جمال سلطان ( المصريون) | 17-02-2011 نجحت الثورة الشعبية في مصر ، وأبهر المصريون العالم بتلك الثورة المهيبة والتي جمعت من المواقف والمشاهد والمفارقات ما يجعلها حالة فريدة في العالم كله ، وملهمة لثورات قد تأتي من بعدها في أنحاء مختلفة من العالم ، نجحت الثورة ، ويبقى أن ينجح الثوار في بناء دولتهم الجديدة ، وكما بهر المصريون العالم بالثورة ، فإن العالم ينظر إليهم الآن ليرى مدى نجاحهم وعبقريتهم في بناء دولة حديثة نموذجية وإدارة خلافهم السياسي والفكري والإنساني بصورة حضارية وسلمية وعادلة .
دورة الإصلاح بدأت بالفعل ، وأهم ما فيها إلغاء مجلسي الباطل ، الشعب والشورى ، وإسقاط رموز النظام السابق وتفكيك مؤسساته ومطاردة رموز الفساد وتلك عملية ستأخذ بعض الوقت بكل تأكيد ، لعظم حجم الفساد واتساع نطاقه ، ثم أتت عملية التعديلات الدستورية التي تجري الآن لكي تمثل حجر الزاوية في الانطلاق إلى تأسيس دولة ديمقراطية حقيقية ، وإذا كنا نقول أن مصر الآن في يد أمينة ، فإننا اليوم نؤكد أن الدستور المصري اليوم في يد أمينة أيضا ، ويكفي أن يكون على رأس تلك اللجنة الدستورية شخصية بمثل صلابة ونزاهة وأمانة وتاريخ المستشار طارق البشري .
والمأمول اليوم من القوى السياسية والنخب السياسية أيضا التخفف تدريجيا من توابع الثورة وأجوائها ، للدخول في أجواء جديدة أقرب للعمل والبناء والتخطيط للمستقبل ، بأسرع ما يمكن ، لأن الاستفتاء على التعديلات الدستورية سيتم في مدة شهرين تقريبا ، والانتخابات النيابية والرئاسية ستتم بعد ذلك في خلال شهرين أو ثلاثة أيضا ، بمعنى أن الوقت قصير ، والوطن يحتاج إلى طاقات جميع أبنائه ، وأن يتم تشكيل الخريطة السياسية من جديد ، وفق حقائق الواقع ، وليس وفق التزوير السابق ، فلا وقت الآن للبحث والنقاش والجدال في تفاصيل وقائع الثورة ومن قادها ومن شارك فيها بالقسط الأكبر أو الأصغر ، ولا أرى مناسبا كثرة الحديث عن تكوينات لا مستقبل لها ولا قيمة لها بعد أشهر قليلة ، من مثل مجلس أمناء الثورة أو مجلس قيادة الثورة أو ما إلى ذلك من أفكار ، مع احترامي الكامل لكل من شارك في ذلك ، نحن الآن نحتاج إلى الدخول بسرعة في مرحلة ما بعد الثورة ، نحتاج إلى بلورة قوى وتيارات سياسية عفية وقوية وواسعة الانتشار في ربوع مصر تتأهل لخوض الانتخابات المقبلة البرلمانية بشكل أساس ، لكي يكون لدينا برلمان قوي ومتوازن ومتعدد ، لا ينفرد بالغالبية فيه حزب وحده أو قوة سياسية بمفردها ، وهذا أول وأهم ضمان لنجاح التجربة الجديدة ، وهي التجربة المنوط بها تدريب وتأهيل المجتمع المصري للتحول نحو الديمقراطية وإدراك ثمراتها بشكل هادئ ورصين وإيجابي .
القوة الوحيدة المنظمة والتي تملك قواعد جاهزة هي الإخوان المسلمون ، ولا يعني ذلك أن الإخوان يمثلون الغالبية السياسية في المجتمع ، ولكنهم منظمون بشكل جيد بفضل تراث من العمل الحركي والسري في الأوقات الصعبة ، وسيحقق الإخوان حضورا في البرلمان المقبل وهذا حقهم كجزء من تراث هذا الوطن يعبر عن قطاع من أبنائه ، ولكن مصر يمور فيها أفكار وتيارات سياسية أخرى ضخمة ، تحتاج فقط إلى أن تتبلور في أحزاب جديدة تعبر عنها ، وقيادات جديدة تملك من الإخلاص والجسارة ما يدفع بأحزابها إلى صدارة المشهد ، اليسار المصري ليس هو حزب رفعت السعيد ، ولكنه تيار أوسع وأكبر بكثير ويستطيع بعض رموزه "النظيفة" من خلال أحزاب جديدة أن توجد لها مساحات محترمة في الخريطة السياسية ، وكذلك هناك تيار ناصري قوي يستطيع أن يوجد لنفسه مساحات محترمة في الخريطة السياسية والبرلمان أيضا ، وكذلك هناك قوى ليبرالية محترمة ـ مهما كان خلافك معها ـ من أمثال أسامة الغزالي حرب ، سيكون لهم دور كبير في المرحلة المقبلة ، وحزب الوفد بتراثه وجاذبيته التاريخية في ظل أجواء جديدة وقيادات جديدة سيكون حاضرا بقوة ، وكذلك التيارات الشابة الجديدة سواء القريبين من الدكتور البرادعي أو الدكتور أيمن نور أو غيرهم ، سيكون لهم حضور قوي للغاية في برلمان المستقبل .
أيضا ستكون المفاجأة في ولادة أحزاب إسلامية مدنية جديدة تملك قواعد شعبية كبيرة ، بتعبيرها عن التيار المستقل في الحالة الإسلامية ، وتمثل توازنا مهما جدا للحياة السياسية والحزبية وفي البرلمان بالنظر إلى أنها على خلاف مع الإخوان سياسيا وفكريا ، وستكون أكثر انفتاحا على الأحزاب والقوى السياسية الأخرى وأكثر اقترابا من العمل الجبهوي ، وهذا التطور سينهي بشكل تام وجود أي عمل تنظيمي سري في مصر بعد اليوم ، وسيتم تجفيف منابع الإرهاب تماما ، لأن الأرض الجديدة ستلفظه وترفض وجوده ، وبدون أي تعامل أمني ستتعافى مصر من كل مظاهر العنف السياسي .
أيضا ستؤدي حالة الحيوية السياسية والحراك الواسع إلى بلورة مواقف أكثر انفتاحا ومشاركة للأجيال القبطية الجديدة ، ستخرج من شرنقة الكنيسة إلى فضاء الدولة والمجتمع ، ليكون لها حضورها وصوتها ومشاركتها ، وستندمج تلك الأجيال في تيارات سياسية متعددة ، وستكون أكثر اعتناءا بتطور المجتمع وليس بحسابات طائفية منغلقة ، وهذا ما سيجفف منابع التوترات الطائفية إلى حد كبير ، خاصة مع وجود سيادة حقيقية للقانون وعدالة ناجزة وجهاز أمني مؤسس على احترام كامل لحقوق الإنسان ، وفي ظل أجواء نفسية في المجتمع بشكل عام أكثر استرخاءا وأبعد عن العصبية والتشنج .
خريطة مصر السياسية والفكرية والمدنية ستتشكل من جديد في المستقبل ، والمؤكد أن بعض النخب المتطرفة من هنا أو هناك ، والتي اعتادت فرض وصايتها على المجتمع ، تلك النخب المتطرفة والمهمشة والناشزة في كل اتجاه ، والتي احترفت الظهور في الفضائيات والصخب في بعض صحف المال الحرام والمواقع الالكترونية التي صنعها رجال العهد البائد من أمثال صحف ومواقع ابن صفوت الشريف ، سيحاولون إثارة الجدل والتوتر لوقف عجلة ذلك التطور الديمقراطي الجديد ، لأن إنجاز هذه التحولات ونجاحها ، يعني انتهاء دورهم ، وتجاوز التاريخ لهم ، وهؤلاء عادة ما يستبطنون الديكتاتورية في داخلهم ، رغم صخبهم ضد الديكتاتورية ، إلا أن كل واحد منهم داخله "ديكتاتور صغير" يحتاج إلى وقت لكي يتحرر منه ويتطهر من عفنه ، والديمقراطية كفيلة بمساعدتهم على ذلك ، وإن رغما عنهم .
| |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق