الجمعة، 23 ديسمبر 2011

ميدان التحرير وشعراء الصوفية !

 / بقلم عبدالواحد محمد

 وحد بي الكون فأجفانه تلبس أجفاني.  وحد بي الكون بحريتي فأينا يبتكر الثاني . الشاعر أودنيس
عبدالواحد محمد
سوف يظل شعراء الصوفية الذين خرجوا من رحم الإبداع العربي الحقيقي رمزا خالدا بفضل عطائهم الدءوب والمتأصل في الذات والوجود بفلسفة قوامها الوعي كمرادف اجتماعي يكشف لنا عن الكثير من قضايانا السياسية والاقتصادية والروحية والفكرية والثورية بمنهجية أهل التفكير لا الدراويش والمجاذيب ومن رواد الصوفية الكبار الذين كتبوا رسالة كل الأجيال بحروف من نور وفيها متعة للبحث والتنقيب الذي يدفعنا للتساؤل؟ من هم ولمن كانوا يعيشون؟ ! رغم كل نداءات ومتاع الدنيا التي لم يسلم من شهواتها الكثير والكثير حكاما ومحكومين بتعاقب الزمن والعقود فنجد من بين هؤلاء المبدعين الذين ارتدوا ثوب الصوفية وهم الكبار في كل العصور الحلاج . بن عربي. بن الفارض.رابعة العدوية . وغيرهم لتصحيح مسار عالمنا الاجتماعي بمنطق لا يعترف بغير الولاء للوطن واللجوء للحكمة عند اشتداد الأزمات ونبذ الفتن والمؤامرات والحروب فكانت دعوتهم السلام وحب البشر والعمل البناء والأخذ بأساليب العصر تطورا فعليا لا نقلا وترجمة وهذا ما نبحث عنه في زماننا العولمي لكي نري جيل وأجيال بلا عقد ونعول عليها الكثير بعد ثورة 25 يناير المجيدة والتي جاءت من رحم شعراء الصوفية العظماء و الذين لم يغادروا ميدان التحرير طوال 18 يوما حتى سقط النظام البائد وهم يعزفون علي أوتارنا بشعر صوفي عذب النغمات رغم سقوط العديد من الشهداء والجرحى والمفقودين كما عزفه من قبل دعاة الإبداع والخروج من ظلمات الأفكار المريضة .
وليس غريبا علينا أن يعبر شاعرنا المعاصر عن تجربته الذاتية من خلال أصوات صوفية تبعث علي المضي نحو طريق فيه كل النداءات الملهمة لعالم وآخر ونضرب هنا مثلا بالشاعر الكبير ( أدونيس ) وهو يفسرلنا سر ارتباطه بالموروث الصوفي كواقع مرئي في سطوره وهو يؤكد في رسالته بقوله ما يلي ( لئن كان الإبداع لدي أسلافنا لا يتجاوز الحدود الإنسانية الواقعية فهو اليوم يقودنا إلي عوالم ثانية إلي الممكن وما وراءه خارج الحياة اليومية في مناجاة الأحلام والأفراح والحسرات والمشاعر والرؤي الفارقة في قرارة الروح وهذا ما يفسر اتصالي بالصوفية النسم المبثون في العالم حيث التجربة انبثاق كوني طوفان يغسل الواقع ويشيع الحياة والحلم في المادة فتصرخ الأشياء وتتآخي .. هكذا تؤلف الرؤيا الشعرية بين الأطراف وترد الكثرة إلي الوحدة فتتمازج أشياء العالم ويتوحد أي شئ مع أي شئ )
ولقد كان شعر أدونيس حقيقة في مجمله تعبيرا عن هذا النزوع إلي الاتحاد الحميم بكل مظاهر وزخرف الكون .
وحد بي الكون فأجفانه تلبس أجفاني
وحد بي الكون بحريتي فأينا يبتكر الثاني
كما لم يكن شاعرنا أدونيس هو الذي أنخرط في الصوفية شعرا بل نجد الشاعر صلاح عبد الصبور هو الآخر الذي جذبته وانعكس ذلك علي شعره وهذا يبدو جليا في قصيدته ( أغنية ولاء ) التي يصور فيها رحلته في سبيل الشعر مستغلا الجو الصوفي ومفردات الرحلة الصوفية في سبيل الوصول للحقيقة التي يؤمن بها فالشعر في القصيدة هو محبوب الشاعر الذي يتبتل إليه ويطهر ذاته ليستطيع الوصول إليه فهو يناجي الشعر في ضراعة صوفية شفافة .
خرجت لك
علي أوافي محملك
كمثلما ولدت غير شملة الإحرام وقد خرجت لك
( ومن أراد أن يعيش فليمت شهيد عشق
معذبي يا أيها الحبيب
أليس لي في المجلس الني حبوه التبيع
فإنني مطيع
وخادم سميع
فإن أذنت إنني النديم بالأسمار الخ
ومن بين الشعرا ء التي جذبتهم الصوفية في قصائدهم الشاعر ( بشر فارس ) الذي استغل معطيات التراث الصوفي في الإيحاء ببعض المعاني المبهمة التي تنم عن متناول الحس وقد ساعده علي ذلك أن تجربته في استبطان المحسوس تشبه في مثاليتها وما تقتضيه من مكابدة فلسفة التجربة الصوفية لديه وهذا ما نراه في قصيدته المعنونة ( إلي فتاة ) كنموذج لهذا المزج الفني بين الجانبين فهي محاولة للوصول إلي وراء المحسوس بوسائل المتصوفة .
بصريني يا وضوح ثورة القطب الخطير
أنا في وهج الفتوح يقظ لكن حسير
خف بي كشف طموح وكبا فهم كسير
فوضوح رمز الروح الهادية إلي عالم المجردات المحضة والقطب والفتوح والكشف رموز يستغل الشاعر ما فيها من إشعاعات صوفية للإيحاء بجو يشبه ما يعانيه المتصوف من شوق إلي الوصول وعجز عن الإدراك العقلي الواضح لما من شأنه الغموض وما يكتفي فيه باللمحة المبهمة عن الشرح والتقرير ويعد لا مراء الشاعر بشر الفارس أحد رواد الرمزية الصوفية بلا منازع مثل كثيرين من شعراء الصوفية فلم يستخدموا من التراث الصوفي سوي المعجم والجو الصوفي العالم أما استعارة شخصيات من التراث الصوفي للتعبير من خلالها عن بعض جوانب تجربة شاعرنا المعاصر فذلك أمر لم يشع في شعرنا العربي إلا مع مطلع الستينيات من القرن العشريني المنصرف .
لكن ما نود البحث والتنقيب عنه هو الوصول إلي مرادفات صوفية في شعرنا العربي بعد أحداث ثورة 25 يناير وما يعقبها من متغيرات كيفية ونوعية في الفكر والإبداع الذي يقوم علي أسس تكمن في خلق القصيدة الملهمة للعامة وليست للخاصة أو النخبة المثقفة التي تستوعب كثير من الفلسفات المبنية علي فلسفة ومنطق وهذا هو ما يجب البحث والتنقيب عنه وخاصة أن ميدان التحرير كان محركا للعقول والقلوب معا من خلال رسالة الشاعر الشعبي والفطري الذي تحمل عناء البرد والجوع والصبر علي تحقيق هدفه وهدف شعب يسعي لفك كل القصائد التي لم تكن صوفية في أدني صورها بل كانت مفككة من الوزن والمعني كأنها ترقص علي قدم واحدة ؟ وهذا سر سقطوط نظام هرم لم يستوعب فن القصيدة التي تحقق تواصله مع الآخر فسقطوا دون رجعة وبقي الشعر رسالة والشعراء عليهم دور لن ينتهي حتي نستعيد عافية الإبداع العربي في كل مؤسسات عواصمنا العربية لأن ثورة 25 يناير المصرية لم تكن ثورتنا بل كانت ثورة ملهمة لكل ما هو عربي يكتب القصيدة بلسان فصيح وهذا ما بلوره برؤيته الشاعر العراقي الكبير عبدا لوهاب البياتي في قصائد بعنوان ( عذاب الحلاج ) والربط بين محنة الحلاج الصوفي الكبير والسيد المسيح في الموروث المسيحي ونجده يستعير بعض من ملامح المسيح للحلاج فهو حين يصور مطاردة قوي البغي له ولأتباعه ولأ فكاره يستغل ملمحا من ملامح المسيح وهو العشاء الأخير الذي تناول ه المسيح مع تلاميذه وحواريه قبل القبض عليه فيقول في قصائده
