الاثنين، 5 ديسمبر 2011

ثلاث مقالات عن : الثورة المضادة فى السعودية


- المقالة الأولى -


يوم 11 آذار/ مارس 2011، سيسجله التاريخ الحديث يوماً مفصلياً في تاريخ المملكة العربية السعودية. لكن في أي اتجاه؟ هذا ما سوف نراه! إذ قبل ذلك بفترة، أنشئت صفحة مشبوهة ــ مجهولة المصدر ــ على موقع فايسبوك، تدعو إلى ثورة على نظام الحكم في السعودية، للأسف، تعامل النظام معها بانفعال، في مناخ الثورات العربية. من مظاهر ذلك التعامل إطلاق العلماء فتاوى لتحريم التظاهرات، وتحريم الدعوة إلى الإصلاح، وتحريم الخروج على الحاكم، مهما كانت الأسباب. يؤكد ذلك المشكلة الثقافية (الفكرية) ــ الاجتماعية التي تعانيها المؤسسة الدينية في السعودية.

تحرك مجلس الشورى، من جهته، في اتجاه انفعالي مماثل، وأعتقد أنّها المرة الأولى التي يتوجه فيها المجلس ببيان إلى الشعب، وهو اتجاه محمود، والأجدى أن يعمل أعضاء المجلس على تحويله إلى سلطة تشريعية كاملة، عبر المطالبة بحق الانتخاب وسلطات الرقابة والتشريع والمحاسبة.

جاء يوم 11 آذار/ مارس، يوم ما سمي ثورة «حنين» ولم يتظاهر أحد ضد النظام، باستثناء أفراد. في ذلك اليوم، تحوّلت بعض الميادين إلى ثكن عسكرية. وهذا تعامل انفعالي آخر، إذ إنّ أغلب العارفين بالمشهد السعودي لم يتوقع تظاهر المواطنين لإسقاط النظام.

قبل اليوم المحدد للثورة بنحو أسبوع، زار الأمير عبد العزيز بن فهد (وزير الدولة ـــــ رئيس ديوان مجلس الوزراء) الشيخ سعد الشثري (عضو هيئة كبار العلماء المقال في أكتوبر/ تشرين الاول 2009)، بناءً على دعوة الأخير. سأل أحد الحاضرين ـــــ الذين ناهزوا الأربعين عالماً وداعية، أغلبهم تقليديون ـــــ الأمير عبد العزيز عن توقعاته بخصوص ثورة حنين. أجاب الأمير: «نحن نثق في شعبنا». في تلك الليلة، أدان أحد الدعاة ـــــ وأيّده أغلب الحاضرين، إن لم يكن جميعهم ـــــ بيان «دولة الحقوق والمؤسسات» الذي رفعه الشيخ سلمان العودة، مع مجموعة من الناشطين إلى خادم الحرمين، متضمناً مطالب إصلاحية. من تلك المطالب: أن يكون مجلس الشورى منتخباً كله، فصل رئاسة الوزراء عن الملك، العمل على استقلالية القضاء وإصلاحه وتطويره، محاربة الفساد المالي والإداري بكل صرامة، الإسراع بحل مشكلات الشباب، إطلاق حرية التعبير المسؤولة، تشجيع إنشاء مؤسسات المجتمع المدني، والإفراج عن مساجين الرأي وتفعيل الأنظمة العدلية. جرى تصوير البيان في عيون أصحاب القرار آنذاك على أنّه تأييد مبطن للثورة، وأنّه يحظى بتأييد القيادات الدينية من وعّاظ وعلماء دين ودعمهم. لكن الدعاة في بيت الشثري، أكدوا وقوفهم في صف النظام، ورفضهم للثورة بل وتصديهم لها، ورفضهم لبيان الشيخ سلمان العودة، وأوصلوا مطالبهم إلى الأمير. يمكن تلخيص المطالب في ما يأتي: العمل على استقلال القضاء وتطويره وإصلاحه، حماية المال العام والحرب على الفساد المالي والإداري، وإصلاح الصحافة بحيث تتحقق حماية المفتي وأعضاء هيئة كبار العلماء والوعاظ من نقدها. يبدو واضحاً أنّ مطالب تلك المجموعة التقليدية (منهم: عائض القرني، سعد البريك، محمد السعيدي، عبد العزيز محمد أمين قاسم، خالد الشايع، يوسف الغفيص)، تحمل بعض التقاطعات مع بيان الشيخ سلمان العودة ورفاقه، لكن تلك المجموعة لها طريقة مختلفة في إبداء الآراء، وإيصالها إلى أصحاب القرار.

عاد الملك السعودي إلى أرض الوطن بعد رحلته العلاجية في 23 شباط/ فبراير 2011. كانت الشائعات تسبق عودة الملك، ومنها الحديث عن إصلاحات جذرية سياسية واقتصادية، بالإضافة إلى التشكيل الوزاري الجديد (بدأت ولاية الحكومة الحالية في آذار/ مارس 2011، ومدة الولاية هي أربع سنوات، وإلى اللحظة لم يُعلن التشكيل الجديد!). أعلن الملك سلسلة من القرارات: دعم رأس مال صندوق التنمية العقارية بـ40 مليار ريال، وإعفاء المتوفين من أقساط القروض؛ رفع رأس مال البنك السعودي للتسليف والادخار بـ20 مليار ريال، إضافة إلى الوديعة السابقة (10 مليارات ريال)، مع إعفاء المتوفين من أقساط القروض؛ دعم الميزانية العامة للإسكان بـ15 مليار ريال؛ ضم الطلبة الذين يدرسون على حسابهم الخاص ـــــ خار ج المملكة ـــــ إلى برنامج الابتعاث الحكومي؛ تثبيت بدل الغلاء ضمن الراتب الأساسي لموظفي الدولة؛ استحداث 1200 وظيفة في المرافق الحكومية المختلفة؛ دعم مالي للأندية الرياضية والأدبية والجمعيات المهنية المرخصة بمبلغ يراوح بين 2 مليون ريال و10 ملايين ريال. كذلك نال الضمان الاجتماعي قرارات مالية مهمة، وغيرها من إجراءات.
استقبل الشعب السعودي الملك بالحبور والراحة، وفي الوقت نفسه، رفعت النخب الفكرية في المملكة مطالب عدّة إلى الملك، تفاعلاً مع التطورات التي تشهدها المنطقة. فبالإضافة إلى بيان «دولة الحقوق والمؤسسات»، رفعت مجموعة من الشباب رسالة عرفت باسم «رسالة 23 فبراير» إلى الملك ــــ أوصلها مشكوراً الأمير طلال بن عبد العزيز ـــــ تضمنت المطالب التالية: مراجعة النظام الأساسي للحكم ونظام الشورى ونظام المناطق ونظام مجلس الوزراء على أساس مكافحة الفساد، وإصلاح القضاء، وتعزيز قيم المواطنة والحريّة والعدالة وسيادة القانون والتنوع والمساواة بين المواطنين، واحترام حقوق الفرْد، وتمكين المرأة من حقوقها كاملة، وتأسيس محكمة نظامية عليا تحمي النظام الأساسي من أي تجاوز أو انتهاك، وإعادة تأليف الحكومة ومجلس الشورى ومجالس المناطق ليكون الشباب هم الشريحة الأغلب فيها، وتطبيق توصيات الحوار الوطني الثاني ومن أهمها الفصل بين السلطات وتوسيع المشاركة الشعبية عبر الانتخاب وحماية المال العام وتحقيق التنمية المتوازنة.

كذلك وجه مثقفون سعوديون بيان «إعلان وطني للإصلاح» إلى القيادة السياسية، تضمن مطالبة النظام بالالتزام بالتحوّل الجاد إلى نظام ملكي دستوري. ولتحقيق ذلك طالبوا بالتالي: تطوير النظام الأساسي للحكم إلى دستور متكامل، اعتماد الانتخاب العام والمباشر محوراً رئيساً في الحياة السياسية، تأكيد مبدأ سيادة القانون ووحدته، إقرار مبدأ اللامركزية الإدارية، استقلال السلطة القضائية، التعجيل بإصدار نظام الجمعيات الأهلية الذي أقره مجلس الشورى، تمكين المرأة من حقوقها كاملة، إصدار قانون يحرم التمييز بين المواطنين، إلغاء القيود الحكومية التي تكبل جمعية حقوق الإنسان (الأهلية) وهيئة حقوق الإنسان (الحكومية)، العمل على معالجة مشاكل البطالة والإسكان وتحسين المعيشة، حماية المال العام وإخضاع كل الدوائر الحكومية للرقابة والمحاسبة، وإعادة النظر في أسس خطط التنمية. وطالب المثقفون بأربعة إجراءات فورية: صدور إعلان ملكي يؤكد التزام الحكومة ببرنامج الإصلاح السياسي، الإفراج الفوري عن السجناء السياسيين، إلغاء أوامر حظر السفر التي فرضت على عدد من أصحاب الرأي، ورفع القيود المفروضة على حرية النشر والتعبير. في 7 آذار/ مارس 2011، صدر بيان شبابي آخر موجّه إلى الملك بعنوان «مطالب الشباب من أجل مستقبل الوطن»، من أبرز مطالبه: القضاء العاجل على مشكلة البطالة، حل مشكلة الفقر، محاربة كل أشكال الفساد المالي والإداري، تجريم كلّ أشكال المحسوبية والتمييز بين المواطنين، إيقاف كل أشكال التمييز ضد المرأة، تكريس مفهوم المواطنة، إلغاء الوصاية الدينية على المجتمع، اعتبار العمل الثقافي جزءاً عضوياً في حياة المواطن، تفعيل دور الفنون في تطوير الحياة الثقافية في المجتمع، وإفساح المجال للشباب في كل مؤسسات صنع القرار. ورأى الشباب أنّ ثمة مطالب لا بد من تنفيذها فوراً وهي: تطوير النظام الأساسي للحكم ليؤسس لملكية دستورية، إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وإلغاء حظر السفر الذي صدر بحق بعض دعاة الإصلاح. من خلال تلك البيانات والمطالب، نستطيع أن نفهم لماذا لم يخرج السعوديون يوم 11 آذار/ مارس، خصوصاً أنّ البيانات تمثل شرائح فكرية وعمرية متنوعة وواسعة، ربما تعبّر في مجموعها عن المزاج السعودي العام. مزاج اتضح أنّ من أهم ملامحه:

* السعوديون يثقون في ملكهم عبد الله بن عبد العزيز الذي يتمتع بشعبية حقيقية بينهم.
* السعوديون لا يريدون الثورة على النظام، بل إصلاحه وتطويره والتغيير من داخله، وهذا الإصلاح لا بد أن يتبنى تغيير الأشخاص والسياسات.
* إنّ هاجس الإصلاح الذي يشغل بال النخبة في المملكة، أصبح يتمدد أفقياً ليعمّ طبقات واسعة من الجنسين.
* إنّ الثقافة الليبرالية أزاحت الفكر المحافظ جانباً. فبعدما كان عدد الموقعين على تلك البيانات والمطالب لا يتجاوز المئات، بدا واضحاً إقبال الآلاف على تأييد مطالب الإصلاح الليبرالية.
* إنّ التحفظات الشعبية على بعض الأفكار الإصلاحية، كالتحوّل إلى ملكية دستورية وتمكين المرأة، بدأت تتحرك في مساحة تتراوح بين التفهم والاستيعاب الواعي والقبول إلى الضرورة والمطالبة (ولا يزال مطلوباً إزالة اللبس بين الإصلاحيين وبين النظام، في ما يختص بالملكية الدستورية، لكون بعض النافذين في السلطة يعتقد أنّ المقصود تجريد الملك من كلّ صلاحياته على غرار النموذج البريطاني، وهذا غير صحيح).
* إنّ فكرة الإصلاح التقليدية التي ترسخت في الفكر الحكومي زمناً، والمتمثلة في تحسين الخدمات وإغداق الأموال على المواطنين، لم تعد تتواءم مع المناخات السائدة والحقوق المشروعة والحراك الذي يعيشه المجتمع.
* بعض مسلّمات الفكر الحكومي أصبحت عبئاً على التنمية، كالمركزية الإدارية. والحديث عن قدرة الحكومة على احتكار زمام المبادرة لم يعد منطقياً، وأصبح يقابَل بالدعوة إلى المجتمع المدني. ويعزز هذا التحليل تنامي ظاهرة العمل التطوعي في المملكة.
* إنّ الإجراءات التعسفية، كالاعتقالات السياسية ومنع السفر والقيود على حرية التعبير، فضلاً عن عدم شرعيتها، لم تعد مستساغة أو يمكن السكوت عنها، وأن تمتع وزارة الداخلية بنفوذ استثنائي لا يخضع لحساب أو عقاب أصبح مشكلة لا بد من معالجتها.
* إنّ التعامل الأمني مع القضايا السياسية، على غرار التعامل مع الأقليات والناشطين السياسيين أثبت فشله.
* اتفقت جميع البيانات على ضرورة إصلاح القضاء، وهذا يعني اضطراب ميزان العدل في أرض الواقع وخصوصاً في القضايا السياسية وقضايا المتهمين بالإرهاب. كذلك اتفقت البيانات على محاربة الفساد الذي أصبحت سطوته تنهش أجهزة الدولة، إضافة إلى حماية المال العام والتنمية المتوازنة.
* مفهوم «الرعايا» سقط إلى الأبد، وبدأت المواطنة تتقدم، وكذلك مبدأ وجود حقوق وواجبات واضحة ومتساوية في إطار سيادة القانون ـــــ لا الفتوى ـــــ واحترام حقوق الإنسان والانطلاق نحو الديموقراطية دون تمييز أو عنصرية باسم الجنس أو الطائفة أو المناطق.
* هناك ملامح لحياة سياسية حيوية وجادة وواعدة بدأت في التكوّن، خصوصاً من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، وعبر تحركات الناشطين وطروحات المثقفين. لذلك، فإنّ تعبير السعوديين عن مطالبهم وأفكارهم عبر بيانات ورسائل موجهة إلى أصحاب القرار لن يطول (وقد بدأت سيدات سعوديات حملة للشروع في ممارسة المرأة لقيادة السيارة، دون انتظار موافقة أو استئذان من أحد، وازداد التعاطف الاجتماعي مع هؤلاء السيدات ومطلبهن، بعد اعتقال الناشطة منال الشريف في المنطقة الشرقية)، وعليه فإنّ النظام مطالب بتشريعات واضحة تكفل ممارسة سياسية ناضجة وسليمة، تضمن حق الناس في الدعوة إلى التغيير وتنفيذه، وتحقق التجدد والحيوية للحياة السياسية.
* الوصاية الدينية على المجتمع تآكلت إلى حد كبير، وأصبحت عبئاً على القيادة السياسية، بل إنّ التيارات الإسلاموية نفسها تتغير وتتطور. والوصاية من أي نوع ـــــ حتى لو كانت سياسية ـــــ لم تعد مقبولة هي الأخرى.

مرّت ثورة حنين في 11 آذار/ مارس من دون أن تتحقق، وأصدر الديوان الملكي في 17 آذار/ مارس بياناً يعلن أنّ الملك سيلقي خطاباً إلى المواطنين في اليوم التالي. وهنا، ارتفعت الآمال بأنّ ثمة حكومة جديدة ستعبّر عن السعودية المأمولة، وأنّ الملك سيصدر قرارات تاريخية تعزز موقعه بوصفه مؤسساً ثالثاً (بعد الملك عبد العزيز، ثم الملك فيصل) للدولة السعودية. وما عزز هذا الانطباع ـــــ إضافة إلى أجواء «الربيع العربي» ـــــ إصدار المجلس التنفيذي للجمعية الوطنية لحقوق الإنسان في 15 آذار/ مارس (هي الجمعية الأهلية الوحيدة المرخصة في مجال حقوق الإنسان، وقد تأسست بإيحاء حكومي) بياناً تناول رؤية الجمعية للوضع الداخلي، ومطالبها لتمتين الأمن والاستقرار، وهي: الاستمرار في مشروع الملك للإصلاح السياسي بما يضمن المشاركة الشعبية، ضرورة الحرص على بث روح المواطنة، وضع استراتيجية وطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد، تعزيز استقلال القضاء، تفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني، تفعيل نظام الإجراءات الجزائية، تمكين المرأة والطفل والمسنّين من حقوقهم الشرعية والنظامية، ضمان الحق في العمل والسكن والتعليم والصحة لكل المواطنين، تأكيد أهمية الحوار، ومعالجة وضع الأشخاص الذين لا يحملون أوراقاً ثبوتية.

