«لقد فعلوها».. هكذا علق توماس فريدمان، الكاتب الصحفى الأمريكى الشهير بجريدة «نيويورك تايمز»، يوم الثانى عشر من فبراير الماضى بعد يوم واحد من تخلى حسنى مبارك عن مسئولياته الرئاسية. ظروف استثنائية عاشها أيقونة من أيقونات الشئون الخارجية فى الصحافة الأمريكية بميدان التحرير هى الأكثر إثارة، كما يصفها فريدمان خلال حواره لـ«الشروق»، فى تاريخ عمله الصحفى الذى يمتد لنحو أربعين عاما بدأ بتغطية الحرب الأهلية اللبنانية كما كان مطلعا على كواليس وزارة الخارجية الأمريكية وقت سقوط حائط برلين وانهيار الاتحاد السوفييتى.
بضعة أيام قضاها فريدمان فى القاهرة كان شاهدا من خلالها على لحظات حاسمة فى عمر وطن عاش إصرارا ويقينا نابعا من «التحرير» كرمز لحالة وليس لمكان، لم يجد معها رأس النظام مفرا سوى التنحى أمام رغبة الشارع ليعيش بعدها فرحة عارمة عمت شوارع «أم الدنيا». تحدثت «الشروق» إلى فريدمان عبر الهاتف بعد عودته إلى واشنطن ليحكى عن أكثر القصص والمعايشات الفريدة وغير الاعتيادية التى أذهلته كصحفى على مدى أربعة عقود كاملة وهى الانتفاضة المصرية.
● هل فاجأتك مصر؟
ــ نعم فوجئت بالطريقة أو الشكل الذى قاومت به مصر لكن بشكل عام لم أتفاجأ لأن المصريين حملوا على مدى سنين احتياجات ورغبات كثيرة.
● مقالاتك عن الوضع فى مصر كانت دقيقة إلى حد كبير لكن مقالا أخيرا لك حمل عنوان «هذه هى البداية فقط» أشرت فيه إلى عوامل خارجية أثرت بأشكال مختلفة على الانتفاضات والثورات العربية ليبدو وكأنك تنتزع الفضل من العرب؟
ــ حاولت فقط أن أنقل للقارئ الكثير من المعطيات التى تؤدى إلى أى حدث تاريخى كبير.. بعض هذه المعطيات لا يمكن أن نراها أو نفهمها أبدا ولهذا فإن التغيير الذى أطلق فى الشرق الأوسط هو قوى للغاية. المسألة بالنسبة لى لم تكن سوى مسألة تخمين ودعوة للآخرين للتأمل فى هذه الأسباب. أردت فى المقال أن أخمن بعض الأسباب الثانوية التى كانت أقل وضوحا وأهمية لكنها تظل عوامل محركة دفعت باتجاه الانتفاضة وذلك من منطلق أننى ربما أكون أكثر المتحدثين إيمانا بدور الصحافة فى قضية الديمقراطية بالنسبة للعالم العربى.
الأسباب الكبرى كانت وستظل تتمحور حول الاستبداد وهو ما كتبت حوله ثمانية مقالات. قال لى الكثير من المصريين خلال زيارتى للقاهرة إن الثورة جعلتهم يفتخرون بمصريتهم وإنهم كانوا يشعرون بالعار عندما يظهرون جوازات سفرهم قبل ذلك وهو ما صدمنى وأحزننى، لكن هذا العار دائما يرتبط بشخص أو سياق ما. وأستطيع أن أقول من ردود الفعل والتعليقات إن العديد من القراء اتفقوا مع واحد أو أكثر من العوامل التى ذكرتها وبعضهم اختلف مع ما كتبته جزئيا أو كليا لكن المقال أحدث نقاشا واسعا.
● لكن الأسباب التى ذكرتها كان منها مثلا النموذج الإسرائيلى فى محاربة الفساد وأوليمبياد الصين وهو ما قوبل برفض كبير فى أوساط عربية عديدة بل ووصف من الكثيرين بأنه تحليل مضلل للواقع.
عندما تكون هناك انتفاضة تتسع لتشمل 350 مليون شخص من المغرب إلى البحرين فإنها لا يمكن أن يكون دافعها سببا واحدا أو اثنين أو ثلاثة، انها ظاهرة معقدة بشكل كبير وأسبابها تختلف من مكان لآخر.. بعضها يمكن رؤيتها والبعض الآخر لا نراه. ونحن نعرف القضايا الكبرى عندما يقول لنا البعض ذلك.
كما قلت فى بداية مقالى إننا نعرف الأسباب الكبرى التى تقف وراء هذا الحدث التى ذكرتها فى أكثر من مقال، لكن مقالى الذى تعنينه لم أنوبه أخذ شىء من هؤلاء الشجعان أو من القضية الرئيسية وراء الانتفاضة المصرية التى طالما كتبت مرارا كانت من قبل أناس تاقوا إلى الحرية والكرامة والسيطرة على مستقبلهم. أرجو أن يكون هذا واضحا.
● لكن لماذا ذكرت إسرائيل وليس تركيا وأنت تدرك أن العرب ينظرون لإسرائيل بشكل مختلف فالاحتلال له الأولوية على الديمقراطية؟
ــ تركيا نقطة جيدة لكن كثيرا من العرب كما تعرفين لديهم مقاومة كبيرة لتركيا كما إسرائيل لأسباب تاريخية مختلفة، والأسباب التى ذكرتها لم تكن تقصد الانتفاضة المصرية فقط فمثلا خدمة الخرائط فى جوجل لعبت دورا فى انتفاضة البحرين وليس مصر والعامل الإسرائيلى فى محاربة الفساد قد يكون أكثر أهمية بالنسبة للأردن حيث الفساد هو القضية الأولى فى الدولة كما أن التليفزيون الإسرائيلى يحظى بنسبة مشاهدة عالية هناك، أما العامل الصينى (الأوليمبياد) فقد لا يكون مهما لكنه تخمين وكذلك عامل حكومة فياض لكنه كان عاملا جديدا فى هذه المجموعة. لو كان لدى المساحة لذكرت ربيع لبنان أيضا، وهناك من انتقدنى لأننى لم أذكر العراق لكننى لم أكن أبحث سوى عن الأسباب غير الواضحة بطريقة أو بأخرى وهو ما يتضح فى التعليقات التى يقول نصفها «لم أفكر فى هذه النقطة» وهذا هو واجبى وأيضا واجبى أن أدفع الناس للتفكير.
● أثار مشهد عودة الشيخ يوسف القرضاوى وإلقائه خطبة بميدان التحرير مخاوف من تكرار النموذج الإيرانى فى مصر وتحولها لدولة دينية، بينما وصف البعض الآخر ثورة مصر بأنها المشهد العربى لسقوط حائط برلين، كيف ترى هذه المقارنات والى أيهما تميل؟
ــ ما حدث فى مصر ليس له أسبقية تاريخية ولا يقارن بأى حدث آخر لأن التشبيهات ليست مناسبة. سقوط حائط برلين هو حدث وقفت وراءه حكومات غربية هى التى فتحت الطريق ثم اندفعت الجماهير بعد ذلك لكن انتفاضة مصر من أجل الديمقراطية صعدت من الأسفل إلى الأعلى بواسطة الشعب ولأجل مصالحه من دون أى تدخل لأى حكومة فى العالم.
أما النموذج الإيرانى فسيظل دوما يثير القلق لكن اعتقادى الشخصى أن مصر لن تصبح إيرانا أخرى لأن انتفاضتها قادها شباب مصريون أرادوا أن يكون لهم دور فى تشكيل مستقبل بلادهم سواء كان هذا المستقبل تقدميا أو عروبيا أو له أى طابع سياسى آخر. وحتى هذه اللحظة ملامح المستقبل فى مصر لا تزال فى مرحلة التشكيل ولم تحدد بعد.
● هل أنت قلق على مستقبل مصر؟
ــ نعم لكننى أشعر بالقلق على مستقبل أمريكا أيضا.. ومع ذلك أشعر بالتفاؤل تجاه المرحلة التى تمر بها مصر التى تشهد تغييرا كبيرا يجرى فى وجود مؤسسات قليلة جدا وأحزاب سياسية غير حقيقية ولا تحظى بالثقة وبالتالى تصبح المرحلة الانتقالية ضرورية لأنها تأتى بعد فترة من الجمود سادت فى عهد حسنى مبارك وجاءت على حساب طموحات وآمال شعبه لكن الشعب قال كلمته وأصدر حكمه على هذه الفترة.
ولا شك أن نجاح التجربة المصرية فى التحول للديمقراطية سيعنى تأثيرا ايجابيا كبيرا على المنطقة فما يحدث فى مصر لا يظل منحصرا بداخلها.
● ألا تخشى من مرحلة عدم استقرار؟
ــ عدم الاستقرار ليس دائما وضعا مكروها فهو قد يأتى كما قلت فى إطار مرحلة التحول للديمقراطية بعد حكم استبدادى طويل وهناك أمثلة كثيرة فى هذا السياق كجنوب أفريقيا وأندونيسيا وتركيا، أما عدم الاستقرار الذى يقلق فهو ما نراه فى باكستان مثلا.
ما شاهدته فى ميدان التحرير هو الحرية لنمر ظل طويلا أسير القفص.. حطم القيود من أجل صالح مصر ومن الأفضل ألا يحاول البعض إعادته للقفص أو امتطاءه لمصالح شخصية أو أيديولوجية أو أن يطعمه طعاما غير طعامه فهو لا يتغذى إلا على أيديولوجية النظام السابق.. هذا هو طعامه الوحيد.
● «فزاعة الإخوان» هى استراتيجية طالما روج لها نظام مبارك، هل تخشى وصول الإسلام السياسى إلى حكم مصر؟
ــ حقيقة لا أعرف الإخوان المسلمين جيدا حتى أرد لأنهم لم يتم اختبارهم فى منافسة حقيقية قبل اليوم فى ظل دولة يحكمها حزب واحد لكن أتصور أن الإخوان سيواجهون الآن هذه المنافسة من قبل أحزاب حقيقية تقدمية شرعية وأقل دينية أو مدنية وهذا أمر رائع. أعتقد أنه يجب إعطاء الفرصة للإخوان لإثبات حقيقتهم وهم ليسوا فى حاجة لمن يقول لهم من هم تحديدا وما يمثلونه وهم أيضا لا يعرفون من هم فى مصر حرة.
● لكن وزيرة الخارجية الأمريكية أعلنت أن الولايات المتحدة لا تمانع فى وصول الإخوان للحكم؟
ــ ليست عندى مشكلة فى وصولهم للسلطة إذا أراد الشعب المصرى ذلك وأمريكا أيضا ستقبل ما يختاره المصريون. الإخوان، كما يبدون، لا ينتهجون العنف وأنا أشجع المنافسة وإتاحة الفرصة للجميع.
● بعض التحليلات تذهب إلى أن تمكين الإخوان المسلمين يضعف تنظيم القاعدة، ما رأيك؟
ــ بالتأكيد وهذه مسألة مثيرة للانتباه خاصة أن تنظيم القاعدة يواجه الآن تعنيفا كبيرا بسبب أهدافه وهناك احتمال لأن يصبح الإخوان المسلمون مثالا آخر لحزب العدالة والتنمية فى تركيا.
● هل ترى أن النظام الديمقراطى الناشئ فى مصر يستطيع أن يستوعب أى تيار سياسى متطرف مثلما نرى أحزابا يمينية متطرفة فى أوروبا أو حتى جماعات النازيين الجدد وغيرها؟
ــ نعم بالطبع وفى النهاية فإن المنافسة ستكون على قلوب وعقول المصريين ومن سيفز بها سيصل للحكم.
● هل ترى أن حكم العسكر احتمال وارد؟
ــ أعتقد أن الجيش المصرى يخشى الانتفاضة ويدرك جيدا أنها حقيقية وشعبية ولهذا فهو يريد نقل السلطة إلى حكم ديمقراطى بشكل مسئول وفى أسرع وقت ممكن.
● ربما تتسبب هذه الفترة الانتقالية فى تزايد قوة الجيش على الساحة السياسية كما هو الحال فى تركيا؟
ــ هذا أمر يحسمه المصريون.
● كنت من مؤيدى حرب العراق بدعوى الديمقراطية، هل مازلت ترى أن الحرب هى الطريقة الوحيدة لنشر الديمقراطية؟
ــ لا ليست الحرب هى السبيل الوحيد ولا يجدى هذا الخيار مع كل الدول. مصر تختلف عن العراق كثيرا.. (يصمت) العراق مثل ليبيا وما نراه اليوم خير دليل.
● تردد فى بعض التقارير اسم المؤلف جين شارب وكتابه عن قواعد الثورة السلمية ومدى الاستعانة به فى تنظيم الثورة المصرية، هل سمعت عنه فى التحرير؟
ــ لا أعرف عنه شيئا.
● كنت تعتبر مصر صديقا للولايات المتحدة فى العهد السابق، فهل تعتقد أن العلاقات المصرية ــ الأمريكية يمكن أن تتغير بالتطور أو التدهور؟
ــ لا أعرف كيف ستبدو عليه العلاقات فى المستقبل فما زالت الرؤية غير واضحة فى مصر لكن ستظل العلاقات مبنية على أساس الاحترام المتبادل.
● إلى أى مدى تعتقد أن أمريكا كحكومة أو كمجتمع مدنى أو حتى كأفراد ساعدت فى قيام الثورة المصرية؟
ــ آمل أن تكون أمريكا لم تساعد فيها بأى شكل.. نحن جميعا مشاهدون هذه المرة لأنكم تمتلكون هذا الإنجاز وحدكم.. المصريون يمتلكونه.. هذه ملكية بنسبة 99%.. والأمر متروك لكم فى أن تقولوا إن تأثرتم بأمريكا فى شىء أم لا بل إننى أتعجب ممن يقولون إن أوباما كان يتعين عليه أن يخرج مبارك من الحكم وكأن الرئيس الأمريكى هو الذى يحدد ذلك.. هذا القرار هو ملك للمصريين.
● ألم تر تناقضا فى الموقف الأمريكى الرسمى مع تطور الأحداث فى مصر؟
ــ أنا كنت فى القاهرة فلم أكن أتابع الموقف الأمريكى.
● أعنى الفترة التى تبدأ من تاريخ 25 يناير.. أنت لم تصل إلى مصر سوى فى الأسبوع الثانى من فبراير؟
ــ للحقيقة لم أكن أهتم بموقف الولايات المتحدة. أنا أركز على موقع الحدث نفسه.
● هناك اقتراحات للرئيس أوباما بزيارة مصر فى الفترة الحالية لدعم تحولها للديمقراطية، كيف ترى ذلك؟
ــ (يفكر قليلا).. أعتقد أنه اقتراح ليس فى محله فكما قلت كلنا نقف فى موقف المشاهدين لأنكم أنتم من تمتلكون هذا التغيير.
● ما الذى يمكن أن تقدمه أمريكا اليوم لمصر؟
ــ ستقدم مزيدا من المنح الدراسية لطلاب مصريين لمواصلة تعليمهم فى مدارس وجامعات أمريكية لتكريم الشباب الذى صنع الانتفاضة المصرية.
● وفى مجال بناء الديمقراطية؟
ــ يجب أن تجدوا طريقكم بأنفسكم.. أنا أتحدث من واقع انبهارى بما فعلتوه ولهذا أقول إنكم إذا أردتم مساعدتنا فى شىء يجب أن نقدمها لكم لكننا لن نعطيكم محاضرات فى الديمقراطية أو ننظر عليكم.
● ماذا عن العلاقات المصرية ــ الإسرائيلية؟
ــ هذه مسألة أفكر فيها لكننى أؤمن بأنه على إسرائيل ألا تكون راغبة فى السلام مع شخص واحد، وما رأيته فى ثورة مصر كان لا يدعو إلى تقارب أو قتال مع إسرائيل ولا إلى الإبقاء على اتفاقية السلام أو إلغائها بل كان محور الثورة هو التنمية ومطالب مصرية خالصة، ولهذا سأفاجأ كثيرا لو قرر المصريون إلغاء السلام مع إسرائيل.. ربما أكون ساذجا لكن أعتقد أنه لن يحدث.
● نشر تقرير مؤخرا يقول إنه وبالنظر إلى تأثير موقع الفيسبوك فى قيام الثورات العربية فإن ملك السعودية عرض شراء الموقع مقابل 150 مليار دولار، هل سمعت بذلك؟
ــ (يضحك بصوت عال) لم أسمع بذلك لكنه أمر مضحك للغاية.
المصدر : الشروق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق