الجمعة، 28 نوفمبر 2014



الجمعة، ٢٨ نوفمبر/ تشرين الثاني ٢٠١٤ (٠٠:٠ - بتوقيت غرينتش)
يصعب فهم انجذاب الشباب العربي والمسلم لـ «الدولة الإسلامية». ما الذي يدفع شاباً مصريّاً مثل إسلام يكن، وهو تلميذ سابق في الليسيه الفرنسية ومغنّي راب، لأن يهجر حياته في القاهرة ليطلّ بعد فترة على شريط يوتيوب شاهراً سيفه في العراق؟ ولماذا ينضمّ شباب أوروبيون من أصول عربية أو مسلمة، وحتى فتيات في الثالثة عشرة، إلى «الدولة الإسلامية»، مخلفين عائلات مفجوعة ومجتمعات حائرة؟
يفترض كثيرون أن الدين أو وسائل الاتصال الاجتماعي هما الدافع الأساسي للعدد المتزايد ممن يقلبون حياتهم رأساً على عقب للانضمام إلى الجهاديين في العراق وسورية. لكن الأسباب كثيرة وإن توحّدت الروايات.
خمسة توجّهات بارزة، لا تشمل الفقه أو التكنولوجيا أو حتى الانتماء العشائري، قد توضح سرّ الانجذاب.
فـ «الدولة» وغيرها من التنظيمات الشبيهة وليدة عقود من الخيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للحكومات العربية المختلفة. وقد فاقمت هذه السياسات الخلل الأساسي في التعاقد الاجتماعي العربي القائم على مقايضة حقوق المواطنين السياسية والمدنية برفاههم الاجتماعي.
ومنذ الثمانينات، طبّقت الحكومات العربية سلسلة سياسات سياسية اجتماعية قصيرة النظر، استهدفت الأنظمة التعليمية والتربوية وسياسات الهوية والرعاية الاجتماعية وحقوق المواطنة. وعزّزت هذه السياسات في شكلٍ عام (ومن دون قصد) التحوّل التدريجي نحو الخطاب الإسلامي المحافظ والعابر للحدود.
وتجلى فشل أنظمة التعليم في تناول الكثير من مثالب العملية التربوية على أصعدة عدة. وعوضاً عن غرس الوعي المدني ومبادئ المواطنة وقيم التضامن الاجتماعي والقبول بالآخر والتركيز على المهارات التحليلية الضرورية والتفكير النقدي، اعتمدت المناهج المدرسية على الأساليب التلقينية لا التفاعلية، وعلى التقبّل غير النقدي لفكرة السلطة الهرمية من دون مساءلة.
كما عزّزت مناهج التاريخ والتربية الدينية عقلية «نحن» في مواجهة «هم»، على أسس عرقية وأيديولوجية وطائفية، ما جعل الشبان عرضة لتأثيرات شتّى وساهم في تغيّر المشهد الثقافي العربي جذرياً، وسهّل انتشار الأيديولوجيات المتشدّدة والتلقين العقائدي المبكر للأطفال والشبان.
ومع تنفيّذ الدول العربية برامج التحرير الاقتصادي في الربع الأخير من القرن المنصرم، قُوّضت أنظمة الرعاية الاجتماعية القائمة وألغيت ضمانات التوظيف في القطاع العام من دون تقديم بدائل. ولم تعزّز الحكومات الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية، ولم تولّد اقتصاداتها العدد الكافي من الوظائف المطلوبة ولا النوعية الضرورية.
فرض انعدام الفرص الاقتصادية وضعف نظم الرعاية الاجتماعية التي توفّرها الدولة، على المواطنين العرب اللجوء إلى أطراف أخرى بديلة عن الدولة والقطاعات الاقتصادية القانونية. نتيجةً لذلك، نمت اقتصادات الظل الموازية أضعافاً مضاعفة. فمثلاً، يُعدّ 33 في المئة من النشاط الاقتصادي في المغرب، و40 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في مصر، غير قانونيين، ما يحرم الكثيرين الحصول على أيٍّ من أشكال الضمان الاجتماعي.
ويُعتبر هذا الوضع كارثيّاً لمنطقة تتراوح فيها سنّ كلّ واحد من خمسة أشخاص بين الخامسة عشرة والرابعة والعشرين، وتصل نسبة الشبان العرب العاطلين من العمل إلى تسعة وعشرين في المئة، كثيرون منهم حائزون شهادات جامعية. وتشير التقديرات الأخيرة إلى أن ثمة حاجة إلى 105 ملايين وظيفة بحلول 2020 لاستيعاب الوافدين الجدد إلى سوق العمل.
أرغم هذا الواقع المرير المواطنين العرب على اللجوء إلى مؤسسات أخرى، كثير منها ذو طابع إسلامي، لتأمين لقمة عيشهم وإضفاء معنى أكبر على حياتهم. وكانت القيادات العربية اعتبرت أن معظم الجماعات الإسلامية ذات أجندة اجتماعية لا سياسية، وبالتالي غير مهدِّدة لأنظمة حكمها، فشجّعتها على القيام بمبادرات محلية وتوفير المساعدات الاجتماعية، كجزء من استراتيجيتها لمحاربة الأحزاب اليسارية العلمانية. وينشط بعض هذه الجماعات اليوم لتجنيد شبان عرب لمصلحة «الدولة».
ولم يرافق التحرر الاقتصادي تحرر موازٍ في الحقوق السياسية (على عكس دول أخرى مرت بتجارب مماثلة). لا بل نجم عنه سوء الحوكمة والفساد وانعدام المساواة وتولّد شعورٌ راسخ بالظلم غذّاه القمع والعنف المنهجي الذي تعرّض له المواطنون العرب على أيدي حكوماتهم على مدى عقود باعتبارهم خطراً على الأمن الوطني.
وأفاد استطلاع للرأي أُجري أخيراً بأن حوالى 55 في المئة من المواطنين لا يثقون بحكوماتهم الوطنية أو بنخبهم السياسية، وأن أكثر من 91 في المئة منهم يعتبرون أن الفساد الإداري والمالي مستشرٍ، فيما يشعر 21 في المئة فقط بأن القانون يعامل المواطنين بمساواة.
ومع ربيع لم يتسنَّ له أن يزدهر، زادت مواجهة الانتفاضات الأمورَ سوءاً. فالقمع القاسي للحراك الشعبي في بعض الدول، والذي اصطبغ أحياناً بصبغة أيديولوجية أو طائفية، فاقم الشقاق المجتمعي وأجّج الاستقطاب الاجتماعي والتوترات الطائفية.
ومن وسائل العنف الذي مارسته بعض الدول ضد المدنيين، استخدام البراميل المتفجّرة والأسلحة الكيماوية في سورية، والقتل الاعتباطي، والإخفاء القسري، والدعاوى القضائية المغرضة ضد أحزاب المعارضة في مختلف البلدان. وأحدثت هذه الإجراءات تصدّعات في المجتمعات العربية، وولّدت شعوراً أكبر بالتهميش لدى شبان يشعرون بالقوة والقدرة على التأثير بفضل انتفاضاتهم التي أطاحت زعماء سلطويين، ويبحثون عن مغزى أكبر لحياتهم وإلى توكيد أكثر لهويتهم.
يستخدم تنظيم «داعش» اليوم استراتيجيات عدة لاستغلال الحرمان المتزايد لدى الشبان، ويَعِد بتحقيق ما فشلت الدولة العلمانية في تحقيقه: الحكم العادل والإنصاف. وهو يُغري الشبان بوعودٍ شتى منها الحياة الأفضل، بما فيها الوظائف وحتى الزوجات، وبذلك يؤمّن لهم ما لا تستطيعه الدولة المدنية. كما يسلّط الضوء، في مواده الدعائية ومنشوراته على الإنترنت، على عدد من السرديات الدينية.
إضافة إلى ذلك، يتلاعب التنظيم بحذاقة بالمشاعر الطائفية، ويستغلّ شعور الضحية المتنامي لدى هؤلاء الشبان. ولطالما استخدمت حكومات عربية كثيرة الطائفية أداةً لتوطيد نفوذها السياسي، عبر إقصاء المجموعات الإثنية والدينية في شكل متكرّر عن العمليات السياسية. والآن يستغلّ بعض البلدان الفزاعة المذهبية في التنافس السياسي الإقليمي.
يتجلّى ذلك في الصراعات التي تشهدها سورية والعراق واليمن. فتدخّل إيران العسكري المتزايد يُصوَّر على أنه أحدث انعكاسٍ لصراعٍ عمره 1400 عام بين السنّة والشيعة. فيتحوّل الصراع السياسي إلى رسالة لملايين السنّة في المنطقة مفادها أن «الشيعة آتون للقضاء عليكم». ويتخذ لجوء الشبان السنّة الساخطين من تردّي الأوضاع إلى المجموعات المتشدّدة التي تظهر قوتها على الأرض بإنجازات عسكرية لم يتخيلها أحد، طابع الدفاع عن طائفتهم.
أخيراً، ساهم انعدام الثقة بالغرب في تأجيج الأوضاع سلباً. وتسلّط «الدولة» في سردياتها الضوء على اقتناع واسع النطاق لدى العرب بتبني المجتمع الدولي والقوى الغربية معايير مزدوجة وواضحة في كل ما يتعلّق بالشؤون العربية. فالاحتلال المتواصل للأراضي الفلسطينية، والحصانة الجليّة التي تتمتّع بها إسرائيل على رغم اعتداءاتها المتكرّرة على العرب، هما جرح لا يندمل لدى الكثيرين، إذ إن 77 في المئة من العرب يشعرون بأن قضية فلسطين عربية، لا فلسطينية فقط.
فضلاً عن ذلك، فيما تدخّل الغرب وجيوشه في العراق وليبيا واليمن، فإنه فشل في دعم الانتفاضة المدنية في سورية، وبناء الدولة في ليبيا، والديموقراطية في مصر، ما يعزّز تهمة النفاق والرياء الغربيّين. وهنا تبدو الخلافة الإسلامية لشبان كثيرين، وطموح بناء دولة جديدة، بديلاً منطقياً عن فشل العرب والمسلمين في تحصيل حقوقهم.
سيتطلّب الحدّ من جاذبية «الدولة» وغيرها من المجموعات المشابهة، والقضاء على أيديولوجياتها الخطيرة، اتّخاذ إجراءات طويلة الأمد لمعالجة مختلف جذورها وأسبابها. كما سيتطلّب مبادرات أوسع من استنكار العلماء المسلمين والقادة الدينيين لممارسات «داعش»، على أهمية ذلك، وأكثر بكثير من الحملة العسكرية التي تُشَنّ حالياً. وللحكومات العربية والسلطات الدينية دور أساسي في هذا المجال، من خلال السياسات التنموية والسياسية والاستراتيجيات الخاصة بالإصلاح الديني.
فتحقيق النصر على هذا الانجذاب القاتل نحو «الدولة»، يكمن في ميادين قتالٍ عدة، الأولوية فيها لتغيير طريقة فهم الشبان للعالم، وتقديم بدائل حقيقية للتغيير والتقدّم.


* باحثة أولى في مركز كارنيغي للشرق الأوسط

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


Locations of Site Visitors
Powered By Blogger