أصدر الملك قراراته في 18 آذار/ مارس. قرارات معيشية لم تقترب من الإصلاح أو من إعادة تأليف الحكومة، وهي: صرف راتب شهرين لجميع موظفي الدولة والطلبة الجامعيين، صرف معونة شهرية (2000 ريال) للباحثين عن عمل، اعتماد 3000 ريال حداً أدنى لرواتب العاملين في كل قطاعات الدولة وتثبيت بدل غلاء المعيشة ضمن الراتب الأساسي لموظفي الدولة، اعتماد بناء نصف مليون وحدة سكنية لمواجهة أزمة الإسكان، رفع الحد الأعلى للقرض السكني في صندوق التنمية العقارية، تأسيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وتعيين الأستاذ محمد الشريف رئيساً لها، اعتماد 16 مليار ريال لوزارة الصحة لتأسيس 5 مدن طبية، رفع الحد الأعلى في برنامج تمويل المستشفيات الخاصة، إحداث 60 ألف وظيفة عسكرية في وزارة الداخلية، تعديل نظام النشر لحماية المفتي وهيئة كبار العلماء من الإساءة أو النقد، تخصيص نصف مليار ريال لترميم المساجد والجوامع في كل أنحاء المملكة، دعم هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بـ200 مليون ريال لاستكمال بناء فروع لها في كلّ أنحاء المملكة، تأسيس المجمع الفقهي السعودي، اعتماد 200 مليون ريال لعمل فروع لإدارة البحوث والإفتاء في كلّ مناطق المملكة، دعم جمعيات تحفيظ القرآن بـ200 مليون ريال، دعم مكاتب الدعوة والإرشاد بـ300 مليون ريال، إحداث 500 وظيفة لوزارة التجارة والصناعة لتعزيز جهودها الرقابية، بالإضافة إلى قرارات تخص المؤسسة العسكرية.

وهنا بدا لبعض المتابعين أنّ القيادة السياسية ارتكزت في مجموع قراراتها على معطيات عدّة، منها:
* أنّ مشروع الإصلاح السياسي لا يزال مؤجلاً، رغم المطالب الشعبية، في مقابل تحسين الخدمات وإغداق الأموال على المواطنين.
* تجاهل مطالب الإصلاح السياسي أكد تقدم فكر النخبة ـــــ الذي حظي بتأييد شرائح واسعة من المواطنين ـــــ على الفكر الرسمي، على عكس تصريح الأمير سعود الفيصل ـــــ غير الموفق ـــــ في صحيفة «لوس أنجليس تايمز»، في 2003، حين قال: «إنّ الحكومة تغلي من أجل الإصلاح، لكن الشعب هو الذي يعرقل ذلك».
* أنّ الحكومة لا تزال مصممة على احتكار زمام المبادرة. فتأسيس هيئة مكافحة الفساد عكس حرص الإرادة السياسية على ظاهرة الفساد، وهو توجّه محمود وإيجابي، إلا أنّه أكد تمسك الفكر الرسمي بفكرة بالية، وهي مراقبة الحكومة لنفسها. وما يدل على فشل هذا المبدأ أنّ تأسيس «هيئة مكافحة الفساد» يعني فشل جهاز حكومي آخر هو «ديوان المراقبة العامة»!
* الاعتراف بالمسائل المعيشية في المطالب الإصلاحية، دون غيرها، عزز ـــــ بقصد أو من دون قصد ـــــ الدور الرعائي والأبوي للدولة الذي تجاوزته المرحلة.
* بدا الإصرار على تجاهل الاستحقاق الوزاري ـــــ وهو أدنى مظاهر الإصلاح السياسي ـــــ تمسّكاً بالأشخاص. وهذا يعني أنّ شريحة الشباب لن يفتح لها المجال للمشاركة في الحكم وصنع القرار ومسيرة التنمية، وكذلك أنّ الشريحة الأقدر على نقل حراك المجتمع وتحولاته وتحدياته لا تزال مستبعدة (في المستقبل القريب على الأقل) في ظل حكومة، مبررات تغييرها أكثر من مبررات بقائها.
* بدا أنّ تحولات المجتمع السعودي لا تصل بدقّة إلى القيادة السياسية. فالحرص على دعم الأجهزة الدينية بمبالغ عالية جداً، وفرض حصانة إعلامية ـــــ ليس لها أي سابقة في كل التاريخ الإسلامي، ولا يمكن تبريرها ـــــ على المفتي وأعضاء هيئة كبار العلماء، يدل على إصرار الفكر الرسمي على وسم المجتمع السعودي بالمحافظة. في ذلك الوقت، تتآكل الوصاية الدينية داخل المجتمع، ولا تحظى بالقبول. وكأنّ الفكر الرسمي لا يعرف هذا التحوّل، أو لا يعترف به.
* بدا أنّ هذا الإغداق على الأجهزة الدينية منح المؤسسة الدينية والتيار الإسلاموي ـــــ لا جموع المواطنين ـــــ الدور الأبرز في إفشال ثورة حنين.
* بدا أنّ الفكر الرسمي لا يزال متشبثاً بالاعتماد على التحالف مع المؤسسة الدينية والتيار الإسلاموي، بدل الاعتماد على رضا السواد الأعظم (المتحقق) من المواطنين، وهو الركيزة الأهم لأيّ نظام سياسي، حين نتحدث عن الشرعية السياسية.
* بدا أنّ تخصيص كم كبير من الوظائف العسكرية لوزارة الداخلية يعني تعزيز التعاطي الأمني مع القضايا السياسية كجناح ثان للشرعية. كذلك فإنّ استحداث هذا الكم الهائل من الوظائف الحكومية يجافي المدارس الإدارية الحديثة التي اعتمِدت عالمياً بتقليص حجم الأجهزة الحكومية لحماية موارد الدولة المالية من الاستنزاف فيما لا طائل من ورائه.
* ظهر أنّ إصدار القرارات الأخيرة بعد فشل الثورة، بالتوازي مع دعم كبير وواضح للجهاز الأمني والأجهزة الدينية وفكرها، والتعامل الإعلامي الانفعالي مع الثورة في تصريحات العلماء، وبيان مجلس الشورى، قد توحي بسذاجة الشعب السعودي الذي يمكن أن يستجيب لدعوة متطرفة مجهولة المصدر، وهذا غير صحيح. ويوحي كذلك بضعف نظام لا يحظى بالتأييد والقبول، وهذا أيضاً غير صحيح.
كان واضحاً أنّ ثورة حنين ـــــ في ظل تحولات المجتمع التي اتضحت من خلال البيانات الإصلاحية ـــــ لن تنجح. فالحديث عن مطالب الثورة لناحية حماية المرأة من التغريب وتعزيز وصاية العلماء، ثم تأييد المنشق سعد الفقيه بخطابه السياسي الرديء المعتل بالنعرتين القبلية والسلفية، لن يتناغم مع مجتمع تكرست، أو بدأت تتكرس فيه الروح الليبرالية وقيم التنوير والوعي.

لكن ما جرى بعد ثورة حنين ثم قرارات 18 آذار/ مارس، أشار إلى ضباب ثقيل يعكّر الأفق مستهدفاً مشروع الملك الإصلاحي، مما أسبغ الريبة على الحاضر، وضرّج المستقبل بالمخاوف والتوجسات.

-المقالة الثانية -

الثورة المضادة في السعودية: مستقبل وزارة الداخلية [2/3]

أحمد عدنان
صحافي سعودي

المصدر: جريدة الأخبار اللبنانية، ٨ حزيران ٢٠١١


- المقالة الثالثة -

الثورة المضادّة في السعوديّة: عودة جهيمان إلى أرض الحرمين [3/3]

أحمد عدنان
صحافي سعودي

المصدر: جريدة الأخبار اللبنانية، ٩ حزيران ٢٠١١


- انتهى

وفق رواية ناصر الحزيمي في كتاب «قصة وفكر المحتلين للمسجد الحرام»، قام في 1966 كل من جهيمان العتيبي، سليمان بن شتيوي، ناصر الحربي وسعد التميمي، بزيارة الشيخ عبد العزيز بن باز ليبلغوه أنّهم قرروا تأسيس جماعة سلفية تنبذ التمذهب، وتدعو إلى التوحيد والتمسك بالكتاب والسنّة، كما قرروا أن يسمّوا مجموعتهم «الجماعة السلفية». عرضوا على الشيخ أن يكون مرشدهم، فوافق بن باز، وعدّل اسم المجموعة ليصبح «الجماعة السلفية المحتسبة». كان تأسيس تلك الجماعة ثمرة حدث وقع في 1965 في المدينة المنورة، حين قام بعض هؤلاء بمشاركة آخرين من «الإخوان» (ليس المقصود الإخوان المسلمين بل السلفيين) بالاعتداء على استديوهات التصوير، والمحال التجارية لتكسير الصور وتماثيل العرض.

عملت «الجماعة السلفية المحتسبة» في العلن، وحظيت بدعم رجال الدين وعلى رأسهم بن باز والشيخ أبو بكر الجزائري. مرّت الجماعة بأطوار متعددة، بدأت بانشقاق جهيمان العتيبي عن النظام الحاكم، وانشقاقه عن بن باز الذي وصفه جهيمان: «هذا الرجل أعمى البصر والبصيرة ومن مشايخ آل سعود»، لتنتهي قصة «الجماعة السلفية المحتسبة» بحادثة احتلال الحرم المكي على أيدي جهيمان ورفاقه في 1979.

