السبت، 8 ديسمبر 2012




أيام سوداء ومعارك ضد سلطات الدولة تهدد وجود مصر!
محمد عبد الحكم دياب
2012-12-08


كانت المواجهة مع الرافضين لحكم حسني مبارك تقوم بها أجهزة أمن وشرطة وبلطجة منظمة شكلها الحزب الوطني المنحل، أما الآن فإن المواجهة تتولاها مليشيات لا تعرف إلا الكذب، ولا تتعامل بغير العنف والاقتتال، وهو أمر غريب مهما كان المبرر، فالإخوان والسلفيون هم الذين يحكمون ويتحكمون، وهم أصحاب القرار الآن. والرئيس محمد مرسي منهم ويملك صلاحيات واسعة كفلها له القانون الساري، ولم يكن في حاجة إلى صدور الإعلان الدستوري سيئ السمعة في 21 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي.


وصلاحيات الرئيس أكثر من كافية لضبط كل شئ في الاتجاه الذي يريحه، والشرط هو عدم الإخلال بحق المواطن القانوني والإنساني في التظاهر والإضراب والاحتجاج السلمي، أما أن يواجه هذا الحق بذلك الكم من العنف العُرْفي إذا جاز التعبير، عن طريق الحزب الحاكم وجماعة الإخوان المسلمين؛ يجعلنا نطرح سؤالا عن دلالة هذه الممارسة من قوم يحكمون وقَبِل بهم أغلب من مارسوا حقهم الانتخابي، وذهبوا للإدلاء بأصواتهم، أي أنهم اكتسبوا شرعيتهم عن طريق صندوق الاقتراع، وليس عن أي طريق آخر.


ويرى البعض أن السبب يكمن في تجاوزات صدرت هنا أو هناك، وقد يحمل ذلك قدرا من الصحة، وأي عنف خارج القانون في المجتمع الديمقراطي ليس حلا. ولو تأملنا الموقف لوجدنا أن ما يعتبر تجاوزات في حق الحكام الجدد لا يتجاوز حدود التعبير باللفظ والرسم أو النكت، وهي طريقة مصرية موروثة، تُترجَم في شكل عبارات ورسوم وأغان ساخرة ونكت، وهي في عداد المحرمات بمنطقهم. أما الأكثر تجريحا وبذاءة وتهديدا ووعيدا واستباحة للأعراض وتكفيرا كان احتكارا على أبواق كتائب الإسلام السياسي الألكترونية والمسلحة، التي لا تعرف غير العبوس والبذاءة والسب والضرب والعدوان، والرد على التجاوزات يتكفل به القانون. أما الظاهرة في ذاتها ظاهرة مصرية؛ ليست وليدة اللحظة، وقد عانى منها الحكم المخلوع، وليست شرطا فيها أن تكون كارهة للإسلام، أو أن أصحابها من الكفار والفاسقين، وهي سلاح مصري للتخفيف من المعاناة، واستفحلت هذه الظاهرة في أعقاب نكسة 1967، وأثرت على المعنويات العامة في فترة حرب الاستنزاف، واقتضى ذلك مناشدة الرئيس لمواطنيه الكف عن ذلك حفاظا على معنويات الشعب وقواته المسلحة، التي كانت تخوض معركة ضارية ضد العدو الصهيوني.


وهذا لم يمنع محامي الإسلام السياسي وغير السياسي من رفع القضايا ضد كل من قال كلمة نقد أو أبدى ملاحظة أو تجاوز في حق مقاماتهم؛ بدءا من المرشد العام نزولا إلى ما هم دونه؛ في مكتب الإرشاد ولجان المحافظات، وقادة حزب الحرية والعدالة في أنحاء مصر، ولا يبدو أن الطرق القانونية كافية لمنع النقد والاحتجاج والسخرية، واللجوء إلى طرق ووسائل لا صلة لها بالقانون أدى إلى التراجع عن الطرق السلمية، وقوبل ذلك العنف بعنف مضاد، ومع استنكارنا وشجبنا للاعتداء على ذوي اللحى والعدوان على مقرات الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة وحرقها، ورفض العدوان على القياديين الإخوانيين محمد البلتاجي وصبحي صالح، مع علمنا بما يتردد حول قيام عناصر من مليشيات الإخوان وعدد من البلطجية بحرق بعض المقرات مساعدة لهم للظهور بمظهر الضحية.


