أخشى أن تفلت من أيدينا اللحظة التاريخية الرائعة التى تعيشها مصر هذه الأيام، فنفوِّت فرصة لا تعوض لاستدعاء الحلم إلى أرض الواقع، ويصبح الجيش عبئا على الثورة ليس عونا لها.
فى الأسبوع الماضى تلقى مدير فرع أحد المصارف فى مصر الجديدة اتصالا هاتفيا من سيدة أبلغته فيه بأن فى حسابها الشخصى أربعة آلاف دولار أمريكى وترغب فى تحويلها إلى جنيهات مصرية، أثار الطلب دهشة الرجل الذى كان يعرفها جيدا، فقال لها إن كثيرين من الظروف الراهنة يحولون مدخراتهم من الجنيه المصرى إلى الدولار تحسبا للطوارئ. ولكنها ردت عليه قائلة إنها لهذا السبب تحديدا تريد أن تفعل العكس. إذ تريد أن تقوى الجنيه المصرى ولا تضعفه. فوجئ الرجل بما سمعه فلم يتمالك نفسه، وجفف دمعة سقطت من إحدى عينيه.
تلك واحدة من القصص الكثيرة التى صرنا نسمع عنها هذه الأيام، فى سياق التدليل على أن ثمة روحا جديدة أصبحت تسرى بين المصريين بعد الثورة، أيقظت فيهم ما كان كامنا أو خامدا من مشاعر الانتماء للوطن والاعتزاز به، والذين أنصتوا للغة المصريين واهتموا برصد سلوكهم منذ قامت الثورة يدرك أن ثمة تحولا مثيرا فى ذلك السلوك تبدى فيما لا حصر له من الشواهد والوقائع، التى تبعث برسالة خلاصتها إن المصريين أدركوا أن الثورة ردت إليهم وطنهم من خاطفيه، وإنه صار وديعة يتعين عليهم أن يحتشدوا للحفاظ عليها والدفاع عنها بكل السبل.
قبل أيام تلقيت على هاتفى المحمول رسالة ممن لا أعرف هذا نصها: من اليوم هذه بلدك انت. لا تلق القمامة فى أى مكان. لا تتجاوز إشارة المرور. لا تدفع رشوة لكائن من كان. لا تلجأ إلى تزوير أى محرر. لا تسكت على تقصير تجده فى أى مكان. وفى ختام الرسالة دعوة إلى تعميمها على أوسع نطاق ممكن.
لم أكن وحدى الذى تلقيت الرسالة، لأننى صادفت كثيرين استقبلوها وتحمسوا لها. كما أنى صرت أتلقى اتصالات من أناس لا أعرفهم يسألوننى عما يمكن أن يفعلوه لأجل البلد، وسمعت عن مناقشات جارية بين مجموعات من الشباب فى القاهرة والإسكندرية والسويس تدور حول كيفية المساهمة فى تغيير الواقع وعلاج مظاهر التردى فيه. وبعث إلىّ آخرون بأوراق تحدثت عن استراتيجيات المستقبل وخيارات النهوض به. ولست أشك فى أن ما حدث معى تكرر مع غيرى ممن هم أهم وأخبر منى.
ما أريد أن أقوله إن ثورة الشعب على النظام حين استدعت المجتمع وردت إليه روحه المغيبة، فإنها أطلقت فى ذات الوقت ثورة فى التوقعات. كأن الجماهير التى غيبت طويلا أصبحت متلهفة على تعويض ما فاتها وراغبة فى إسراع الخطى صوب تحقيق أحلامها، وهو ما يبعث على التفاؤل والثقة لا ريب، لكنه يفتح الأبواب للقلق أيضا ــ سأقول لك لماذا.
شواهد الواقع تدل على أن ثمة مسافة ملحوظة بين التوقعات والممارسات. ذلك أن الثورة فى مفهومها المبسط تعنى إزاحة نظام وطى صفحته. وإقامة نظام جديد مختلف عنه. إلا أن ما حدث فى مصر حتى الآن ليس كذلك بالضبط. وعند الحد الأدنى فإن القائمين على أمر البلد بعد نجاح الثورة تعاملوا مع ما جرى من منظور مختلف، حيث لم ينطلقوا من فكرة قطع الصلة بالنظام السابق وإقامة نظام جديد مكانه.
