الخميس، 6 نوفمبر 2014


جلال أمينأخطاء داعش.. وأخطاؤناجلال أمينمنذ 17 ساعة

ها قد مرّت عدة شهور منذ بدأت تأتينا تلك الأخبار المرعبة والمقزّزة عن جماعة تنسب نفسها للإسلام، وتسمى نفسها بهذا الاسم الغريب (داعش)، وتنتقل من دولة لأخرى، عربية وغير عربية، قتلاً وتعذيباً وتدميراً، بزعم رغبتهم فى إعلاء شأن الإسلام، وإقامة ما يسمونه «الخلافة الإسلامية».

أى خلافة، إسلامية أو غير إسلامية، يمكن أن تقوم على أساس القتل والنهب والتعذيب على هذا النحو؟ وما هى القيم الأخلاقية أو السياسية التى يريدون إرساءها بهذه الأعمال وإقناع الناس بها؟ وأى مرض عقلى هذا الذى يمكن أن يصيب بعض العرب (أو الأوروبيين الذين انضموا إليهم)، حتى يتوهموا أنهم بذلك يقومون بعمل مفيد للإسلام أو للناس أو لأنفسهم؟ وما هو نوع تقديرهم للظروف السياسية والعالمية، بحيث يظنون أن إقامة مثل هذه «الخلافة» ممكنة الآن؟ وأن الدول المحيطة بهم يمكن أن تسمح لهم بذلك؟
أسئلة عجيبة ما كانت لتخطر بالبال لولا تكرر الأخبار التى تنهال علينا كل يوم، بأن هذه الجماعة المدهشة قد فعلت بالأمس كذا، وقطعت رؤوس هؤلاء، وشردت المسيحيين هنا، أو قتلت الأكراد هناك.. إلخ. كان آخر هذه الأخبار ما قرأته بالأمس فى جريدة بريطانية عن أن شابين كنديين قاما بتفجير بعض القنابل أودت بحياة بعض الأبرياء فى العاصمة الكندية، أوتاوا، التى تشتهر باستقرار الأمن وبالهدوء والسكينة، وأن رئيس الوزراء الكندى أعلن أن لديه من الأدلة ما يشير إلى أن هذا العمل من فعل إرهابيين. وقال غيره إن أدلة أخرى تدل على أنهم ينتمون إلى جماعة داعش، وعبّر بعض المحللين عن رأيهم فى أن كنديين قد اعتنقوا الإسلام مؤخراً، وأنهم فعلوا ما فعلوه انتقاماً من انضمام كندا إلى الولايات المتحدة فى حملتها الأخيرة ضد جماعة داعش فى العراق.
ولكن من المدهش أيضاً أنه ليس من الواضح تماماً ما إذا كانت الولايات المتحدة (وبالتالى كندا أيضاً) جادة حقاً فى ضرب داعش أو ليست كذلك، فهى تضرب يوماً ثم تتوقف عدة أيام، وتصريحات رسمية تأتى من الولايات المتحدة بأن القضاء على داعش يحتاج إلى عدة سنوات، وليس عدة أيام، وتصريحات أخرى رسمية أمريكية تقول إن الولايات المتحدة تستطيع ضرب داعش فى العراق، ولكنها لا تستطيع ضربه فى سوريا. لماذا يا ترى؟ ولماذا تعجز أكبر قوة عسكرية فى العالم عن أن تنهى فى عدة أيام، سواء فى العراق أو فى سوريا، جماعة كهذه لم تنشأ إلا بالأمس؟ بل وما سر اكتفاء الولايات المتحدة بضربهم (أم هو تظاهر بضربهم؟) بضربات جوية، وإعلانها أنها لن تخوض حرباً ضدهم على الأرض، (مع أنها كثيراً ما تفعل هذا فى أماكن أخرى)، مع ما يعنيه الضرب الجوى من قتل أبرياء مع المذنبين، وأن هذا يطيل فقط من أجل عملية كان من الممكن إنهاؤها فى الحال.
كل هذا يضاعف من حيرتنا فى فهم ما يحدث، مما جعلنى فى الأيام الأخيرة أقتصر على قراءة العناوين الكبيرة كلما رأيت كلمة «داعش» فى وسطها، من باب الاشمئزاز، ومحاولة النجاة بنفسى من معرفة تفاصيل لا تزيد معرفتها إلا من حيرتى وعدم فهمى لما يحدث.
ولكنى قرأت كلمة بكلمة الحديث الذى نشرته جريدة «المصرى اليوم» منذ أيام قليلة، فى صفحة كاملة بعنوان «داعش.. صناعة أمريكية»، والحديث كان مع سفير مصرى سابق فى أفغانستان والعراق. لم أصادف اسمه من قبل، ولكنى وجدته يقول كلاماً معقولاً ومبنياً على دراية واسعة وتحليل منطقى لما مرّ بالمنطقة من أحداث، بما فى ذلك تفسير ظاهرة «القاعدة» نفسها، بأنها بدورها من صنع الأمريكيين من أجل طرد السوفييت من أفغانستان، ثم تحقيق أهداف أمريكية مختلفة هنا وهناك، فضلاً عن تشويه سمعة المسلمين.
لقد كنت مقتنعاً دائماً، منذ أن سمعت عن بن لادن لأول مرة، بأنه صناعة أمريكية. وكان قيام الأمريكيين بقتله منذ وقت قصير فى باكستان (وعلى بعد خطوات من مبنى المخابرات الباكستانية وثيقة الصلة بالمخابرات الأمريكية)، ثم إلقاء جثته فى البحر، مع القيام بتصوير عملية الهجوم على مقره والقبض عليه، وبثّ الصور بالتليفزيون فى العالم كله، عملاً مدهشا بدوره، وبدا لى كل هذا كعمل سينمائى درامى من الدرجة الأولى، يستحق (لولا سخافته وبشاعته) الحصول على جائزة فى الإخراج وليس فى تحقيق الأمن والقضاء على الإرهاب.
الآن يُخترع لنا هذا الاختراع الجديد (داعش) لتحقيق أهداف مماثلة، لأمريكا أو لإسرائيل، أو لكلتيهما معاً، والله أعلم كم سيستمر هذا المسلسل البشع الذى يشيع كل هذه الكآبة فى النفوس، ويسمم حياة الناس فى كل صباح.
■ ■ ■
ما هى الطريقة المثلى للتعامل مع مثل هذا الكذب والتمويه على الناس، والإصرار على نشر الخوف والرعب بينهم؟ هل نستمر فى قراءة الصحف ومتابعة الأخبار والصور فى التليفزيون كما تعودنا؟ أم أن الأمر يستلزم وقفة من جانبنا، نحن المستهلكين المساكين للأخبار، ومن جانب المسؤولين عن وسائل الإعلام (أو بعضهم على الأقل)؟ أليس من بين هؤلاء المسؤولين عن الإعلام شخص واحد رشيد يحزم رأيه إزاء هذه السخافات والأكاذيب، ويقرر أن يطلب من بعض رجاله التعمق فى حقيقة ما يحدث، وينشر علينا ما يصلون إليه من نتائج بلا خوف؟
أعاد هذا الخاطر إلى ذهنى ذكريات قديمة، عما كنت أقرؤه فى الصحف الإنجليزية منذ أكثر من خمسين عاماً، عندما كنت طالباً بالبعثة بإنجلترا، كانت حالة هذه الصحف مختلفة عما هى الآن، إذ كانت أكثر جرأة فى التحليل وأقوى شعوراً بالمسؤولية تجاه القارئ، ثم تذكرت أننا فى فترة ما بعد هذا التاريخ، قرأنا أن صحيفة بعد أخرى من الصحف المستقلة قد اشتراها هذا الرجل أو ذاك، من أباطرة الصحافة المسيطرين على العديد من الصحف والقنوات التليفزيونية، فانتهى عهد الاستقلال، وأصبحت السياسة التحريرية لهذه الصحف ملتزمة على نحو صارم بالحدود التى لا تسمح بتجاوزها جهات أمنية أو مخابراتية أو سياسية عليا.
منذ ذلك التاريخ تغير ما أصبحنا نستطيع الحصول عليه من الصحف وغيرها من وسائل الإعلام، وأصبحت كلها تقريباً متشابهة إلى حد مقلق، تذكر الخبر ولا تحاول أن تفسره، أو تكاد تقترب من ذكر الحقيقة فى تفسيره، ثم يتوقف الكلام فجأة، وتترك القارئ حائراً ليحاول استنتاج الحقيقة بنفسه، ولكن استنتاج الحقيقة يصبح مع الوقت أكثر صعوبة، ليس فقط لزيادة حجم الخداع والتمويه، ولكن أيضاً لاختلاط التسلية بالإعلام، فيضيع الخبر وسط الموسيقى المثيرة والصور الخلابة، ويتحول المتفرج بدوره إلى جثة هامدة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


Locations of Site Visitors
Powered By Blogger