إلى هذه الدرجة بلغت بجاحة الفاسدين؟ نطيح بزعيمهم، فلا يدفعهم ذلك إلى التخلي عن مواقعهم، والاستسلام لإرادة الشعب، بل يشجعهم على البقاء، وتوسيع النفوذ، وممارسة مزيد من الفساد، والتغطية على السرقات وتهريب الأموال.. أي ثورة تلك التي يدّعون احترامها والنزول على مطالبها؟ ذهب الرئيس، وبقيت حاشيته تحكم بسياساته وتأتمر بتوجيهاته، وتمت التضحية بالقليل من رجالها لإلهاء الشعب، وإقناعه بأن النظام يتوضأ ويتطهر من الفساد، أما أقطاب وأعمدة العصابة الفاسدة فلا يزالون يمارسون حياتهم على نحو أكثر من طبيعي، وتُعبّد لهم كل الطرق من أجل تأمين مصائرهم، وتحصين مواقعهم، وإخفاء ثرواتهم..
تبدو لنا الصفقة واضحة الآن: تخلَّى مبارك عن سلطاته على الورق، في مقابل إدارته الفعلية للبلاد من قصره في شرم الشيخ، والإبقاء على أذرعه في الحكم، وستر عوراته، والتغاضي عن جرائمه.. فالحكومة التي تسيّر الأعمال هي حكومته، ورجال الأمن الذين ينشرون البلطجية في الشوارع هم زبانيته، ورؤساء المؤسسات الذين يتحكمون في أرزاق الشعب ومقدراته هم تلاميذه..
ضحك علينا مبارك، وأبقى على عصابته.. أوهمنا أنه رحل، والحقيقة أنه احتمى بدرع نظامه، وضمن له ولطاقمه خروجاً آمناً كما كان يرغب ويخطط.. اختفى الحزب الوطني، وبقيت أقلامه، ووجوه الإعلامية، وطبالوه وزماروه.. رجال الأعمال المشبوهون ما زالوا يمولون مظاهرات التأييد، والتليفزيون الرسمي ما زال ينطق بلسان الحرس القديم، ويتملق الثورة، ويدّعي دعمها وتشجيعها.. هيئات الرقابة الحكومية ما زالت تخفي وثائق الفساد، وتنتقي الذبائح لتفدي رقبة النظام، على هوى مبارك وعائلته ومعاونيه..
يظل الهدف الوحيد الذي تحقق للثورة هو لم شمل الشعب، وتوحيد صفوفهم، لكن انتقال مبارك تحت مسمى التنحي من قصر العروبة إلى قصر شرم الشيخ لا يعني أن الثورة انتصرت.. لقد بدأت رحلة التغيير الشاقة.. صراصير النظام تنتشر في كل الأرجاء، وإبادتها تحتاج لانتفاضة كاسحة، تفوق ما كانت عليه ثورة 25 يناير.. انتفاضة تنطلق من ميدان التحرير ولا تقبع فيه.. تزلزل كل الوزارات والمصالح والمؤسسات، وتطيح بكل الوجوه العفنة، وتخرس كل الأصوات المضللة، وتقصف كل الأقلام المنافقة.. انتفاضة تصر على محاكمة كل المحسوبين على نظام مبارك الفاسد.. فكل منهم اقترف إثماً بتأييد الفساد، وتسهيله وتبريره، إن لم يكن شارك فيه، ونال منه نصيباً..
بيانات التهدئة واجب على الجيش، لكن لا ينبغي أن تلهينا عن هدف الثورة.. لقد تمرد الشعب على الفقر والجهل والمرض بسبب جرائم مبارك ونظامه، وبقاء فلول هذا النظام وأزلامه يعني أن هذه الجرائم ستتواصل، ومن ثم فإننا سنبقى غارقين للأبد في وحل الفقر وبالوعة الجهل ومستنقع المرض.. ولن ننتشل أنفسنا بحق من هذا النظام المستبد إلا بتوحيد الصفوف مرة أخرى، وشن حملة ساحقة ضد كل ما تبقى منه في شوارعنا ومبانينا..
يجب أن تذهب هذه الحكومة وتحل محلها حكومة تضم خبراء مستقلين يتوافق عليهم الشعب، ويجب أن يتم إقصاء رؤساء مجالس المؤسسات الصحفية، ويخضعون للتحقيق في فسادهم وتربحهم من وظائفهم، ويجب أن يختفي مذيعو ومذيعات الحزب الوطني من شاشات التليفزيون الرسمي والقنوات الخاصة، ويُساءلون عن تضليلهم للرأي العام وتحريضهم على الثورة أمام لجان تأديبية، ويجب أن يحاكم حسني مبارك وجمال مبارك وصفوت الشريف وفتحي سرور وزكريا عزمي وأحمد نظيف، وكل الوزراء الفاسدين السابقين والحاليين، وكل رجال الأعمال الذين تواطأوا مع هذا الفساد، وموّلوه، وشاركوا فيه، ويجب أن يُحل جهاز مباحث أمن الدولة، ويُحاكَم رجاله، ويجب أن يتم تطهير جهاز الشرطة، ويُعاد تأهيله، وتُفتح ملفات التعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان في السجون والمعتقلات..
هذه هي الخطوات الأولى في مشوار التغيير، إذا قطعناها فسنستحق لقب الثوار، أما إذا سلمنا واستسلمنا، وتركنا ذيول النظام تتحرك بحرية، فإنها سوف تلتف على أعناق الثوار، وتخنق أعظم ثورة في تاريخ البشرية، وتطوى صفحة التضحيات، وتذهب أرواح الشهداء بلا ثمن
بقلم: محمد سعيد محفوظ
نقلا عن الدستور
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق