لم يتدفق المال السياسي الغربي بعد الثورة فقط، بل كان حاضرا قبل الثورة، وإن كان تدفق المال السياسي الغربي قد زاد بعد الثورة بصورة ملحوظة. والطرف الذي يدفع المال، يعلن ذلك، لأنه يريد أن يثبت حضوره في المشهد، ويريد تأكيد أن له أنصارا أو متعاونين. ولكن الطرف المتلقي للمال في مصر، لا يريد أن يعلن عن نفسه، لأنه يعرف أن علاقته مع الغرب تضره ولا تنفعه، ومع ذلك فهو يحتاج للدعم الغربي، المعنوي والمالي. وعندما تعلن الإدارة الأمريكية عن تمويلها لمؤسسات مصرية، نجد العشرات من المؤسسات أو التجمعات التي تنفي تلقي هذا المال، ولا نجد من يعلن أنه تلقاه، وكأن المال ذهب لطرف مجهول، أو طرف في المريخ.
والأمر لا يتوقف على الدعم المالي فقط، فهناك الدعم المعنوي والسياسي، وهناك الدعم الفني بالتدريب والخبرات والمهارات وغيرها. وكل هذا الدعم موجود من قبل الثورة، ومستمر بعدها. والدول الغربية تدعم طرف في مواجهة طرف آخر، وتعلن ذلك صراحة، ولكن أحدا في مصر لا يريد أن يقول أنه هو الطرف المدعوم من الخارج. والدعم المعنوي والسياسي، لا يقل خطورة وتأثيرا عن الدعم المالي. لأن الدول الغربية عندما تدعم اتجاها بعينه، فهي ترهن مساعداتها عموما لمصر، بوجود هذا الطرف في الساحة السياسية، وقيامه بدور مؤثر فيها، أيا كان تواجده الشعبي. ويصبح وجود الطرف السياسي المدعوم غربيا في الساحة السياسية، شرطا مهما لاستمرار الدعم الغربي في المجالات السياسية والاقتصادية. وتصبح المعونات الغربية مشروطة بوجود طرف مدعوم غربيا، ومؤيد للتوجهات الغربية في الساحة السياسية. وبهذا يصبح غياب الطرف المدعوم غربيا من الساحة السياسية، كافيا للدخول في مواجهة مع الغرب، أو الإدارة الأمريكية وحليفها الصهيوني.
والغرب يدرك ماذا يريد، فهو يريد نظاما علمانيا في مصر، وهو يدعم الطرف العلماني سواء كان طرفا ديمقراطيا أو مستبدا. فقد دعم الغرب نظام مبارك بوصفه نظاما علمانيا، رغم أنه كان مستبدا وفاسدا. والغرب يفضل دعم طرف علماني ديمقراطي وغير فاسد، عن دعم الطرف العلماني المستبد والفاسد، لأن العلماني الديمقراطي غير الفاسد، سوف يكون له قبول شعبي ما، عن الطرف العلماني المستبد والفاسد، حسب تصورات الغرب. ولما كان المتاح زمن النظام السابق، هو الطرف العلماني الفاسد والمستبد، دعم الغرب النظام السابق، ولم يخاطر بدفع النظام لتطبيق الديمقراطية، ولم يغامر بفرض الديمقراطية عليه، لأنه كان يدرك أن الطرف العلماني الديمقراطي وغير الفاسد، ليست لديه قوة تمكنه للوصول للسلطة عن طريق صناديق اقتراع شفافة ونزيهة، لذا فضل الغرب دعم الطرف العلماني المستبد والفاسد، والذي مثله نظام مبارك.
ولكن عندما جاءت الثورة، وجاءت معها الحرية والديمقراطية، أدرك الغرب أنه لا مفر من صندوق اقتراع نزيه وشفاف، لذا أصبح الغرب يراهن على تقوية الطرف العلماني الديمقراطي غير الفاسد، من أجل تقوية حليف جديد له، يحل محل حليفه السابق الذي انهار. ونظرة الغرب للقوى السياسية في مصر واضحة، فهو يرى أن هناك قوى إسلامية، لا يريد لها أن تصل للسلطة، وقوى علمانية يريد أن تصل للسلطة، ويكون لها دور وحضور موازي ومتكافئ مع دور القوى الإسلامية. والقوى التي لا تسمي نفسها بالقوى العلمانية في مصر، وتسمي نفسها بالقوى المدنية للتورية، يسميها الغرب بالقوى العلمانية في كل وسائل إعلامه. وهو يرى أنها تمثل الخيار العلماني، والذي يرى الغرب أنه يحمي مصالحه، لأنه يمثل الخيار الغربي، وعندما يحكم في مصر الخيار الغربي السياسي، تصبح السياسة المصرية متوافقة من حيث الأسس والمنطلقات مع النموذج الغربي، مما يحمي الدور الغربي في المنطقة، ويحمي المصالح الغربية، وكذلك يحمي الدور المهيمن للغرب في العالم باعتبار أنه صاحب اختراع العلمانية، وكل من يقبل هذا الاختراع ويطبقه، يصبح تابعا ثقافيا وحضاريا للغرب، وبهذا تتشكل منظومة العولمة، والمقصود بها أن يحكم العالم من خلال منظومة واحدة، والتي ابتكرها الغرب، وبهذا يكون الغرب هو القيادة الموضوعية للعالم، بوصفه صاحب الانجاز التاريخي.
لذا نجد الطرف العلماني في مصر، يحاول أن يعيد انتاج نفسه أمام الجماهير بصورة مختلفة، فهو يخفي طابعه العلماني، ويخفي دعم الغرب له، ومن يتلقى من هذا الطرف دعما غربيا يخفي ذلك، حتى يقدم نفسه بصورة منفصلة عن الخيارات الغربية. ولكن الحقيقة الواضحة، أن الغرب لا يقف على مسافة واحدة من الجميع، بل يؤيد طرف في مواجهة طرف آخر، ويتبنى خيارات طرف في مواجهة خيارات الطرف الآخر، كما يتبنى طرف في مصر خيارات الغرب، في مواجهة خيارات الأطراف الأخرى في مصر. والدعم المالي والمعنوي والسياسي، يمثل طريقة لتغيير الأوزان النسبية للقوى السياسية في مصر، فيصبح الطرف المدعوم غربيا، أقوى من واقعه الجماهيري وقدراته الذاتية، بما يحصل عليه من دعم غربي. فالتدخل الغربي هو محاولة لتغيير الأوزان النسبية للمعادلة السياسية في مصر، حتى يزيد من قوة الأطراف التي يؤيدها بما يقدمه من دعم لها، فتتغير المعادلة بينها وبين القوى الأخرى. وبهذا يحاول الغرب تعديل المعادلة السياسية المصرية، وأوزانها النسبية لصالح الفريق العلماني، حتى يضمن له دور ربما أكبر من الوزن الجماهيري له، وحتى يجعل الطرف العلماني مؤثرا وحاضرا في السياسة المصرية، في الحاضر والمستقبل.
تلك هي لعبة المال السياسي الغربي، فهي محاول لتصنيع واقع سياسي ليس صحيحا، ولا يعبر تعبيرا مباشرا عن الخريطة السياسية والاجتماعية في مصر، حتى يؤمن الغرب مصالحه.
الوسط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق