلى نهايةٍ تتجاوز كل الآلام والصراعات والمعاناة فتبررها وتعوضها.. كذلك الحال في السياسة والتاريخ. إلا ان لحظات النهاية ليست فرصاً للتشفي فقط، فبالإضافة إلى شيءٍ من ذلك، هي أوقاتٌ للتأمل العميق والتحليل والاستنتاجات، خاصةً حين يطول انتظارها لما يزيد على الأربعة عقود.
جمةٌ هي النقاط والإشكاليات التي يمكن تناولها بالمناقشة في ما يتعلق بأوقات النهاية، إلا أنني سأقتصر هنا على بضع ملاحظات وانطباعات حول خطابات الرئيس المخلوع حسني مبارك، والجاري خلعه الأخ العقيد، ملك ملوك أفريقيا، مفجر ثورة.. الخ.
للحق، لقد أتحفنا الرجلان، إذ بالإضافة إلى جانب المتعة النابعة من كوميديا سوداء مُغيظة، منحانا إطلالة لا تعوض ولا تتكرر في عقليهما.
من المعروف أن لكل رئيسٍ من يكتب خطاباته، شخصاً محسوداً من جيشٍ الكتبة والمثقفين الطفيلين الذين يبيعون شهاداتهم ومواهبهم وأفكارهم بخساً للنظام وللحاكم ـ الإله؛ هم ذوو قيمة عظيمة للنظام، إذ يستغلون كل ملكاتهم سالفة الذكر ليضفوا عليه غلالة تحضرٍ تخفي واقعه المترهل المتخلف؛ الأهم من ذلك أنهم يكسون الزعيم ـ الملك وأسرته الذهبية بقشرةٍ رقيقةٍ لامعة توحي بشيءٍ من الفهم، يخفي ويموه على ما يدور في رؤوسهم حقيقةً، لعل ذلك ينطبق بصورةٍ اقل على الأخ العقيد، كونه ولا حسد 'مطلوق' اللسان، إلا أن ذلك لا ينفي ذلك الملمح عن نظامه.
المدهش أنه لسببٍ ما، وفي ساعة السقوط المريع لنظاميهما، اختار الاثنان إما ان يرتجلا أو عهدا بكتابة خطابتهما، إما إلى ابنائهما أو إلى أخلص أصفيائهما، الذين اتضح انهم لا يختلفون عنهما قمعاً وتخلفاً، كأنهما يضنان على الكتبة من حملة الدكتوراه بصياغة فيوض الإلهام والوحي ودرر الفكر، وها نحن نرى دخيلتهم وما يدور في رؤوس هذه الشرذمة، مما كان مثقفو وفقهاء السلطة يلحون عليهم ويتفننون في إخفائه، ويا لهول ما رأينا ويا لفاجعتنا على انفسنا ومصائرنا وأوطاننا.
الاثنان أثبتا لنا بجدارة وبما يتخطى شبهة اللبس انفصامهما التام عن الواقع وعن الزمن والتاريخ.
بدائيان خرجا لتوهما (أو لم يخرجا) من كهفيهما المعتمين، يتهجدان في معبدي شخصيهما، فهما الشمس والقمر، هما ضياء الشعب وبوصلته، وفيهما وبهما يتحقق، هما صانعا المجد، ودونهما تتوقف الحياة ويستحيل الاستمرار... هما صانعا التقدم والرخاء والمنازل الفاخرة، واي دليلٍ يريد الحاقد الناقد الكافر أكثر من قصورهما وطغمتهما والمنتفعين منهما وما يرفلون فيه من رغد؟
هما لا يريان الفقراء والمهمشين، ولئن وجدوا فتلك مشكلتهم ووليد كسلهم وغبائهم وانعدام كفاءتهم..لأنهم لم يتأسوا بأولادهما.
البلدان يتماهيان في شخصيهما، فالوطنان هما وهما الوطنان، وما تراكمات الفقر والبطالة والأرامل والثكالى المعدمات، والأطفال السائبين في الشوارع والأزقة الموحلة بلا مدارس ولا مستقبل، وقتلى المناوشات التافهة التي لاداعي لها، مما لن يذكر التاريخ، بل وينساها هما بنفسيهما، ما كل ذلك سوى ثمنٍ ضئيلٍ وقاعدةٍ يبنى عليها هرم مجديهما.. هما رمزا مجدٍ ضائعٍ ولم يوجد أصلاً، وبطلا معارك إما مبالغٍ فيه أو لم تُخض أساساً.. هما الوسيمان الأنيقان الساحران اللبقان خفيفا الظل، كيف لا والمصورون والصحافيون والمثقفون
(من مواطني بلديهما وشقيقاتيهما بالطبع) يتراكضون من أجل صورةٍ في وضعٍ مختلف أو تصريحٍ هو عصارة الحكمة والرؤية.