وعلى قادة الإسلام السياسي أن يسألوا أنفسهم: لماذا تتوجه شحنات الغضب والانتقام إليهم وليس لغيرهم إذا ما ثبتت صحة ادعاءاتهم؟ بدلا من الاسترسال في توجيه الاتهام لشخصيات محددة بأنها جزء من مؤامرة أمريكية صهيونية، وهل الرد هو في 'تطهير' وإجلاء الآلاف من المحتجين، وتبرير العنف والقتل ضدهم؟ عليهم أن ينظروا في الأسباب التي تقف وراء هذا الفعل المدان وإظهار القرائن الموثقة أمام الرأي العام، وقد يساعدهم ذلك على رؤية الحقائق دون تلوين أو الإمعان في منطق المؤامرة!.


وقيل عن المليشيات أنها لـ'حماية الشرعية'، حسب الرأي الرسمي الإخواني، وأي حكم يفقد شرعيته إذا خرج بعيدا عن أحتضان الشعب ومؤسسات الدولة الديموقراطية. ومنذ متى تتكفل المليشيات بهذه المهمة؟ وهل هذا تبرير لحمل السلاح واستخدامه؟ أم أنه مدخل لتأكيد 'قدسية' الحكم والحاكم. وهذه طامة كبرى؛ تعود بمصر قرونا وقرونا إلى الخلف في عصور 'الحاكم الإله' ونموذجه فرعون الذي قال: 'ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد' - سورة غافر.


ولما رأينا في مقال الأسبوع الماضي أن الحكم ليس محل تقديس قلنا ان تراجع الرئيس عن قراره ورطة ولأنها ليست الأولى؛ سوف تؤثر على مصداقية الحكم، وبدا التراجع مستحيلا، واستمرار العناد يضع الرئيس في ورطة أشد؛ وما بين الورطتين يكون المخرج هو التعرف على قادة عظام وجدوا الحل في التنحي والخروج الآمن مما وقعوا فيه، لهذا طالبنا باستقالة الرئيس محمد مرسي، تجنبا للفوضى أو الانقلاب العسكري. وما بين السبت والسبت التالي استمر العناد والإصرار على تأكيد 'حكم الرئيس الإله'، وذهبت جحافل المليشيات المسلحة وفرق البلطجة إلى حيث يقبع المتظاهرون المسالمون وأعملوا ضربا وقتلا؛ بالعصي والمواسير المعدنية والأسياخ الحديدية والسيوف والبنادق والرشاشات الآلية، وبدأ سقوط القتلى والجرحى، وهكذا كان حال الوضع أمام القصر الرئاسي بضاحية مصر الجديدة، ليلة الثلاثاء صباح الأربعاء الماضي.


وهب سكان الحي من بيوتهم يساعدون بكل السبل يحولونها إلى مراكز إيواء ونجدة للمصابين، وفُتحت الكنائس المجاورة للحماية وللمستشفيات الميدانية والإسعافات الأولية، وقامت سياراتهم كما روى شهود عيان بمهام النقل السريع وإرسال المصابين إلى المستشفيات، حتى الدراجات النارية تولت نقلت المصابين من الأماكن البعيدة عن المستشفيات، وتجلت الوحدة الوطنية في وقت انشغلت فيه المليشيات بمهمتها 'المقدسة' في الذبح على الهوية، فمن ليس معنا فهو ضدنا، وعلى قائمة التصفية الجسدية.


وكانت ليلة من الرعب والقلق والتوتر؛ أشد وطأة وسوادا من كل ما سبق، ومسؤولية الدم في عنق صاحب القرار؛ الرئيس محمد مرسي الذي أوصل البلاد إلى هذه الحالة، ويليه عصام العريان الذي حرض شباب الإخوان وأعضاء حزب الحرية والعدالة على ما أسماه 'تطهير' محيط القصر الجمهوري من 'البلطجية' على حد قوله، وقدم عدد من النشطاء ضده بلاغات تتهمه بالقتل العمد وسقوط الشهداء والضحايا.


وكنت بين شخصيات التقت بحثا عن طريق لحقن الدماء، وخلال الجلسة اتصلت بأحد القضاة السابقين، وسألته عن إمكانية التقدم بمبادرة تحقن الدماء، فأخبرني أنه شخصيا فعل ذلك بمبادرة شخصية تحفظ لكل طرف كرامته وماء وجهه، وشرحها لي بالتفصيل وفيها ما يقبل من كل الأطراف، لكنه كما روى وجد إصرارا من الإخوان على الإعلان الدستوري سيئ السمعة والاستفتاء على مشروع الدستور في موعده. وبعدها بلحظات اتصل بي استاذ جامعي من الثوار يستطلع رأيي في مبادرة يوجهها للرئيس مرسي يطالبه بالحديث إلى الشعب إنقاذا للبلاد ويتحمل مسؤوليته في هذا الوقت العصيب، وأجهش في البكاء وهو يختم مبادرته، ولم يستطع استكمال الحديث، وشددت من أزره. ودموعي تزرف أنا الآخر.


وبجانب هذه المبادرات علمت من مصدر موثوق أن محاولة جرت من الوزير الأسبق وفقيه القانون والمفكر الإسلامي كمال أبو المجد ومعه رئيس وزراء مصر السابق كمال الجنزوري باءت بالفشل، واتصلت بأحد المشايخ الكبار وعضو مجمع البحوث الإسلامية؛ أسأله عن موقف الأزهر، فرد أن العناد يحول دون أي نجاح لأي بادرة من جانب الأزهر، وكان في حالة من التأثر والحزن الشديد على ما آلت إليه الأوضاع.


والقضية الآن لم تصبح قضية الإعلان الدستوري سيئ السمعة أو الإصرار على إجراء الاستفتاء في موعده، وهو الشئ غير الممكن لغياب القضاء واعتذار أغلب القضاة عن الإشراف على استفتاء على مشروع دستور يذبحهم من الوريد إلى الوريد، وغياب الأمن والقوات المسلحة التي تولت حماية لجان الانتخابات التشريعية والرئاسية السابقة، فمرت بسلام، وأوصلت محمد مرسي إلى منصب الرئاسة، إنما قضية مصير بلد يحترق أمام أعين الجميع ولا تحرك السلطة ساكنا لوقف هذا الحريق.


وما جرى هو حصاد تصفية حسابات تاريخية وشخصية مع سلطات ومؤسسات أربع كبرى في الدولة في وقت واحد، وقد عرضنا لبعضها من أسابيع على هذه الصفحة، وهي القضاء والإعلام والأزهر والقوات المسلحة! وهذا ليس مألوفا في حكم جديد، كان عليه أن يبدأ بالمصالحة والوفاق الوطني، مع محاسبة من أفسدوا الحكم والحياة السياسية؛ وهو نهج يأخذ به أي حكم جديد، وفتحت شهوة الهيمنة والانتقام باب المعارك الدامية بسرعة لم تكن متوقعة، ومثل هذه المعارك الأربع تقصم ظهر أي دولة!.


وعلى مستوى المسؤولية فإن الرئيس مرسي، الذي انتظر المواطن خطابه على أحر من الجمر، ولم يقل شيئا ذا بال يريح الناس، ولأن محمد مرسي يتحمل المسؤولية الاكبر عن صناعة الأزمة، وهو مسؤول عن تطويقها.


في ظروف فوق طاقة الاحتمال؛ ازمة اقتصادية طاحنة، ونشاط داخلي وخارجي محموم لتقسيم مصر واجهاض ثورتها الكبرى، والانقسام يزيد المواجهات الدموية، ولا بديل عن العقل والحكمة من أجل موقف وطني جاد ومسؤول؛ يقود الى مخارج مشرفة لإنقاذ مصر وشعبها.
والقوى السياسية تواجه اختبارا صعبا، إذا لم تنجح فيه فهي تجر مصر إلى كارثة أكثر مما هي فيه، وعليها إعطاء الأولوية لمصير البلد التي لا تتحمل أكثر من ذلك، وعلى الجميع تحمل نصيبهم من المسؤولية عن كل نقطة دم اذا ما استمر العناد وقصر النظر.


في النهاية فإن حصيلة 'موقعة' القصر الجمهوري المبدئية تجاوزت الألف ضحية؛ فارق سبعة منهم الحياة، ومن بينهم الصحفي الشهيد الحسيني أبو ضيف من صحيفة الفجر المستقلة، وصرح علاء العطار عضو مجلس نقابة الصحفيين أن الشهيد كان فى حالة موت 'سريري'، بعد إصابته بطلق ناري في الرأس في تمام الساعة 2.30 بعد منتصف ليل الثلاثاء وصباح الأربعاء الماضي، وورد إلي خبر وفاته وأنا أختم هذه السطور، وكان بشهادة أحد أصدقائه يقف بعيدا وقت وقوع الحادث ويُطلع صديق له على لقطات مصورة وأفلام توثق الجرائم المرتكبة والاعتداء على النشطاء.ونشرت صحيفة 'اليوم السابع'، إن أبو ضيف أصيب برصاصة استقرت داخل الجمجمة.


وسقط الإعلان الدستوري نهائيا مع سقوط أول شهيد برصاص المليشيات المسلحة، وهذا إيذان بسقوط مرسي نهائيا!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


Locations of Site Visitors
Powered By Blogger