والنار أصبحت رمادا هامدا .. من أين لي يامغلق الأبواب
والعقم واليباب
مائدتي .. عشائي الأخير في وليمة الحياة
وهو أخيرا يعطي حادث صلب الحلاج نفس الدلالة التي أخذها صلب المسيح في شعرنا المعاصر وهي البعث من خلال الموت وميلاد الحياة الجديدة من أشلائه
أوصال جسمي أصبحت سماد
في غابة الرماد
ستكبر الغابة يا معانقي
وعاشقي
ستكبر الأشجار
أما الجانب الآخر والمهم وهو البعد السياسي لمحنة الحلاج فهو أشد وضوحا لدي البياتي بل أنه المحور الأساسي الذي تدور حوله القصيدة كلها فهو يتكلم باسم الفقراء الذين منحوه الأسمال التي يلبسها وهذه الأقوال التي يتفوه بها وهو في مشهد ( محاكمة الحلاج ) ويلخص سبب محاكمته البياتي في كلمتين
بحت بكلمتين للسلطان
قلت له جبان
أما مسرحية ( مأساة الحلاج ) للشاعر صلاح عبدالصبور فحملت تلك الإرهاصات الصوفية في سطورها التي خاطبت الوجدان من خلال صورة فيها كل مشاهد الحلاج الداخلية التي تنم عن شعوره بالظلم البين
إلي إلي ياغرباء .. يافقراء .. يامرضي
كسيري القلب والأعضاء قد أنزلت مائدتي إلي إلي
لنطعم كسرة من خبز مولانا وسيدنا
إلي إلي أهديكم إلي ربي وما يرضي ربي
أما البعد السياسي لمحنة الحلاج فهو بدوره واحد من المحاور الأساسية للمسرحية حيث حاول الشاعر صلاح عبدالصبور في المسرحية أن يصور من خلال الحلاج موقف صاحب الكلمة من المجتمع ومن السلطة أو علي حد ما يقول الشاعر القت المسرحية دور الفنان في المجتمع وكانت إجابة الحلاج هي أن يتكلم ويموت كان عذاب الحلاج طرحا لعذاب المفكرين في معظم المجتمعات الحديثة وحيرتهم بين السيف والكلمة بعد أن يرفضوا أن يكون خلاصهم الشخصي بطرح العديد من المشكلات الكونية والإنسانية علي كواهلهم وهنا لابد من الإشادة بالدور الصوفي في مؤازرة العقل والنفس المتطلعة للتغير كما حدث عندما خرجت الجموع الشعبية عن بكرة أبيها يوم 25 يناير ومن قلب ميدان التحرير الصوفي أيضا مطالبة بالتغير والعدالة الاجتماعية بعدما تحولت العقول الحاكمة إلي عقول جامدة لا حلم لها غير أن تمكث مائة عام في السلطة ؟!
. وما بين الحقيقة والحقيقة شواهد عندما نسترجع دور شعراء الصوفية عبر التاريخ ونحن نقرأ ألفيتنا الثالثة ونرصدها بعين لاتري غير الإبداع حرا وخاليا من من كل المحسنات الذليلة التي دفعنا ثمنها كثيرا حتي تاهت القصيدة العربية ولم تعد تلقي قبولا رائجا من صناع كل قرار وكنا وكانوا من قضية لم يحسموها من قبل أن التغير لن يطرأ علي القصيدة العربية بقبضة السلاح والعسكر وكتبة التقارير المفبركة لإجهاض أي ثورة تنشد التغيير فخرجوا من المعادلة وبقت مصر حاضنة لأكبر ثورة شعبية عرفها التاريخ المعاصر في ظل وسائط تكنولوجية أبرزها الانترنت والنقال والفضائيات التي مهدت لكسر كل القضبان الحديدية ..
بقلم
عبدالواحد محمد
كاتب وصحفي مصري
abdelwahedmohaned@yahoo.com
نشرت في مجلة الثقافة الجديدة المصرية عدد أكتوبر 2011

Locations of Site Visitors
Powered By Blogger