آية ذلك أن رئيس الحكومة وثلاثة من الوزراء المرفوضين شعبيا يشكلون امتدادا للنظام السابق. وكذلك كل المحافظين ورؤساء الجامعات والقيادات الإعلامية والأمنية. وهو ما يعنى أننا فيما خص السلطة صرنا بصدد صورة معدلة للنظام القديم. كما أنه يعنى أن الوضع المستجد لا يعد تجسيدا حقيقيا لفكرة «الثورة»، وأن إطلاق ذلك الوصف عليها هو من قبيل التعبير المجازى أو الحماسى. الأمر الذى يضعها فى سياق ثورات أخرى جرى الحديث عنها، مثل ثورة المعلومات والثور ة الإدارية أو الزراعية.. إلخ. كأن الملايين التى خرجت معلنة رفضها لنظام ما قبل 25 يناير، وكذلك مئات الشهداء ونظراؤهم الذين اختطفوا وعذبوا أو اختفوا، غير الآلاف الذين تعرضوا للإصابات والعاهات كانت هذه التضحيات كلها قدمت لكى تكتب بالدم شهادة ترميم النظام السابق، وإدخال بعض التعديلات على شخوصه وسياساته.
هذا الاختلاف فى قراءة ما جرى فى ٢٥ يناير (رئيس الحكومة وصفه بأنه حركة وليس ثورة) أحدث فجوة بين التوقعات والممارسات. وبدا أن سقف الأولى أعلى بكثير من الثانية. ذلك أننا يجب أن نعترف بأن سقف التوقعات كان عاليا. لأن الإحساس بالمهانة والظلم كان كبيرا، الأمر الذى جعل شوق الناس شديدا للتخلص من كل ما هو صلة بذلك الماضى الكئيب، وحين سقط رأس النظام تصور الناس أن بقية الأركان المحمولة عليه سقطت بدورها. وظنوا أنهم أوشكوا أن يلمسوا حلمهم بأيديهم ويرونه قائما على الأرض.
من ناحية أخرى، فإن القادة العسكريين وجدوا أنفسهم بصدد حمل ثقيل وتركة تنوء بحملها الجبال. وفوجئوا بتراكمات ثلاثين عاما من الجمود السياسى والفساد الاقتصادى قد وضعت بين أيديهم. ناهيك عما لا نراه من ضغوط خارجية، وما لا نعرفه من التزامات وتعهدات قدمها السابقون للأبعدين والأقربين. وإذا أضفنا إلى ما سبق أن أولئك العسكريين لم يكونوا طرفا فى اللعبة السياسية، وأن تحملهم للمسئولية لم تمض عليه سوى أسابيع محدودة، فستدرك أنهم فى موقف لا يحسدون عليه.
هذه الخلفية تسوغ لنا أن نقول إن ارتفاع سقف توقعات الجماهير له ما يبرره، وأن ثمة أسبابا أن تساق لتفهم موقف القادة العسكريين واعذارهم. لكن ذلك لا ينفى حقيقة وجود الفجوة بين التطلعات والممارسات.
إذا جاز لنا أن نلخص ما سبق فسنقول إن ثمة سببا جوهريا للفجوة الراهنة يتمثل فى الاختلاف فى قراءة الحدث الكبير، وهل هو ثورة على النظام الذى سبق ذلك التاريخ، تؤدى إلى طى صفحته، أم أنه ترميم لذلك النظام من شأنه إسقاط رأسه وادخال بعض التعديلات على جسمه. إلى جانب هذه النقطة المفصلية فهناك عناصر أخرى فرعية تتمثل فى تراكم المشاكل وتعددها وفى قصر الفترة الزمنية وخبرة القادة العسكريين والتزامات مصر تجاه الأطراف الخارجية خصوصا الولايات المتحدة وإسرائيل.. إلخ.
هذه الخلفية تستدعى السؤال التالى: إزاء الاختلاف فى قراءة الحدث الكبير، كيف يمكن الترجيح بين الكفتين، كفة بناء نظام جديد ينطلق من كونها ثورة حقيقية، أم ترميم النظام القديم بما يقرب الحدث من الثورة الإدارية؟ ــ لا نستطيع أن نجيب عن السؤال قبل أن نتفق على تحديد من الذى صنع الثورة ودفع ثمنها، هل هو الجيش الذى قادها انتصارا للشعب، أم أنه الشعب الذى فجرها وتدخل فيها الجيش تضامنا مع الشعب؟
إن غاية مرادنا فى تحرير هذه النقطة أن نتعرف على طبيعة الأدوار، وبالتالى حدود وحقوق كل طرف، بما يسمح لنا بأن نحسم عملية الترجيح بين الكفتين. وهى عملية ليست صعبة لأن وقائع الحدث الفريد تمت تحت أعين الجميع فى مصر وفى العالم أجمع. من ثم فليس هناك خلاف على أن الشعب هو الذى تقدم الصف حين قام بالمغامرة ودفع الثمن، وأن الجيش تدخل لاحقا وأدى واجبه الوطنى فى الدفاع عن الشعب.
إن شئت فقل إن الشعب هو الذى صنع الثورة وإن الجيش هو الذى تولى حراستها. وذلك الدور العظيم الذى قام به الشعب هو المفاجأة الكبرى، وهو الذى أضفى على الثورة فرادتها وأدخلها التاريخ من أوسع أبوابه، إذ العكس هو المألوف، حيث اعتدنا على أن يتولى الجيش قيادة الثورة، ثم يستدعى بعد ذلك المجتمع لكى يلحق به.
فى ضوء هذا التحليل يصح لنا أن نتساءل: إذا أعلن الشعب أنه يريد إسقاط النظام ودعا إلى القطيعة معه بعد سقوطه، ومن ثم أرادها ثورة حقيقية تنقل البلد من عهد إلى آخر، وإذا جاء الجيش وسماها ثورة أيضا، لكنه أرادها امتدادا محسنا لنظام مبارك، فإلى أى طرف ننحاز؟
ردى المباشر إن الشعب هو صاحب الثورة، وإن الجيش الذى أعلن تضامنه مع الشعب ينبغى أن يواصل أداء واجب حمايته، من خلال الإصغاء إلى مطالبه التى اعترف بمشروعيتها منذ اللحظة الأولى لتحركه.. وإذا ما حدثت الفجوة بين مطلب الشعب وبين موقف الجيش، الذى يرعى الحكومة، فإن ذلك قد يحمل على محمل الحيرة والارتباك والتقصير فى مرحلة.
أما إذا استمرت الفجوة أو اتسعت، فلن نجد لذلك تفسيرا سوى أن الجيش تراجع عن موقفه، وبدل أن يكون رافعا وحاميا للثورة، فإنه يغدو عائقا أمام تحقيق أهدافها. وهو ظن أرجو أن يخيب وأن تكذبه الأيام المقبلة.
فى هذا السياق لا أخفى مخاوف لا تستند فقط إلى تحليل لمعطيات الواقع وتقدير احتمالاته، وإنما لا أستبعد تأثرى أيضا بما هو كامن ومخزون فى الذاكرة التاريخية، التى تحتل فيها فكرة «الطغيان الفرعونى» موقعا بارزا.
ولست صاحب الفكرة أو المصطلح، التى عنى بتحقيقها الدكتور جمال حمدان، عالم الجغرافيا السياسية المبرر، فى الجزء الثانى من مؤلفه الموسوعى «شخصية مصر». إذ ذهب إلى أن مصر بطبيعتها بيئة صانعة للفراعنة. ذلك أنها كدولة زراعية تعتمد اعتمادا كليا على فيضان النيل. ولأن الفرعون كان مالك الأرض، وهو الذى يتحكم فى توزيع مياهه التى هى شريان الحياة، فقد اعتبر المصريون القدماء الفرعون واهب الحياة والموت. حتى صارت مصر فى حقيقة الأمر «ضيعة الحاكم» ــ والتعبير للدكتور حمدان ــ الذى شرحه على الوجه التالى: إن الطغيان الفرعونى نتيجة حتمية للدولة المركزية، وكانت الدولة المركزية ضرورة حتمية للبيئة الفيضية. وكما كان لهذه المعادلة مزاياها الواضحة، فقد كان لها عيوبها الأوضح.
إذ كانت مصر أول وحدة سياسية أو أول دولة موحدة فى التاريخ، لكنها أيضا صارت بها على الأرجح أول طغيان فى الأرض وأقدم وأعرق حكومة مركزية فى العالم. بالتالى فإنها أصبحت تمثل أقدم وأعرض استبداد أيضا.. فقد دفع المصرى منذ البداية ثمن وحدته السياسية المبكرة من حريته السياسية. واشترى الأمن الاجتماعى بالحرية الاجتماعية. وفى النتيجة أصبحت العلاقة عكسية بين المواطن والدولة، فتضاءل وزن الشعب بقدر ما تضخم وزن الحكم. وكلما كبرت الحكومة صغر الشعب.
اقتبس نصا عن نصيحة وجهها الملك خيتى لابنه مر يكارع (حوالى 2000 سنة قبل الميلاد) قال فيه: «إذا وجدت فى المدينة رجلا خطرا يتكلم أكثر من اللازم ومثيرا للاضطراب، فاقضى عليه واقتله وأمح اسمه وأزل جنسه وذكراه وكذلك أنصاره الذين يحبونه.. فإن رجلا يتكلم أكثر من اللازم لهو كارثة على المدينة». وخلص الدكتور حمدان من ذلك إلى أنه منذ ذلك الأمد البعيد فإن المصريين كانوا مطالبين بالصمت. وهى قيمة فسرها بعض الباحثين بحسبانها دعوة إلى الهدوء والسلبية والسكون، وإلى الخضوع والمذلة والانكسار.
لست واثقا من صحة ذلك التحليل، لاقتناعى بأن الخبرة المصرية على مدار التاريخ يتعذر اختزالها فى دور البيئة الفيضية فى صناعة التاريخ، لكنى لا أخفى أن الخوف من هاجس صناعة الفراعنة يلح علىّ طول الوقت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق