بقلم: فهمي هويدي
يبدو أن «الفئات المندسة» انتشرت فى العالم العربى بما قد يوحى بأن ثمة تنظيما دوليا صار يوزعهم على مختلف الأقطار لإثارة الفوضى وإشاعة التخريب والترويع.
ومن باب التمويه ربما فإن هؤلاء المندسين أصبحوا يحملون أسماء مختلفة فى كل قطر. ففى مصر عرفوا باسم البلطجية، فى حين أن اليمنيين وصفوهم بأنهم «بلاطجة». وحين برزوا فى الساحة التونسية بعد الثورة هناك فإن الناس صاروا يشيرون إليهم بحسبانهم «كلوشارات».
وأحدث تسمية لهم تناقلتها وكالات الأنباء من سوريا، أن تحدثت عن «الشبِّيحة» الذين صاروا يعتدون على المتظاهرين ويطلقون الرصاص عليهم من فوق أسطح المنازل.
اختلفت مرجعية التسمية لكن الوظيفة ظلت واحدة.
فالبلطجية كلمة شرحت معناها من قبل مذكرا بأنها تركية الأصل، حيث البلطة هى الفأس التى يقطع بها الأشجار ومن يستخدمها يسمى بلطجيا، ونصف الكلمة الأخير دال على الفعل. تماما مثل قهوجى وبوسطجى وأجزجى.
ولأنها غير عربية فلا غضاضة فى أن يختلف الجمع بحيث يصبح العدد منهم «بلاطجة». أما الكلوشارات فهى كلمة فرنسية معربة أصلها Clochard ومعناها متشرد.
وكلمة «شبيحة» التى تكررت فى أخبار سوريا هى الوحيدة المشتقة من كلمة عربية. وفى المعاجم أن الرجل شبَّح الشىء بمعنى شقه. وإذا قيل شبح الرجل فذلك يعنى أنه مُدّ كالمصلوب لجلده.
كلمة الشبِّيحة هى التى دعتنى إلى ذلك الاستطراد، ذلك أنها استوقفتنى حين تواترت فى البيانات السورية التى صدرت عن الحكومة والمعارضة. إذ وجدت أن البيانات الرسمية ما برحت تمتدح «الأبرياء» الذين يخرجون فى تظاهرات سلمية، ثم تدين ظهور «الشبِّيحة» الذين يشتبكون مع المتظاهرين ويطلقون النار عليهم، معتبرة أنهم فئة ثالثة تظهر فى الساحات، تتبرأ منها الحكومة فى حين تصر بيانات المعارضة على أنها منسوبة إلى الجهات الأمنية، عندئذ أدركت أن أولئك الشبِّيحة هم أنفسهم البلطجية فى مصر، ولا يختلفون فى شىء عن البلاطجة فى اليمن والكلوشارات فى تونس.
تابعت على شاشة إحدى الفضائيات حوارا طريفا حول الأحداث الأخيرة فى سوريا بين صديقنا الأستاذ هيثم المالح الناشط السورى المعروف وبين أحد الأكاديميين الموالين لنظام دمشق، وفى الحوار دافع الأخير عن قوات الأمن السورية، وحمَّل الشبِّيحة المسئولية عن الاعتداء على المتظاهرين وإطلاق النار عليهم، عندئذ قال المالح إن المدن السورية شهدت تظاهرات معارضة للنظام وأخرى مؤيدة للرئيس الأسد. وأضاف أنه إذا صح أن أولئك الشبِّيحة من دعاة الفوضى والمحرضين على التخريب. فيفترض أنهم لا يبالون بتظاهرات المعارضين أو المؤيدين، حيث هدفهم الأساسى هو إثارة الفوضى والتخريب، لكن الذى حدث أن الشبِّيحة لم يظهروا إلا فى أوساط المعارضين، ولم يكن لهم أثر فى تظاهرات المؤيدين، إذ انقضوا على الأولين بأسلحتهم البيضاء وبالرصاص المطاطى والحى، أما التظاهرات المؤيدة للنظام فلم يمسها أحد بسوء، وإنما سارت فى هدوء وعاد المشاركون فيها إلى قواعدهم سالمين.
كانت الملاحظة مهمة للغاية، وقوية بحيث إن المتحدث الآخر المؤيد للنظام لم يستطع أن يجيب عن السؤال، وإنما أصر على أن «الشبِّيحة» يمثلون فئة خارجة على القانون، ولا علاقة لعناصرها بالأجهزة الأمنية، وأيد وجهة نظره بالإشارة إلى أن الرئيس بشار الأسد استقبل أسر الأشخاص الذين قتلوا فى المواجهات معهم وأمر بعلاج وتعويض الجرحى.
لكن ذلك لم يقدم إجابة مقنعة لسؤال الأستاذ المالح، واستفساره عن السبب فى استهداف الشبِّيحة لمعارضى النظام دون مؤيديه.
لدينا فى مصر خبرات عديدة فى هذا المجال، حيث نملك ما لا حصر له من القرائن والأدلة التى تثبت الصلة الوثيقة بين شبيحة مصر /البلطجية وبين الأجهزة الأمنية.
ولا تزال حاضرة فى أذهاننا أحداث ثورة 25 يناير، التى استهدف فيها بلطجية الأمن المتظاهرين فى ميدان التحرير. فى حين لم يدس أحد على طرف للمتظاهرين الذين حُشدوا لتأييد مبارك ونظامه فى ميدان مصطفى محمود، وهو ما يسوغ لنا أن نقول إن شبيحة سوريا بدورهم مجرد ذراع للأجهزة الأمنية، لا يختلفون فى شىء عن بلاطجة اليمن وكلوشارات تونس، إن الاستبداد ملَّة واحدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق