بين أن يَحسب الإنسان أنه يخدم أخاه الإنسان ويسير إلى الله عبر خدمة الناس، أي البشرية عموما- فكل إنسان يمثل البشرية جمعاء مهما بدا سلوك البعض منفرا، وكل سلوك تجاه أي فرد سلوك تجاه البشرية كلية، وإلا فإننا نكون أمام مفاضلة بين فعل وفعل، وفقا للمصلحة، ومن فعل شيئا لمصلحة شخصية فلا خير فيه-  وأن يفعل المرء شيئا إرضاء لنفسه وتباهيا بقدراته أو منازلة لذاته، في خفاء متوهم عن مسامع الآخرين وأبصارهم، ففي ذلك استغفال للآخرين وخداع للنفس. في أن تخدم الإنسان طريق يوصلك إلى الله، وفي أن تدّعي ذلك بينما أنت تخدم نفسك، مستغلا حاجات الناس، خدمة لقيم التكبر والاستعلاء والتظاهر بل للشيطان كما تصوره الأديان. هذه فحوى قصة "الأب سيرغي" للكاتب الروسي ليف تولستوي، كما أرها.
قصة "الأب سيرغي"، قصة شاب ذكي جميل مجتهد طموح، ولكن قصووي، أي متطرف في كل شيء، على مبدأ "لنا الصدر دون العالمين أو القبر"، تعيبه قراراته الانفعالية، أو التي تبدو للآخرين انفعالية والتي تغيّر مجرى حياته بحدة مفاجئة للجميع.
الأب سيرغي هو نفسه الفتى ستيبان كاساتسكي الذي أتيحت له فرصة عن أبيه للدراسة فيمدرسة "الكاديت" العسكرية القيصرية، والعيش في وسط مقرب من القيصر نيقولاي الأول الذي عرف كاساتسكي لتميزه، فيما أحب طالب الكاديت ثم الضابط الشاب كاساتسكي القيصر أيما حب.
kinopisk.ru
تخرج كاساتسكي ضابطا في عمر الثامنة عشرة وخدم في فوج الحرس الارستقراطي، وعمل كل ما من شأنه أن يعجب القيصر، وبعد حصوله على وسام قيصري يؤهله التواجد في أوساط البلاط، رأى أن ما ينقصه لبلوغ درجة أعلى في سلّم طموحاته هو الزواج من فتاة من الطبقة الأرستقراطية، تنقله دفعة واحدة إلى الصف الأول، وكان أن تودد لفتاة حسناء من هذه الطبقة وطلب يدها فقبلت به، فراح يخطط لما هو أعلى. وإذا به قبل شهر من الزواج، ينفصل عنها ويستقيل من الحرس الارستقراطي القيصري ويلتحق بدير للرهبان، تاركا أمه في حيرة وأخته التي تفهمت قراره، دون أن يعلله لها أو لسواها من البشر.
فهل يكفي لتفسير خطوة كاساتسكي المصيرية مصارحة خطيبته الفاتنة، الكونتيسة كوروتكوفا، له بأنها كانت عشيقة حبيبه، أي القيصر نيقولاي الأول؟
المسألة ليست هنا إنما في معاناة الراهب كاساتسكي في حياته الكنسية صراعا مريرا مع جذره البشري، وربما صح القول كيميائه البشرية، وانتصار طبيعته البشرية على ادعاءاته في نهاية المطاف، ثم لجوئه، بعد هربه من الكنيسة إلى أبسط الناس، إلى براسكوفيا ميخائيلوفنا المرأة البسيطة التي كان وصحبه يسخرون من سذاجتها بل ضعف مقدراتها الذهنية في طفولتهم المشتركة. لجأ كاساتسكي إلي براسكوفيا لتعلّمه الحياة. ذلك أنه رأى في شقائها نحو اللقمة وإعالتها لأسرتها ومن استطاعت خارجها، طريقا إلى الله أضمن من طريق الصلوات والصراع مع الطبيعة البشرية الذي تدعو إليه الأديان.
عاش كاساتسكي، الذي اكتسب اسم الأب سيرغي صراعا ممضا في خدمة الرهبنة والكنيسة، وقد لا يكون أصعب فصول صراعه مقاومته إغواء المرأة المطلقة الجميلة ماكوفكينا، وبتره لإصبعه بالبلطة عقابا لنفسه على رغبته فيها أو قطعا لطريق ضعفه نحوها، ولا حتى استسلامه لشهوته مع ماريا ابنة التاجر التي خاطبت فيه جذره الذكوري فاستسلم لها، وبنتيجة ذلك هجر الكنيسة إلى غير رجعة. 
معاناة الأب سيرغي، والأصح كاساتسكي، كانت في عدم تمكنه من التغلب على حب الظهور، وبمعنى ما التفرد بما ينطوي عليه من استعلاء وتكبر مغلّف بتواضع مصطنع. كان الأب سيرغي يكتشف ذلك يوميا ويقاومه دون جدوى بالصلوات، أو لتقل بصلوات تفيد لأمد قصير، مؤدية وظيفة التخدير.
فإذا بكاساتسكي الكائن البشري العامر بالطاقة والرغبة في التميز والنجاح ينتصر، مع كل ما فيه من تناقضات، على الأب سيرغي الوحيد اللون والعابق برائحة القدسية الرسمية.
انتصر الإنسان كاساتسكي على الأب سيرغي، بصورة حاسمة بعد أن التقى براسكوفيا ميخائيلوفنا، التي كانت في أيام الطفولة تدعى تحببا باشينكا وكان يدعى ستيوبا، فرأى أن العبادة في أن تكون إنسانا مع كل ما في هذا الكائن من ضعف، وأن تفعل ما تستطيعه كإنسان، لا أكثر ولا أقل، خدمة للحياة بما هي قيمة عظمى، لحياة الآخرين وحياتك، وليس لمجدك الشخصي. وبالنتيجة، توسل كاساتسكي تعاليم الحياة عند المرأة التي كانت يوما تلك " الفتاة النحيلة ذات العينين الكبيرتين الطيبتين والوجه الخجول المثير للشفقة. باشينكا التي كانوا يأتون بها إلى شلة الصبيان ليلعبوا معها. وكان يجب اللعب معها، لكن اللعب معها ممل. وينتهي الأمر بأن يضحكوا عليها، يجبرونها أن تريهم كيف تجيد السباحة، فتستلقي على الأرض الجافة وتسبح. فيقهقهون ويجعلون منها بلهاء". جاء كاساتسكي إليها، راجيا:" ظننت أنني أعرف كل شيء، أنا الذي علّمت الآخرين كيف يعيشون، لا أعرف شيئا، فأرجوك علّميني".
كن ذاتك، بسيطا على فطرتك، كريما بما تملك، عفويا كالماء ينهمر دون تمييز، فيرتوي منه العطشان وينتعش، ويتقيه من به علّه، إن لم تكن العلة في الماء نفسه حين يكثر فوق الحد، فالطوفان ماء والسيل ماء أيضا.
تَبيّن الحدود ولكن لا تغالي فيها، الحدود التي ترسمها طبيعتك، بما أنت إنسان من جسد وروح، بما أنت تخم بين شيئين، وبين وجودين، إلهي وشيطاني، تكون بهما معا أو لا يكون لك وجود بشري، فلا تدعِ الملائكية، تصبح مضحكا أو معتوها بعين من يرونك بمنظار الواقع ويشككون بتماسكك وتوازنك.
فإذا بك محط اختبار قد تسقط فيه كما سقط الأب سيرغي، وعاد إلى كاساتسكي الذي هجره سنوات.
كن إنسانا، لا أكثر ولا أقل، فلا تحقّر نفسك ولا تُعلي من شأن تجاربك على نفسك، نحو إلغاء بشريتك. إنسانيتك، في بشريتك لا خارجها. أنت من جنس محدد، فكن أفضل ما تستطيع في حدود هذا الجنس، ولا تُضع وقتك بأوهام تجاوزه، لأن التجاوز يكون ضمنه لا خارجه، وكل تجاوز خارجه موت جسدي أو معنوي. فلا تفصل نفسك بمنشار وتقتل بعضا منك لا يكون البعض الآخر من دونه، ولا تمسخ نصفك من أجل أن يظهر نصفك الآخر أكبر من حقيقته، لأن ما تمسخه سيعود للتعبير عن نفسه، ولكن في وقت لا يناسبك وبطريقة صاخبة فاضحة ومشوهة. وما زلت، في حديثي، مع قراءتي لقصة "الأب سيرغي" لليف تولستوي.