الجمعة، 2 يناير 2015

أســـــــقطنا دولتهــــم.. وتبنينا ثقافتهــــم!
هذا المقال الذى أتحدث فيه عما قلته فى اللقاء الذى دعا له السيد رئيس الجمهورية بعض المثقفين والمهتمين
بالثقافة كان من المفترض أن ينشر يوم الأربعاء الماضي. لكنى كنت وعدت القراء الأعزاء بمقالة أستكمل فيها ما كتبته عن الشاعر اللبنانى الراحل سعيد عقل، ورأيت ألا أؤخرها حتى لا أقطع بين ما بدأت به وما وعدت باستكماله. ولأن لقاء الرئيس بمن دعاهم سيظل بالطبع حاضرا مفتوحا لشهادات الذين شاركوا فيه.
وأنا أبدأ حديث اليوم بتوجيه الشكر للسيد الرئيس على الدعوة لهذا اللقاء الذى يرسى به تقليدا بدأه قبل أن يتولى المنصب. وها هو يواصله بعد أن تولاه وفاء للروح التى اشتعلت فى يناير وتوهجت فى يونيو، وتعبيرا عن حاجته وحاجتنا جميعا للثقافة والحوار وتبادل الرأى والمصارحة والمناقشة والشعور اليقظ بالمسئولية والمشاركة فى تحملها.

ولقد عشنا ستة عقود تراجع فيها دور المثقفين المصريين الذين صودر حقهم فى إبداء الرأى وممارسة النقد وكشف الحقائق وتعرية الأخطاء وتصحيحها والتبشير بما لم يكن غيرهم قادرا على التبشير به، ولم يعد لهم خلال تلك العقود التى مضت إلا أن يستجيبوا للترغيب فيصفقوا للحاكم أو للترهيب فيلوذوا بالصمت. فإذا كانت الملايين التى أسقطت نظام يوليو العسكرى فى يناير ثم أسقطت نظام الاخوان الدينى الفاشى فى يونيو قد أنقذت المثقفين المصريين من هذا الوضع البائس فهى تنتظر منهم أن يعودوا لأداء دورهم الذى يجب عليهم أن يؤدوه، وأن يكونوا أوفياء لتراث محمد عبده، ومحمود سامى البارودي، وطه حسين، وعلى عبدالرازق، وعباس محمود العقاد، ومحمد مندور، ولويس عوض، وإحسان عبدالقدوس، وغيرهم، خاصة فى ظل هذه السلطة التى جاءت بها الثورة، وفى مواجهة المستفيدين من الطغيان والمتاجرين بالدين الذين مازالوا يشنون حملاتهم المأجورة على الثقافة والمثقفين ويحرضون الجهلاء عليهم، مستغلين الظروف الراهنة التى نحصد فيها ما زرعه الطغاة، فكل ما حولنا فاسد مختل. السياسة والإدارة، والأمن والاقتصاد، والتعليم والصحة، والأخلاق والعقائد. ولا صلاح لأى مجال من هذه المجالات إلا بالثقافة وحرية التفكير والتعبير.

الثقافة هى الفريضة الغائبة. إذا حضرت فكل شيء حاضر مزدهر. وإذا غابت فكل شيء ساقط أو آيل للسقوط. ومن هذا المنطلق طلبت الكلمة الأولى فى اللقاء الذى جمعنا بالرئيس لنبدأ حوارنا من الثقافة.

قلت إننا لا نشكو فقط من غياب ثقافة هذا العصر التى لا نستطيع دونها أن نحيا فيه، ثقافة العلم والعقل، وثقافة المواطنة والديمقراطية وحقوق الانسان، بل نحن مع غياب هذه الثقافة نتلقى ثقافة مضادة مسمومة مسلطة علينا فى معاهد العلم، ودور العبادة، ووسائل الاعلام. ثقافة تعادى العقل وتنحاز للطغيان. تخلط العلم بالخرافة والسياسة بالدين. تعلمنا أن نكره أنفسنا ونكره غيرنا ونتبرأ من تاريخنا ومن التاريخ كله. من الماضى الذى نلحقه بالجاهلية، ومن المستقبل الذى ننظر إليه بارتياب من بعيد ونعتبره دار حرب لا نحب أن ندخلها مسالمين حتى لا نختلط بأهلها، ولا نستطيع أن ندخلها فاتحين!

ولقد ثرنا على النظم التى وضعتنا فى هذه الأوضاع وفرضت علينا هذا التخلف، لكننا لم نتحرر من ثقافتها التى لا تزال حتى الآن قادرة، ليس فقط على أن تدافع عن نفسها، بل على أن تهاجمنا بكل ما تملك من أسلحة، بالفتاوي، والرشاوي، والمظاهرات، والبنادق، والمتفجرات، كما يفعل الاخوان، وكما يفعل حلفاؤهم وبدائلهم الذين ورثوهم من المتاجرين بالدين الهواة والمحترفين.

لقد تحولت هذه الثقافة المضادة إلى إرهاب عقائدى يريد به فلول النظام العسكرى واعضاء العصابات والجماعات والأحزاب الدينية أن يستعيدوا سلطتهم السياسية التى فقدوها. وهم لن يستعيدوها إلا باسقاط السلطة الراهنة التى جاءت بها ثورة شعبية طالبت بالحرية والعيش والعدالة دون أن تعرف الطريق لتحقيق هذه المطالب.

فهى ـ أى الثورة ـ ليست ثمرة ناضجة لفكر جديد بشر بها وأعد لها عدتها كما كانت الثورات التى سبقتها عندنا وعند غيرنا. جون لوك بشر بالثورة الإنجليزية، وفولتير وروسو ومونتسكيو بالثورة الفرنسية، وكارل ماركس بالثورة الروسية، والطهطاوى ومحمد عبده والبارودى وعبدالله النديم وأحمد لطفى السيد بثورة عرابى وثورة 1919 ـ ثورة يناير لم يكن وراءها فكر جديد أو حزب ثوري، وإنما كانت وراءها أزمة خانقة ومجتمع مكمم مختنق توالت عليه الكوارث والهزائم، وتسلطت عليه أجهزة القمع، وظل يتحمل ويصبر والأزمة تشتد ولا تنفرج، حتى فقد القدرة على التحمل، ووصل الى حد اليأس فانفجر فجأة ولم يعد يرهب شيئا، وأصبح هو القادر على أن يخيف أجهزة القمع والتخويف التى فرت أمامه، فسقط النظام لينشأ الفراغ الذى لم يجد من يملؤه إلا حلفاء النظام المنهار أو إخوته الأعداء، أقصد جماعات الاسلام السياسي، التى لم يكن فى برامجها أو فى استطاعتها أن تلبى مطالب الثورة، لأنها بفكرها وتاريخها معادية للحرية والدولة المدنية والمواطنة والعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان، واذن فقد ظل المجتمع مأزوما مستعدا لأن ينفجر من جديد. وهو ما حدث بالفعل فى ثورة يونيو التى أسقطت السلطة الدينية الفاشية، وفتحت الطريق أمام السلطة الحالية التى وجدت نفسها محاطة بهذا الخراب من كل جانب. أمن مختل، واقتصاد منهار، وأعداء فى الداخل والخارج يحملون فى وجهها السلاح ولايهددونها وحدها، بل يهددون الدولة ذاتها. واذن فالدفاع عن الدولة هو المطلب الملح الآن، وهو الواجب الذى تنهض به أجهزة الأمن وقوات الجيش التى أصبحت هى الهدف الأول للإرهابيين، لأنها خط الدفاع الأول عن الدولة.

لكن الدولة ليست أجهزة فقط، وليست مناصب ووظائف فحسب، وإنما هى قبل هذا فكرة لا يستطيع أن يدافع عنها الا من فهمها وأخلص لها.

الدولة هى التعبير عن الأمة. والأمة بالمفهوم الدينى غير الأمة بالمفهوم الوطني، بالمفهوم الدينى الأمة هى المؤمنون. أما بالمفهوم الوطنى فالأمة هى الموطنون على اختلاف عقائدهم الدينية. وإذا كانت مصر فى الدولة الدينية ولاية يستطيع أبو بكر البغدادى أن يرسل لها من يحكمها باسمه، فمصر فى الدولة الوطنية حرة مستقلة. واذا كان الشعب فى الدولة الدينية رعية تسمع وتطيع، فهو فى الدولة الوطنية صاحب الحق ومصدر كل السلطات، ينتخب حكامه، ويضع قوانينه، وهذه هى الديمقراطية التى لا تتحقق إلا بفصل الدين عن السياسة، لأن الخلط بينهما يفتح الطريق لمن يغتصبون السلطة وينفردون بها مدعين أنهم يحكمون نيابة عن الله، والسؤال: نحن مع أى من هاتين الدولتين؟

أعرف أننا أسقطنا دولة الإخوان فى ثورة يونيو، لكن هل أسقطنا ثقافة الإخوان؟

هل راجعت مؤسساتنا الدينية موقفها من الخلافة الإسلامية؟ ومن الفصل بين الدين والسياسة؟ ومن حقوق الإنسان؟ ومن حرية التفكير والتعبير؟ ومن التمييز بين الرجل والمرأة؟ ومن التمييز بين المسلمين وغير المسلمين؟

فاذا كانت هذه المراجعة لم تحدث حتى الآن، وإذا كان بعض المشتغلين بالثقافة يعادون حرية التفكير والتعبير ويطالبون بإغلاق القنوات الفضائية والتضييق عليها، فهل نطمئن لمستقبل الديمقراطية؟ وهل تنجح أجهزة الأمن فى الدفاع عن الدولة الوطنية إذا كانت الثقافة السائدة تناصبها العداء؟!

وسوف أواصل فى الأسبوع المقبل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


Locations of Site Visitors
Powered By Blogger