أستحضر حكاية جهيمان وجماعته في سياق ما أثير في المملكة عن ثورة حنين التي فشلت في 11 مارس/ آذار المنصرم. فشلت قبل أن تبدأ، وسقطت قبل أن تقف. لم يكن هناك مؤشر واحد على نجاحها، ومع ذلك فسّر الفشل بوقفة المؤسسة الدينية والتيار الإسلاموي إلى جانب النظام. وبما أنّ هذه المؤسسة لا تنظر بارتياح إلى مشروع الملك عبد الله للإصلاح والتحديث، بالإضافة إلى معشر السلفيين وأغلب الإسلامويين، فإنّ هذا المشروع ـــــ الذي يعزز المشاركة الشعبية ويمكّن المرأة ويحارب الفساد والتطرف ويدعو إلى الحوار والانفتاح ـــــ حامت حوله مؤشرات سلبية تشير إلى تعطله أو تأجيله في إطار رد الجميل للإسلامويين على موقفهم ضد الثورة المزعومة. يبدو قطار الملك عبد الله للإصلاح متعثراً (وأرجو أن أكون مخطئاً) في الوقت الذي تحتاج فيه البلاد إلى حركته، ليصلها بالحاضر والمستقبل، مع أنّه يمثل الحد الأدنى من الرؤية الإصلاحية للسعوديين.
بإمكان أي باحث مراجعة بعض الفتاوى المنتشرة في موقع شبكة «نور الإسلام» الإلكترونية أو المواقع الإلكترونية الشخصية لعدد من المشايخ الذين يعرفهم المواطن السعودي جيداً يوسف الأحمد، محمد الهبدان، عبد الله الزقيل، سليمان الدويش، ناصر العمر وعبد الرحمن البراك، وغيرهم. لماذا قدّر للإسلام في المملكة أن يتحدث باسمه أكثر الناس جهلاً وأبعدهم عن سماحة الدين وقيمه العليا؟

فمن فتاوى البراك مثلاً تحريم إدخال الرياضة المدنية إلى مدارس البنات، لأنّها من أدوات التغريب وخطوة من خطوات الشيطان، تحريم عمل المرأة في وظيفة مسؤول صندوق، ووجوب مقاطعة الأسواق التي توظفهن، تحريم فتح دور السينما، وإجازة قتل مبيح الاختلاط بين الرجل والمرأة. البراك الذي يفترض، على رأي البعض، أن يساق إلى مستشفى الأمراض النفسية، يصفه السلفيون والإسلامويون مثل الناشط الإسلاموي إبراهيم السكران بأنّه «أهم رمز شرعي لدى الشباب المسلم المتديّن»! فتاوى يوسف الأحمد، رافع لواء «الاحتساب»، مثل آخر على انحطاط الفكر السلفي، ورداءة الخطاب الإسلاموي السائد في المملكة. فهو يحرّم الاكتتاب في عدد من الشركات المنخرطة في سوق الأسهم، إما بسبب انخراطها في مشروع الغريب أو تعاطيها مع البنوك. كذلك، يحرّم التقاط الصور التذكارية للمرأة مع المسؤولين ولقاءهم ومصافحتهم، وجواز تزويج القاصرات. وفي الوقت الذي يحرم فيه اليوسف الاحتفال بالمولد النبوي والتهنئة به، يقول عن الشيعة « فهو مذهب قائم على الكذب والخرافة والتقيّة ولعن الصحابة وتكفيرهم...». كذلك حرّم سفر الأطفال السعوديين إلى مدرسة نادي ريال مدريد لتدريب كرة القدم لأن في ذلك تسليماً لناشئة الإسلام إلى أهل الكفر!

تلك المجموعة السلفية في بحبوحة من الحركة والتمويل، فقد أتيح لها تأسيس شبكة من المواقع الإلكترونية المتطرفة، وتأسيس قناة تلفزيونية هي «الأسرة»، أغلقت لاحقاً، ثم فتح قناة على موقع يوتيوب. ذلك، على الرغم من أنّها تتحرّك في إطار فكري جوهره ومضمونه معاداة مشروع الملك عبد الله للإصلاح. فمثلاً، اتهم يوسف الأحمد خالد التويجري (رئيس الديوان الملكي) بأنّه سبب الفساد المالي والإداري في البلاد، وأنّه الرجل الذي يقود مشروع التغريب ويحجب الحقائق عن الملك، ويطالب بمحاكمته. وقد شاركه في الهجوم سليمان الدويش وعبد الله الزقيل (الذي وصف رئيس الديوان بـ«البرمكي») وناصر العمر، وسبقهم جميعاً محمد الهبدان في مقال «من يتخذ القرارات في بلادنا». كما هاجم ناصر العمر وزير التربية والتعليم الأمير فيصل بن عبد الله بن محمد واتهمه بمخالفة الكتاب والسنّة، ومخالفة الاتفاق بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والإمام محمد بن سعود (مؤسس الدولة السعودية الأولى)، ومخالفة بيعة الشعب للملك عبد الله، ومخالفة السياسة التعليمية. أما السبب فهو اجتماع الوزير ببعض الطالبات، وإتاحته ـــــ اختيارياً ـــــ التعليم المختلط في الصفوف الدنيا من المرحلة الابتدائية. وشارك يوسف الأحمد في الاتهام معتبراً أنّ الوزير يقود «مشروع إفساد الطالبات واختلاطهن بالرجال منذ تعيينه... ويدخل على الطالبات ويتصور معهن ويصافحهن، باسم النشاط أو الكشافة، ويدعو الطالبات الى الملاعب لحضور مسابقات الفروسية، وأخيراً عقد (ندوة) للحوار بين الطلاب والطالبات في مهرجان الجنادرية»، وشارك في هذه الحملة سليمان الدويش في مقال «هل أوشكت الساعة أن تقوم»، وغيره!
بالتوازي مع الهجوم على وزير التربية والتعليم، لم تسلم نائبته نورة الفايز من التشنيع. فبالإضافة إلى عدم الرضى عن تعيينها، تعرضت الفايز لأقسى هجوم من أكثر من شيخ، وصل إلى حد المطالبة بإقالتها، بسبب زيارتها لإحدى مدارس البنين (المرحلة الابتدائية). قال سليمان الدويش في مقاله «شكراً نورة الفايز»: «شكراً لها لأنّها أعادتنا إلى الوراء، وذكّرتنا بموقف المعارضين لتعليم المرأة النظامي، وجعلتنا نتأمل في سبب معارضتهم. لقد جعلتنا نعترف بفطنة الممانعين، وبعد نظرهم ...». وتعرّضت الفايز للهجوم أيضاً لتأييدها قبول البنين في مدارس البنات في الصفوف الدنيا من المرحلة الابتدائية. وقال يوسف الأحمد في صحيفة «سبق» الإلكترونية في 21 يونيو/ حزيران 2009: « ثبت علمياً أنّ تدريس المرأة للبنين يزيد هرمونات الأنوثة عند الطلاب، وأنّها من أهم أسباب وجود الجنس الثالث في الفيليبين»!

واتهم يوسف الأحمد أيضاً وزير العدل الدكتور محمد العيسى بأنّه خالف الشريعة حين طبق الأمر الملكي، وأكد اختصاص وزارة الثقافة والإعلام بالنظر في قضايا الإعلام والنشر، لا المحاكم الشرعية. كما كان وزير الإعلام السابق إياد مدني، هدفاً مستباحاً للهجوم. وأصدر محمد الهبدان بياناً (وقّع عليه العشرات) يصف فيه وزارة الثقافة والإعلام في عهد مدني «بتبنّيها وإصرارها على نشر ما حرّم الله من الفكر المنحرف... والسعي الى نشر الفساد والرذيلة وبث الشبهات بين أبنائنا وبناتنا، وحمل لواء الدعوة إلى تغريب المجتمع؛ كالدعوة إلى التبرج والسفور، والاختلاط المحرم، وقيادة المرأة للسيارة، وإنشاء النوادي النسائية، وفتح دور السينما، وعروض الأزياء، ومسابقات ملكات الجمال، وإبراز المرأة المتبرجة والمخالطة للرجال في العمل على أنّها مثال المرأة السعودية». لم يسلم وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبد العزيز خوجة هو الآخر من الهجوم. زاره يوسف الأحمد في وزارة الإعلام، وتحدث عن «دعم الوزارة لمشاريع تغريب المجتمع السعودي من خلال التلفاز والصحافة والإذاعة ومعرض الكتاب، وأنّ الوزارة لا تلتزم بالأحكام الشرعية ولا بالأنظمة الرسمية». وانتقد الأحمد زيارة خوجة لقنوات «إم بي سي» وروتانا، وكتابته في صحيفة «إيلاف» الإلكترونية، لأنّها أكثر الصحف عداءً للمنهج الشرعي في السعودية، وفق الأحمد.

واستمر يوسف الأحمد في فتاواه وانتقاداته، فرأى أنّ مشروع الملك عبد الله للابتعاث الخارجي للتعليم «مشروع علماني تغريبي»، فيما تحدث محمد الهبدان عن «خطورة تسويق وترويج الابتعاث». كما أعلن ناصر العمر أنّه وجّه خطاباً للملك يحذّر فيه من خطورة ابتعاث الطلبة السعوديين إلى الغرب. ولم يسلم مشروع الابتعاث من هجوم سليمان الدويش. وفي موضوع المواطنة، يتجلى موقف الشيوخ هؤلاء العنصري من الشيعة. ويستطيع القارئ الاطلاع على البحث المقزز لناصر العمر «واقع الرافضة في بلاد التوحيد»، في المواقع الإلكترونية. من جانبه، أراح عبد الرحمن البراك نفسه وأفتى بتكفير الشيعة، فيما كان الدويش أكثرهم لطفاً حين قال: «أكره الشيعة وأستخدمهم»!

تكشف التصريحات والمواقف السابقة حقيقة لا لبس فيها: ثمة وعاظ ودعاة متطرفون، يناهضون الملك عبر التهجم على رجاله ومشاريعه. وقد أبلغ أولئك من قبل وزير التربية والتعليم ووزير الثقافة والإعلام بأنّهم ينفذون مشروع الملك ولم يرتدعوا. هؤلاء يتحدثون عن مشروع «التغريب والعلمنة»، ومن خلال مواقفهم نفهم أنّ «التغريب» هو مشروع الملك التنويري، وأنّ رجال التغريب هم رجالات الملك الذين يبتغون التطوير والإصلاح، لأنّ هجومهم لم يخرج عن هذه الدائرة إلا نادراً. تشير هذه التصريحات والمواقف، بوصفها قرائن، إلى وقوف هؤلاء الدعاة خلف ثورة حنين، ولو على نحو غير مباشر، عبر التأليب على الملك. وأذكّر بدراسة الباحث إبراهيم السكران «تطوّرات المشروع التغريبي في السعودية»، لتكشف الثورة الجدية المضادة على مشروع الملك للإصلاح.

ترفع وزارة الداخلية شعار «الأمن الفكري»، في مواجهة فكر التطرف والإرهاب. مصطلح ضبابي يوحي ـــــ ولو عن غير قصد ـــــ بالأحادية وعسكرة الفكر. ومع ذلك، أتساءل تحت مظلة «الأمن الفكري»عن السماح للأحمد والعمر والدويش، ورفاقهم، باستباحة البلاد، صوتاً وصورة وكتابة، والتحرك داخل الأراضي السعودية، على رؤوس الأشهاد، لبث الأفكار المتطرفة. أتساءل أيضاً عن الصمت الرسمي إزاء إعلان الأحمد في مايو/ أيار 2010، تأسيس جماعات احتسابية (ميليشيا) في كل أنحاء المملكة، تتبع له شخصياً، وتصل وقاحة المحتسبة في مارس/ آذار 2011 إلى التعدي على أعراض الناس، وضيوف المملكة، في معرض الرياض الدولي للكتاب. إذا كان لبرنامج «الأمن الفكري» من جدوى، فليبدأ بهؤلاء، وينصح البعض البرنامج بالاستعانة بخيرة الأطباء النفسيين، لمعالجة هؤلاء المتطرفين من أمراض جنون الارتياب ورهاب الغرب والهوس الجنسي، وليس أدل على ذلك فتوى يوسف الأحمد بإعادة بناء المسجد الحرام لمنع الاختلاط!

يقتضي الأمن الفكري أيضاً التنبه للمواقف التي تشرّع استخدام العنف ضد المواطن والدولة، كالحديث بأنّ من أسباب الإرهاب استفزاز الصحافة الليبرالية للشباب المسلم. لقد أصبح هذا الفكر المتطرف والسكوت عليه هو المستفز للمجتمع والمسيء للإسلام والمحرج للنظام والمثبط لمشروع الدولة، ومن المحزن استخدام الأمير خالد بن طلال، بسبب ظروفه الخاصة، كأداة في مشروع التطرف، كما يلاحظ المتابعون من خلال موقعه الإلكتروني (لجينيات).

حين أعلن النظام تنظيم هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في 1962، جاء في بيان حكومة رئيس الوزراء الأمير فيصل بن عبد العزيز: «إصلاح وضع هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما يضمن اجتثاث بواعث المنكر من قلوب الناس ما استطعنا لذلك سبيلاً». يشير النص إلى احتكار المنكر في قلوب الناس، واحتكار الفضيلة للهيئة ورجال الدولة. وبالتالي، منحت «الهيئة» سلطة التفتيش على القلوب والنوايا. يدور الزمان، ويتفاقم الاستياء من جهاز الهيئة، فيقوم النظام بتهذيب سطوته، لتظهر فئة أكثر تطرفاً تدّعي السلطة على عقول الناس وقلوبهم، بذريعة «الاحتساب». لن نتمكن من مواجهة هؤلاء المتطرفين إلا بإلغاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتأسيس برلمان منتخب، وصحافة حرة، وقضاء مستقل، لتقوم هذه الأجهزة بتحقيق الإصلاح ومواجهة الفساد والتطرف.

إنّ ظاهرة «المحتسبين»، وما رافقها من حراك، جديرة بالتوقف ملياً. فاستباحة أعراض الناس وكراماتهم، في معرض الرياض للكتاب، تذكّر بـ«الجماعة السلفية المحتسبة»، ويفترض أن يقف النظام ضد هذه الظاهرة كي لا تتكرر حادثة جهيمان التي جاءت امتداداً لـ«الجماعة السلفية المحتسبة». ظاهرة «الاحتساب» هي مقدمة لصنع جهيمان جديد، وأخشى أن يكون تستر المتطرفين خلف عباءة الدين عائقاً أمام الحزم والحسم. وهنا أذكّر بتصريح الملك فهد بن عبد العزيز لصحيفة «السفير» في 10 يناير/ كانون الثاني 1980 عن جهيمان ورفاقه: «إنّ هذا الحدث نعيشه منذ 6 أو 7 سنوات ونعرفه بالضبط، هناك مجموعة تحاول جعل العقيدة الإسلامية أو التحدث باسم العقيدة الأساس في التوجه الذي تسير عليه، ويأتي أفرادها إلى المسجد وإلى الناس البسطاء ويحاولون إفهامهم بطريقة أو بأخرى أنّ العقيدة بدأت تضعف في المملكة وأنّه لا بد للقاعدة الإسلامية من أن تنتبه، وقد اتخذنا إجراءات ضدهم في السابق، لكن البعض تدخّل للإفراج عنهم عن حسن نية اعتقاداً بأنّهم ربما يكونون مفيدين في الدعوة».

لا تعايش بين منطق «الدولة» ومنطق «التطرف». لن يتمكن النظام من تلبية مطالب المحتسبين، لأنّ النتيجة هي التحوّل إلى «طالبان»، ولن يتمكن المتطرفون من السكوت، وسيلجأون من الإنكار بالقول إلى الإنكار بالفعل. وإذا استجاب النظام لبعض مطالب المتطرفين، فهذا يعني منحهم مشروعية اجتماعية للتوسع والاستقطاب، وأي اعتقاد بأنّه يمكن عقد علاقة آمنة بين النظام والإسلام السياسي المتطرف سيبوء بالفشل. لقد فشلت تجربة المملكة مع أسامة بن لادن بعد الجهاد الأفغاني، كما فشل كل من أنور السادات في مصر وجعفر النميري في السودان مع التيارات الإسلاموية.

ثمة خطوات حدثت بعد 11 مارس/ آذار ستعزز فكر التطرف، منها إقالة أحمد قاسم الغامدي من رئاسة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكة بسبب موقفه المؤيد للاختلاط. كان قرار الإقالة مريباً، فقد أقيل الغامدي قبل ذلك، وتدخل الديوان الملكي وألغى القرار، لكنّه هذه المرة بقي وحيداً. بالإضافة إلى ذلك، هناك اعتقال الناشطة منال الشريف وإحالة ملف حملة «سأقود سيارتي بنفسي» التي تشجع المرأة على قيادة السيارة إلى القضاء. هذه الإجراءات لم تردع المتطرفين، فزارت مجموعة من الدعاة المتطرفين ـــــ منهم ناصر العمر ومحمد الهبدان ويوسف الأحمد ـــــ في مايو/ أيار 2011، الديوان الملكي وسلمت خطاباً يتضمن مطلبين: إقالة وزير التربية والتعليم، وفصل تعليم البنات عن وزارة التربية وإعادته إلى المشايخ، وكأنّ المطلوب في النهاية دولة «ولاية الفقيه السني».

وفي السياق نفسه، أعلن الملك تعديل نظام النشر في 18 مارس/ آذار 2011، بحيث يمنح المفتي وأعضاء هيئة كبار العلماء حصانة إعلامية من التجريح الشخصي. لم تتلق الأوساط الفكرية والصحافية التعديلات بارتياح، لأنّه لم يتم أي تجريح شخصي للمفتي أو أعضاء هيئة كبار العلماء في الصحافة، لكن مناقشة الآراء المتطرفة التي صدرت من بعض الوعاظ أو العلماء ونقدها. وحين انتقدت الصحافة الوعاظ والعلماء، فعلت ذلك إما اصطفافاً مع النظام عليهم، أو امتعاضاً من تطرفهم الفاضح، وتنفيساً لتذمر المجتمع المحتقن من الوصاية الدينية والإسلاموية. وصاية تريد العودة إلى زمن كانت تهان فيه الصحافة بسبب نقد أو مناقشة خطاب ديني لا يرتبط بالعصر أو بالإسلام.

لن يتمكن النظام من مواجهة فكر التطرف، إلا إذا سار في الاتجاه المضاد، أي المضي بلا تردد باتجاه دولة المؤسسات وسيادة القانون وتكافؤ الفرص، وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان، واحترام حقوق الفرد، وتمكين المرأة، والحوار والانفتاح مع الآخر في الداخل والخارج، والتصدي للتمييز بكل أشكاله، ومحاربة الفساد المالي والإداري.

أخشى أن نكون في مرحلة شبيهة بتلك التي يواجهها الغوّاص في أعماق البحار والمحيطات حين يفقد اتجاهه ويهبط إلى القاع وقت يظن أنّه يصعد إلى السطح!

يرتكز مشروع الملك عبد الله على دعائم واضحة بدأت تتضح في آخر عهد سلفه الملك فهد. ويمكن تلخيص هذا المشروع في الآتي: تمكين المرأة، الحوار والتنوع والانفتاح، تجديد الخطاب الديني، المشاركة الشعبية في صنع القرار السياسي، تحقيق المواطنة، محاربة الفساد وتحسين أداء الأجهزة الحكومية للوصول إلى دولة الرفاه.
اهتمام الملك بقضايا المرأة بدأ مبكراً منذ كان في ولاية العهد، والدليل على ذلك تصريحه الشهير في المنطقة الشرقية في 1999 عن حقوق المرأة. أثار ذلك التصريح استياء المشايخ، مما استدعى تصريحاً لمسؤول بارز، قال فيه: «تصريح ولي العهد عن حقوق المرأة لا يتناقض مع الشريعة الإسلامية». ولاحقاً، بدأت المرأة السعودية تظهر في الوسط الاقتصادي والحكومي بنحو لافت، في قرارات ـــــ تسجل للملك ـــــ هي الأولى من نوعها في المملكة. فدخلت المرأة في مجالس إدارة الغرف التجارية، وعيّنت نورة الفايز نائبة لوزير التربية والتعليم، والدكتورة هيا العواد وكيلة لوزارة التربية والتعليم، والدكتورة أروى الأعمى مساعدة لأمين مدينة جدة السابق عادل فقيه. كذلك زاد عدد المستشارات غير المتفرغات في مجلس الشورى، وتأسست جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن (للبنات)، وعُيّنت الدكتورة هدى العميل مديرة لها، ومنحت الدكتورة خولة الكريع وسام الملك عبدالعزيز. وكُسر تابو الاختلاط عبر جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، حين أقال الملك الدكتور سعد الشثري من هيئة كبار العلماء، يوم جاهر بمعارضة الاختلاط وطالب بفرض وصاية دينية على الجامعة. وساهم الملك في كسر تابو النقاب بظهور ابنته الأميرة عادلة بنت عبد الرحمن للعلن ـــــ وهي صاحبة نشاطات وتصريحات تنويرية خصوصاً في مجال حقوق المرأة ـــــ واستقبال الملك المتكرر للوفود النسائية، وغير ذلك من القرارات والتلميحات.

الحوار والتنوّع والانفتاح واضحة في مشروع الملك عبد الله، ومنها دعوته إلى الحوار الوطني حين كان ولياً للعهد (رغم الملاحظات التي ارتآها مراقبون حول عدم تطور التجربة وعدم تطبيق توصياتها)، ثم دعوته إلى حوار الأديان حين أصبح ملكاً، وقراره بأن تضم هيئة كبار العلماء كلّ المذاهب السنية، إضافة إلى مشروع الابتعاث إلى الخارج لتطوير الشباب السعودي. وفي تلك الخطوات، تجديد للخطاب الديني عبر حثه على الحوار وقبول الآخر، إضافة إلى الحرب على الإرهاب التي استدعت شحذ همم المثقفين والعلماء المعتدلين لمحاربة الانغلاق والكراهية، داخل الخطاب السعودي الديني التقليدي. وكان دعم الملك عاملاً إيجابياً في توسيع هامش الحرية في الصحافة والإعلام، وهو حاميه وضمانته.

كذلك يتضح في مشروع الملك موضوع المشاركة الشعبية في صنع القرار السياسي وتحقيق المواطنة. نستطيع أن نرى ذلك حين نعرف أنّ الملك هو الجندي المجهول خلف تفعيل الانتخابات البلدية في عهد سلفه الملك فهد. وهو، في لفتة معنوية، استقبل مراراً وفوداً شيعية، وهو حريص على التواصل معهم.

كذلك احتلت محاربة الفساد وتحسين أداء الأجهزة الحكومية للوصول إلى دولة الرفاه، مساحة واضحة في تصريحات الملك حين ينتقد تعثر بعض المشاريع الحكومية وتقصير بعض الوزارات، ثم حربه على الفساد بعد كارثة السيول في جدة، وتصريحه بأنّه سيصار إلى التحقيق ومحاسبة «كائناً من كان». وفي هذا السياق، يأتي اهتمام الملك بملف إصلاح القضاء، إذ خصص مبلغ 7 مليارات ريال لتطوير مرفق القضاء، ومن ثمرات ذلك الشروع في اعتماد تنظيم قضائي جديد منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2007.

بعد فشل ثورة حنين المزعومة في 11 مارس/ آذار 2011، تكشفت بعض الإرهاصات الرمزية التي تجعلني أخشى على مشروع الملك عبد الله للإصلاح. ففي أبريل/ نيسان 2011، أصدرت وزارة الداخلية قراراً بمنع السيدات من العمل في وظيفة مسؤول صندوق (كاشيير) ـــــ وقد تسربت وثيقة القرار عبر الإنترنت. القرار صدر نتيجة دراسة أجرتها لجنة في وزارة الداخلية، وهي «اللجنة الاستشارية المعنية بدراسة ما يشتبه أنّ فيه إساءة للدين الإسلامي الحنيف والقيم والعادات الاجتماعية». من جانبها، نفت وزارة العمل ـــــ رائدة المشروع ـــــ وقف عمل السيدات في تلك الوظيفة، ونتيجة هذا الالتباس فصلت بعض الشركات السيدات والفتيات اللاتي جرى تعيينهن مسبقاً (قرار وزارة الداخلية مناهض لروح تعميم مجلس الوزراء في مايو/ أيار 2004 الذي دعم توظيف المرأة في كل المجالات).

كذلك، اعتقلت وزارة الداخلية الناشطة منال الشريف، في مايو/ أيار 2011، بعد قيادتها السيارة بالمنطقة الشرقية. اتهمت منال بالإخلال بالنظام، وتأليب الرأي العام. (لا أدري كيف أخلّت منال الشريف بالنظام، في ظل عدم وجود أي مادة نظامية تمنع المرأة من قيادة السيارة. إنّ قراري وزارة الداخلية السابقين غير نظاميين بسبب توقيع المملكة على اتفاقية سيداو المناهضة للتمييز ضد المرأة).
كذلك مُنعت المرأة من المشاركة في الانتخابات البلدية، بعد وعد من وزارة الشؤون البلدية قبل 6 سنوات بأنّها ستشارك في الدورة الحالية. (هذا القرار بما فيه من رمزية موجهة ضد المرأة ـــــ كما في القرارات السابقة ـــــ تسبب أيضاً في إضعاف صدقية وعود الحكومة).

بالإضافة إلى ذلك، فإنّ إجراء الانتخابات البلدية من دون أي تعديلات جوهرية تطال نظامها الأساسي ـــــ بعد تعطيل دام سنتين بحجة دراسة التجربة ـــــ يشير إلى تباطؤ النظام في توسيع المشاركة الشعبية. فلا تزال المجالس بلا صلاحيات رقابية أو تشريعية، ورغم حصر صلاحيات المجالس في البعد الاستشاري، يصمم النظام على تعيين نصف أعضائها.

كذلك، صدرت تعديلات نظام النشر في 30 أبريل/ نيسان 2011، ونصّت على العديد من المواد الغامضة التي يمكن أن تستخدم ـــــ في حال توافر سوء النية ـــــ ضد حرية التعبير والنشر. من تلك المواد منع أي وسيلة صحافية أو إعلامية نشر «ما يخالف أحكام الشريعة الإسلامية أو الأنظمة النافذة، ما يخدم مصالح أجنبية تتعارض مع المصلحة الوطنية، ما يضر بالشأن العام في البلاد، التعرض أو المساس بالسمعة أو الكرامة أو التجريح أو الإساءة الشخصية إلى مفتي عام المملكة أو أعضاء هيئة كبار العلماء أو رجال الدولة أو أي من موظفيها أو أي شخص من ذوي الصفة الطبيعية أو الاعتبارية الخاصة».

ولجأ المعنيون إلى التعاطي السلبي مع احتجاجات المناطق الشيعية شرق البلاد، بل حاولوا إلصاق ثورة حنين بالطائفة الشيعية، في حين أنّ احتجات المواطنين في المنطقة الشرقية مشروعة، ومن أجل قضية عادلة (اعتقال بعض المواطنين منذ 16 سنة من دون محاكمة!). هذا إذا ما تجاهلنا أنّ أعمال التظاهر والاحتجاج مشروعة في ظل الالتزام بمبدأ السلمية والطرق الحضارية (الحديث عن منع التظاهر أو تحريمه وتجريمه، لا أساس له بعد توقيع المملكة على الشرعة العالمية لحقوق الإنسان).بالإضافة إلى ذلك، كان هناك السكوت، أو عدم التصدي للنبرة الطائفية العنصرية التي بدت من بعض الوعاظ والعلماء المتطرفين في المملكة ضد الطائفة الشيعية، مما أدى إلى احتقان واضح تتجلى مظاهره في شبكات التواصل الاجتماعي والمنتديات الإلكترونية. ووصل الأمر إلى أن نشر أحد التجار إعلاناً مدفوعاً في إحدى الصحف يؤكد أنّه ينتمي «إلى أهل السنة والجماعة»، وليس إلى أي طائفة أخرى!

وكان التعاطي السلبي مع الاعتصام الذي حصل أكثر من مرة أمام مقر وزارة الداخلية في الرياض. سبب تلك الاعتصامات أنّ عدداً كبيراً من المعتقلين في قضايا الإرهاب، منذ فترة طويلة تناهز السبع سنوات، لم يحاكموا. وهناك حديث من بعض الأهالي عن أنّ تلك الاعتقالات غلب عليها التعسف والمبالغة.
كذلك، حصلت موجة اعتقالات طاولت بعض الناشطين والمحتجين على هامش احتجاجات المنطقة الشرقية واعتصام أهالي المتهمين في قضايا الإرهاب.

في الوقت نفسه، أظهرت السياسة الخارجية المملكة في موقف المناوئ للربيع العربي الذي بدأ بثورة تونس ثم ثورة مصر، وتمدد إلى ليبيا واليمن والبحرين والجزائر والمغرب وعمان والأردن وسوريا. ويجعل ذلك البلاد تبدو ـــــ سواء صحّ ذلك أو لم يصح ـــــ في موقف معاد لحقوق الإنسان والديموقراطية. ومن مظاهر ذلك، استضافة المملكة للرئيس التونسي زين العابدين بن علي ـــــ الذي طرده شعبه ـــــ وحمايته من ملاحقة الإنتربول، إظهار الدعم للرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك في خضم الثورة في مصر، ثم ما روي في الصحافة المصرية عن تدخل سعودي لمنع محاكمته وعرض استضافته في المملكة، وعدم إدانة مجلس الوزراء السعودي لجرائم معمر القذافي في ليبيا، على الرغم من الدور الكبير الذي أدته المملكة في فرض الحظر الجوي على نظام القذافي، وإظهار التضامن ـــــ ولو شكلياً ـــــ مع نظام البعث في دمشق والرئيس السوري بشار الأسد وعدم إدانة المجازر التي ترتكب بحق السوريين الأحرار. يستثنى هنا التعاطي السعودي والخليجي الممتاز مع ملف الثورة اليمنية، على الرغم من عدم إدانة مجلس الوزراء ـــــ علناً ـــــ مجازر الرئيس علي عبد الله صالح ضد الثوار في اليمن.

وفي ما يخص السياسية الخارجية كذلك، وقفت المملكة خلف الموافقة على انضمام الأردن، ودعوة مملكة المغرب، إلى مجلس التعاون الخليجي، ليظهر المجلس في خانة «نادي الملوك»، بعدما كان «نادي النفط». هذا، في ظل البطء الشديد الذي يعانيه الملف اليمني ـــــ الأكثر أهمية ومنطقية على كل الصعد ـــــ للقبول في أروقة المجلس.

جزء كبير من الإشكالات السابقة ـــــ بعد ثورة حنين) وحولها ـــــ سببه وزارة الداخلية. القائمون على الوزارة قيادات لها احترامها ومكانتها في الشارع السعودي بسبب قيمتها السياسية والشخصية. وإنّني أثق بأنّ شخصيات في وزن الأمير نايف بن عبد العزيز (وزير الداخلية) والأمير أحمد بن عبد العزيز (نائب الوزير) والأمير محمد بن نايف (مساعد الوزير) يتفهمون الرأي الآخر ويحترمونه، من باب إحسان الظن وريادة المصلحة العامة.

وزارة الداخلية، وإن كانت وزارة سيادية، هي في الوقت نفسه وزارة خدمية، مهمتها الأولى والأساسية تقديم خدمة الأمن للمواطنين والمقيمين. لذلك، يجب ألّا تستثنى وزارة الداخلية من النقد، لأنّ ذلك يساعدها ويدعمها في أداء مهمتها المطلوبة. وهذا النقد ليس بالضرورة انشقاقاً أو قلّة احترام للقائمين على الوزارة، خصوصاً أنّني أكنّ للنظام الأساسي للحكم (دستور البلاد) كلّ ولاء وتقدير.

تبدو وزارة الداخلية منحازة للتيار المحافظ أو الإسلاموي في المملكة، على حساب التيارات الأخرى، وهذه مشكلة لها ما يفسرها. يرتبط جهاز وزارة الداخلية في شخصيته بتكوين «شخصية الشرطي». مهمة الشرطي تطبيق الأوامر لحفظ الأمن، وهذا يقتضي الحرص والحذر والتخوف لحماية الاستقرار العام. يرتبط التغيير في ذهن الشرطي بالاضطراب، لذلك يتوجس عند المستجدات والتطورات، ويفضل بقاء الوضع القائم على ما هو عليه. من أجل ذلك، يبدو انحياز وزارة الداخلية للمحافظة واضحاً، مثلاً: قرار الوزارة في أغسطس/ آب 2009 بمنع العروض السينمائية في كلّ أنحاء البلاد، وتصريح وزير الداخلية تعليقاً على خطاب الملك في مجلس الشورى (2009): «تعيين المرأة عضواً في مجلس الشورى لا لزوم له».

لا تقوّم شخصية الشرطي الأمور بغير منظار الأمن، وإذا بقيت العقلية الأمنية، بدون حسيب ولا رقيب، فإنّها تطغى لتحيط قبضتها بكل نشاطات المجتمع، ومن هنا جاء وجود «اللجنة الاستشارية المعنية بدراسة ما يشتبه أنّ فيه إساءة للدين الإسلامي الحنيف والقيم والعادات الاجتماعية» بالوزارة. قد يُفهَم وجود هذه اللجنة في وزارة الثقافة والإعلام، أو مجلس الشورى، أو وزارة الشؤون الإسلامية، أو وزارة الشؤون الاجتماعية، لكن وجودها في وزارة الداخلية غير مبرر، مثل حاجة المواطن السعودي ـــــ أو المواطنة ـــــ إلى أخذ إذن الوزارة في حال الزواج من جنسية أخرى!

ما يفسر انحياز الوزارة الظاهر للتيار المحافظ هو أنّ شخصية الشرطي في الوزارة تأبى التغيير لحفظ الأمن، وشخصية الواعظ داخل التيار المحافظ تأبى التغيير خوفاً من البدعة وفقدان وصايتها (سلطتها) على المجتمع، حين تتقدم قيمة الحرية على قيمة الأمن، وحين تتقدم قيم التغيير على قيم المحافظة. يستمد التيار المحافظ سطوته من وزارة الداخلية، لأنّ شخصية الشرطي حين تأبى التغيير من منظور الأمن، تعتقد أنّها تلبّي رغبة أغلبية المجتمع التي تظنها محافظة (وهنا يتذكر السعوديون إغلاق وزارة الداخلية بعض المنتديات الإلكترونية الليبرالية أو التنويرية، رغم معاداتها لفكر التطرف مثل منتديات «طوى»).

في 26 مايو/ أيار 2011، صرّح الأمير أحمد بن عبد العزيز (نائب وزير الداخلية)، على هامش جائزة الأمير نايف للسنّة النبوية: «ليست مهمة الوزارة أن تقول هذا التصرف صح أو خطأ، مهمة الوزارة هي تطبيق الأنظمة، ونحن ملتزمون بتعميم صدر عام 1990 بمنع قيادة المرأة للسيارة». شخصية الشرطي ـــــ كما ذكرنا ـــــ تطبق الأوامر لحفظ الأمن، لكنّها في الوقت نفسه مستعدة لانتهاك الأنظمة في سبيل تحقيق الهدف السامي وهو الأمن، لأنّه من وجهة نظرها مقدّم على الحقوق.

التزمت وزارة الداخلية بالتعميم الرسمي الصادر في 1990 القاضي بمنع المرأة من قيادة السيارة، واعتقلت منال الشريف بعد قيادتها للسيارة في الخبر، بتهمة الإخلال بالنظام وتأليب الرأي العام. لكنّ الوزارة، في المقابل، وفي سبيل الحفاظ على الأمن، تنتهك «نظام الإجراءات الجزائية» كأنّه غير قائم، حين تتعاطى مع قضايا الناشطين السياسيين (قضية علي الدميني ود. عبد الله الحامد ود. متروك الفالح والمعتقلين الاثنى عشر من مارس/ آذار 2004 إلى أغسطس/ آب 2005) أو قضايا الإرهاب (ومنهم الناشطون المعتقلون في «قضية جدّة» منذ نحو خمس سنوات بتهمة تمويل الإرهاب الذين بدأت محاكمتهم أخيراً في ظروف صعبة)، وقضية «السجناء المنسيين» التي تظاهر من أجلها الشيعة في المنطقة الشرقية، وهي كلّها دليل ناصع على هذا الانتهاك. شخصية الشرطي المحصنة بالسلاح ممثلاً للدولة في حق الإكراه، حين يغيب الرقيب على أدائها، يسيطر عليها هاجس الأمن الذي يدفعها إلى الاعتقاد بأنّها الأكثر تأهيلاً لتحقيق العدل على حساب دور القضاء والأنظمة القانونية القائمة. فشخصية الشرطي تعتقد أنّ ثمة مساحات رمادية في القانون من الممكن أن ينفذ منها المتهم إلى حرية، بدلاً من العقاب الذي يستحقه من وجهة نظرها. وهذا ربما يفسر تبعية رئيس هيئة التحقيق والادعاء العام (ما يوازي «المدعي العام» في الدول الأخرى) وظيفياً إلى وزير الداخلية، وهذه حالة ليس لها مثيل في كل دول العالم.

كانت العلاقة بين المثقف (في دوره السياسي) ووزارة الداخلية قبل الربيع العربي مشوبة بالتوتر والصدام، ولا استثناء في السعودية. ظاهرة قرارات «منع السفر»، إضافة إلى الاعتقالات التعسفية، التي تمارسها وزارة الداخلية على المثقفين المستقلين أصبحت مشوبة بالامتعاض. كتب تركي الدخيل في 1 أغسطس/ آب 2009 في صحيفة الوطن: «خلال الأسابيع القليلة الماضية تبادلت مواقع الإنترنت أنباءً متفرقة عن رفع منع السفر عن مجموعة من الناشطين الذين تحفظت وزارة الداخلية على بعض أنشطتهم. قد يقول البعض إنّ المنع كان يستند إلى احترازات أمنية، مع أني أستبعد ذلك، لأنّ الممنوعين من السفر كانوا يتمتعون بحرية الحركة داخل البلاد». ويضيف الدخيل: «حرية التنقل هي أحد الحقوق الإنسانية الرئيسة التي نعتقدها جميعاً. إنّ التعاطي مع المنع من السفر بوصفه عقوبة أو أشبه ما يكون بالعقوبة، هو خطأ في حق الوطن. منع المواطن من السفر من وطنه، شبه إقرار بأنّ هذا الوطن سجن كبير، ومن أشكال العقوبة أن نجعلك بين قضبان حدوده! لا أحد يرجو لوطنه أن يكون كذلك، ولو في أحاسيس بعض الممنوعين من السفر، وبخاصة إذا لم تكن ضدهم أحكام قضائية، أو تهم جنائية». الأمل هو أن يلتفت المقام السامي، بجدية وتجرّد، إلى ملف المنع من السفر والاعتقالات السياسية، ثم إغلاقه إلى الأبد، ليطوي ظلماً استفحل مداه.

لقد كان خطاب الملك عبد الله بن عبد العزيز، حين تولى الحكم، واضحاً وحاسماً: «سأضرب بسيف العدل هامة الظلم والجور». كلام الملك لم يبق أسير الورق، وبدأ يتجه إلى الفعل مع اهتمامه اللا محدود بمرفق القضاء وتطويره. لكن لن تصل كلمات الملك إلى مبتغاها إلا حين تعالج إشكالات عدّة. من تلك الإشكالات حسر مساحة الخوف لصالح مساحة الثقة في علاقة المثقف المستقل والناشط، والمواطن السعودي عموماً، بوزارة الداخلية، عبر الاحتكام إلى قيم الحق والعدل والمواطنة، وهذا يتأتى بالتزام الوزارة بحقوق الإنسان والأنظمة القائمة، خصوصاً نظام «الإجراءات الجزائية». كذلك، يجب حماية وزارة الداخلية من «شخصية الشرطي»، عبر حصر دورها في حفظ الأمن والتصدي لمنتهكي القانون، وفك ارتباط أمراء المناطق بها عبر إنشاء وزارة للحكم المحلي، وتمكين جهاز هيئة التحقيق والادعاء العام من الاستقلالية الواجبة. كذلك المطلوب حماية الحياة السياسية في البلاد من «شخصية الشرطي»، عبر سحب الملفات السياسية المنوطة بوزارة الداخلية إلى جهات سياسية أخرى ذات صلة، كالديوان الملكي ومجلس الشورى، واعتماد القضاء المستقل الذي يحتكم إلى قوانين واضحة مرجعاً في حال نشوب الخلاف. ومن جهة أخرى، العمل مستقبلاً على فك الارتباط بين منصب وزارة الداخلية وأي منصب سياسي آخر. من الضروري ايضاً، فك الارتباط بين ملف الأقليات وبين وزارة الداخلية لتحقيق قيم «المواطنة» و«العدالة»، خصوصاً أنّ النظرة للأقليات بما هي بؤر قد تشكل خطراً أمنياً يعني شرخاً قاسياً في مشروع الإصلاح يضر بالنظام حين يظهر في موقع التفرقة (ما قد يؤثر على ولاء المواطنين له) ويضر بالأقليات حين يحرمها من بعض الحقوق.

كذلك، ليس عدلاً أن يفني المثقف المستقل عمره خائفاً من جهاز يريد «عسكرة» المجتمع (وزارة الداخلية)، تحسباً من منع من السفر أو اعتقال تعسفي، وأن يصارع كذلك تياراً يريد أدلجة الإنسان (التيار الإسلاموي). يكفي أن تقف وزارة الداخلية في موقع الحياد لا الخصم أو الطرف. ويجب أيضاً النظر في ملف القضاء بجدية، فلا تكون الخصومة السياسية مع النظام أو ممارسة حرية التعبير حاجزاً يمنع سيف العدل عن هامة الجور والظلم.

بقيت الإشارة إلى عيب أساس في «شخصية الشرطي»: إنّ اعتقال منال الشريف لقيادتها للسيارة في دولة هي الوحيدة في كوكب الأرض التي تحول بين المرأة وحقها في حرية التنقل، دليل على النظرة القاصرة والسطحية التي وضعتنا في موقف حرج أمام العالم. كيف تخالف منال الشريف الأنظمة فيما تعلو اتفاقية «سيداو» على الأنظمة المحلية؟ كيف تؤلب منال الشريف الرأي العام وهي تطالب بحق مستحق؟ ما فعلته «شخصية الشرطي» مع منال الشريف، هو تكرار لممارسات حصلت مع الناشطين المطالبين بالإصلاح، والأهم من ذلك، تعاطي «شخصية الشرطي» مع ثورة حنين المزعومة.

الثورة المضادة في السعودية: ماذا بعد «11 مارس»؟ [1/3]

أحمد عدنان
صحافي سعودي

المصدر: جريدة الأخبار اللبنانية، ٧ حزيران ٢٠١١

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


Locations of Site Visitors
Powered By Blogger