إذا بهما يعيشان عالماً غرائبياً مغايراً منفصلاً منبت الصلة بواقع شعبيهما، ينامان ويصحوان على رجع انشودة عظمتهما ودوريهما القائد في أيام نحسٍ أتت بهما، انشودةٍ ملفقةٍ كاذبةٍ فاحشة الافتراء نسجها ودبجها نفس مثقفي السلطة وكتبتها.
إذا بهما يمثلان أحط ما فينا وما في أي شعب، ميراثاً قبلياً فرعونياً متخلفاً، خليطاً اختزنته ذاكرتنا الجمعية في أعمق طبقاتها، خليطاً من القمع الذي لا يساءل والسلطة اللامتنازعة، من الآلهة الشموس.. طبعاً مع اعترافنا بشيءٍ من التمايز الشكلي، حيث يتفوق الأخ العقيد، وباقتدار، في الدرجة واللون الأفقع... بصراحة، لقد اعتدت مثل غيري على غرابة أطوار الرجل ملبساً وحديثا وظننت أن في رأسه براري تصفر فيها الريح، إلا أنه فاجأني، إذ ألفيت في حديثه ورأسه خرائب من الدين المشوه ونفايات الأفكار ومخلفات القومية والاشتراكية والقومية والملوخية في مزيجٍ سام، طبعاً بالإضافة إلى اوهام العظمة والتماهي التي أطنبت فيها.
باستغنائهما عن الكتبة من سدنة النظام سقطت القشرة التي تحدث بها نزار فنطقا كفراً... ولما كنا ولا بد مُدينين للرئيسين توجب علينا أن نشمل معهما أولئك الذين تكسبوا من تزييف الوعي وإضفاء الشرعية على نظاميهما، المجرمين بما نسجوه من اكاذيب تلمع واجهتيهما.
لكن المسألة المحورية تكمن في استخلاص العبرة. يجب ألا نكتفي بالرثاء لنفسنا والبكاء على آلامنا، رغم حقنا في ذلك، وإنما يتعين علينا لتجاوز هذه العقود المظلمة من تخطيها بصورةٍ واعية عن طريق إعادة قراءة هذه الحقبة بحصيلتها من افكارٍ ونظريات وتجارب فاشلة مجرمة طبقت علينا كالفئران.
لا بد من النقد والنقد ثم النقد.. لا بد من إدانة التخلف والتشوش الفكري والعمالة الفكرية للنظام وكل ما يحتويه التراث من ميراثٍ متخلفٍ معرقلٍ ينتج هذا الخلط والتشوش. خلا ذلك، نغدو مقصرين في حق أنفسنا.
حين بحثت عن عنوانٍ للمقال لم أجد كلمةً واحدةً تصف المسخين اللذين شيدهما الرئيسان، إذ كيف تعبر عن اختلاط القمع بالقهر بالعذاب بالإهانة بالخرافة بالهزل بالكابوس بالعبث بالضياع باللاجدوى في كلمةٍ واحدة؟ لقد أعييا (وخاصة ًملك ملوك أفريقيا) وأجهدا اللغة العربية، ويا له من إنجاز.
إني لأحمد الله والقدر أن عشت لأرى سقوط حفنةٍ من الطغاة وأرثي لمن لم يُمهل فقد رحل من دون أن تكتسب القصة معنىً أمامه.
قبل أن أختم، وبصدد سقوط الرؤساء والأنظمة، وددت لو ذكرت نموذجاً آخر، رائعاً بحق، شريفاً بصدق، مشرقاً في كبرياء...إنه رئيس تشيلي السابق سيلفادور الليندي.
في وجه الانقلاب العسكري الخائن الذي قاده ضده بينوشيه وطغمته منتهياً بموته، وتحت قصف للقصر الجمهوري بالطائرات وحصارٍ بالدبابات، ألقى كلمة بديعةً على الهواء مباشرةً... تكلم عن نفسه بصيغة الماضي، شاكراً شعبه بعماله وكادحيه على ثقتهم به مجدداً ولاءه لهم، مقسماً على مقاومة الخيانة والطغيان حتى النهاية.. أكد لهم إيمانه بهم وبتضحياتهم وبوطنهم وبمستقبلهم المشرق.
فعلاً، كل إناءٍ ينضح بما فيه.
ليت المجال يتسع لكنت ترجمت لكم خطابه كاملاً، ولكنني سأكتفي ببضع كلمات منه اوجهها إلى طغاة العرب والعالم: 'إن لديهم القوة وسيستطيعون أن يتفوقوا علينا، ولكن التطـــــور التاريخي لا يمكن إيقافه بالجريــــمة والقـــوة... أمضوا قدماً عارفين أنه عاجلاً عوضاً عن آجلاً سوف تُفتح الطرق الفسيحة مرةً أخرى وأن رجالاً أحراراً سوف يعبرونها ليشيدوا مجتمعاً أفضل..'.
' كاتب في صحيفة 'الدستور' المصرية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق