سليم عزوز(القدس العربى)
2011-08-04
كنت أجلس أمام التلفزيون أشاهد الاحتفال، ولم انتبه إلي أن ابنتي بجواري منتبهة، وقد فاجأتني بسؤالها: من كان يحكم مصر قبل مبارك؟!.. أجبتها بعدم اكتراث: السادات.. وأين السادات؟.. أجبت: مات. فسألت: ومن كان قبل السادات؟.. قلت باقتضاب: عبد الناصر. فعادت لتسأل: وأين عبد الناصر؟ قلت لها: مات.
وهنا فجرت قنبلتها: يعني لابد من أن يموت الرئيس عندنا لكي يأتي آخر بعده، وفوجئت بما قالته ولم أعقب!
تذكرت هذا الحوار عندما استيقظت من نومي صباح الأربعاء الماضي، لأجد ابنتي مرابطة أمام جهاز التلفزيون وهي تنتظر الانتقال إلى إذاعة خارجية لنقل وقائع محاكمة الرئيس المخلوع!.
فقد أصبحت لدينا تجربة أكثر أهمية مما شاهدته وهي صغيرة فولد لديها هذه الأسئلة التي كانت أكبر من سنها، فقد صار لدينا ليس فقط رئيس سابق، وإنما هو في الأصل والفصل مخلوع، أسقطته الجماهير، ودفعت لتقديمه للمحاكمة.
لم أكن أصدق ان مبارك يمكن أن يمثل أمام المحكمة، وهو الذي تم التعامل معه منذ أن تنحى باعتباره محمية طبيعية، ونُقل عن أهل الحكم قولهم انه خط احمر، وهذا هو السبب في أنه لم يغادر إلى جدة، ولكنه بقي في شرم الشيخ. فبعد ضغوط الثوار في مصر تم تقديمه للمحاكمة، وتم وضعه في مستشفى شرم الشيخ العام، وأخذ محاميه على عاتقه الترويج لفكرة مرضه، فمرة في العناية المركزة، وأخرى دخل في غيبوبة، حتي يفلت من العقاب، ولا يقدم لمحاكمة لن تتمكن من في الفصل في القضية إلا إذا مثل أمامها.
كنت استبعد أن يمثل الرئيس المخلوع أمام المحاكمة، حتى بعد ان قال وزير الصحة أن حالته الصحية تسمح بنقله، لكن ابنتي أخبرتني بما بثه التلفزيون المصري من أنه غادر شرم الشيخ، فقطع هذا الخبر الشك عندي باليقين.
مصائب قوم عند قوم فوائد، فالتلفزيون المصري فاز بنقل المحاكمة، ليذكر من نسوه به، وهو الذي كان يحرص في السابق على أن يكون له امتياز البث الحصري ولو لمسلسل تافه، وعندما لم يكن يجد فانه كان ينتحل ذلك من خلال القول 'حصري على التلفزيون المصري' مع انه لم يكن هناك حصري لأي عمل!.
ها هو ينقل وقائع المحاكمة، وتقوم القنوات الأخرى بالبث عنه، ليعلن وزير الإعلام أن القنوات الخاصة المصرية من حقها أن تنقل عنه بدون مقابل شريطة أن تضع 'اللوغو' الخاص بتلفزيونه الناقل لتتحقق له الدعاية المطلوبة.
تسمرت أمام شاشة التلفزيون في انتظار اللحظة التاريخية، لا أستطيع القول اننا حلمنا بها، فقد كانت كل أحلامنا ان يموت مبارك، وكنا نظن انه لا يسري عليه ما يسري على البشر من تعب ونصب، وقلت هنا من قبل انه ربما يموت بعد ان يتم النفخ في الصور النفخة الأولى!
حلم أم علم
لكن ها هو الشعب المصري يخرج في ملحمة جبارة ويطالب بإسقاطه، فيسقطه في ظرف سبعة عشر يوماً، وفي أحيان كثيرة كنت أتساءل: نحن في حلم أم في علم!
فإذا به يغادر كرهاً، بعد أن رفض التنحي طوعاً، وقال انه باق حتى آخر الدورة، وقبل الثورة وعد بأن سيظل يحكمنا ما دام هناك قلب ينبض ونفس يخرج!
لحظات ودخل مبارك على سرير إلى القفص ومعه جمال وعلاء، ثم حبيب العادلي وزير داخليته ومعه معاونوه المتهمون بقتل الثوار، وهو الذي كان قبل الثورة صاحب القول الفصل في حكم مصر، وعنت الوجوه له فلم تكن تسمع حتى همساً، لدرجة انه أعلن ذات مرة ان جميع الهواتف في مصر تحت المراقبة، وان من يخاف فعليه ألا يتكلم، ولم يعترض احد على هذا التجاوز المهين، فقد كان حبيب العادلي هو من يحكم مصر، وكان مبارك وأفراد أسرته لا يشعرون بالأمان إلا في وجوده.
تصورت ان القوم سيبالغون في اظهار الاحترام لحسني مبارك، وظننت انه من الممكن ان ينحني حبيب العادلي ويقبل يده وجبينه، لكنه ورجاله جلسوا بعيدا عنه، وتركوا نجليه يسعيان إلى حجبه عن شاشة التلفزيون بقدر المستطاع.
تذكرت أركان حكم الرئيس صدام حسين الذين بالغوا في احترامه على نحو كان يستفز رئيس المحكمة، لكن أين هؤلاء من رجال صدام؟ وأين مبارك نفسه من صدام حسين الذي واجه مصيره بشجاعة، في حين ان صاحبنا تمارض ليستدر عطف الرأي العام في مشهد سينمائي قام عليه هاو أو ممثل غير موهوب، وربما تذكرون أن مبارك ظهر من قبل في أكثر من عمل مع إسماعيل ياسين، أذكر 'إسماعيل ياسين في الطيران' وكان مبارك صامتاً، وقد اختفت هذه اللقطات عندما أصبح رئيسا للبلاد، لكنها لا تزال موجودة في النسخ التي هي في حوزة الفضائيات الاخرى وقد شاهدتها على الفضائية التونسية من قبل.
الخطاب العاطفي
لنا واقعة سابقة مع الأعمال العاطفية كانت عندما خرج علينا مبارك في أيام الثورة، بخطاب عاطفي كان كفيلاً بإنهاء الثورة، عندما أطل علينا عبر الشاشة الصغيرة وهو يقول انه يتمنى ان يبقى في مصر، وانه يريد فقط ان يكمل دورته، لكن بعد ساعات من ذلك تم حشد البلطجية والشبيحة، والقتلة، والقناصة إلى ميدان التحرير فيما عرف بعد ذلك بموقعة الجمل، وتأكد لنا حينها أن مبارك يريد أن يستمر في الحكم إلى آخر نفس لآخر مواطن مصري.
لم يتعاطف احد مع مبارك هذه المرة، والذي بدا واعياً لكل ما يدور حوله، وليس مريضاً إلى حد ان يدخل القفص على سرير طبي!
كنت انظر في وجه جمال مبارك، فأردد: سبحان المعز المذل، فهذا من كان يحلم بحكم مصر، وكان يتصور ان الشعب المصري في حكم الميت وان موافقة امريكية يمكن ان تحقق له حلم حياته.
علاء مبارك كان اكثر انكساراً، لم تكن لديه رغبة في السلطة ولكنه كان مولعا بالمال، كان يحمل مصحفاً، وذكرني بشباب الجماعات الدينية الذين كانوا يقفون خلف القفص بالمصاحف، وبعضهم لم يرتكب جريمة ومع ذلك بقي في السجن أكثر من عشر سنوات، فقد كان النظام يجفف المنابع.
مر جمال بلحظات تدين، قيل أنها كانت سبباً في غضب الوالد عليه، الذي نشرت الصحف نقلا عن محاميه انه حرص على الصيام رغم تحذير الأطباء له.
تذكرت لقاء تلفزيونيا قديماً سئل فيه مبارك عن ذكرياته في يوم حرب أكتوبر 1973، فقال 'أبدا... استيقظت من النوم مبكراً كما العادة، وتناولت طعام الإفطار كالعادة'.. مع أننا كنا في العاشر من رمضان!
ما علينا فمن المفارقات ان اكاديمية الشرطة مكان انعقاد المحكمة كان اسمها قبل الثورة أكاديمية مبارك، وقد شهدت آخر نشاط رئاسي له عندما كان يحتفل بعيد الشرطة قبل الثورة بيوم واحد، وكان يقف هناك كما الأسد هو وحبيب العادلي.
من المفارقات أيضا ان التلفزيون المصري كان سلاحه في التشهير بالثوار والإساءة للثورة، واذا به يقوم بنقل محاكمته..
فاللهم لا شماتة ولكن عظة وتذكيرا.
صحافي من مصر
azouz1966@gamil.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق