قالت صحيفة الأخبار بعد ساعات من انفضاض “مؤتمر أصدقاء سوريا” في تونس، وقبل ساعات من فتح صناديق الاستفتاء على دستور الجمهورية العربية السورية الجديد، وصل إلى دمشق سراً موفد عن ملك عربي ــ أغلب الظن أنه الملك عبد الله بن عبد العزيز ــ وفي جعبته رسالة للرئيس بشار الأسد، مفادها: “اختر أنت المخرج الذي يناسبك للخروج من المأزق”. والعرض الأساس الذي تقدمه الرسالة هو الآتي: “مستعدون لتقديم المساعدة لتأمين خروجك من الحكم وترتيب أمور المرحلة الانتقالية المؤدية إلى ذلك”.
ردّ السوريون على حامل الرسالة باستعلاء، لكن بشيء من التروي. فقد نظموا له جولة سريعة على مناطق في سوريا. ووضعوا أمامه وثائق ومعطيات تظهر الواقع كما هو على الأرض. قالوا له إن الحرب في حمص هي بين الجيش السوري وإرهابيين. عرضوا له صوراً لأصوليين عرب وشرق آسيويين، ومعلومات عنهم. وقالوا له إن النظام ليس منهاراً كما يصوره الإعلام في الخارج. وأبلغوه أن الرئيس بشار الأسد يقدم على خطوة الاستفتاء ومباشرة أجندة إصلاحات متكاملة ستظهر قريباً على أرض الواقع، من موقع قوة؛ فالاستفتاء يجري بعد الفيتو الصيني ـ الروسي، وبعد السيطرة على حمص بالنار وتنفيذ خطة خنق البؤر الساخنة فيها، وبعد اتضاح ضعف المعارضة السورية واكتشاف مدى اختراق تنظيم القاعدة لها. ويقول السوريون إن الموفد عاد إلى الجهة التي أرسلته، بانطباع يعاكس مضمون الرسالة التي كان يحملها. أكثر من ذلك، يقول مصدر قريب للنظام إن الموفد لم ينتظر حتى وصوله إلى البلد الذي جاء منه، بل طلب عبر الهاتف من دمشق، الجهة التي أرسلته ليبلغها أن الصورة هنا مختلفة تماماً عما نظنه.
لقد تقصد الرئيس الأسد أن يستفتي في مبنى الإذاعة والتلفزيون السوري؛ فرمزية المكان تسمح له بالحديث عن دور الإعلام في تزوير حقيقة الواقع على الأرض في سوريا. قال: “نحن من نملك الأرض”. كانت هذه الكلمات موجهة إلى الجهة العربية الخليجية التي أرسلت موفدها إلى سوريا، لتقول للرئيس الأسد إنه انهار وانتهى، ولا تزال هناك فرصة لإخراجه من المأزق بشرط موافقته على ترك الحكم.
الدستور الجديد
ونوهت الصحيفة إلى الدستور الجديد قائلة لقد مُدِّدت عملية الاستفتاء حتى الساعة العاشرة ليلاً، بعد أن كان التوقيت المحدد لإنهائها هو السابعة مساءً. المشاركة كانت جيدة في مدن عدم التوتر، ومقبولة في مدن تشهد أحداثاً متقطعة، وخجولة في مدن التوتر كحمص خاصة. أما في الأرياف البعيدة عن العاصمة، فكانت المشاركة ضعيفة. لكن الاستفتاء له معانٍ أخرى، إضافة إلى معنى المشاركة والتأويل السياسي للأرقام التي تخرج من صناديقه. من هذه المعاني، تلبية أجندة منسقة بين بوتين ــ الرئيس الأسد تقضي بالدمج بين الحل الأمني الموجه إلى الجماعات المسلحة، وبين الحل السياسي الذي يلبي طموحات الشعب السوري المحقة. صار يمكن الآن أن نسمع في دمشق حديثاً متكاملاً عن طبيعة الأفق السياسي الداخلي للخروج من الأزمة الراهنة، بعدما كان الحديث في الفترة الماضية مقتصراً بكامله على أن الأزمة هي مؤامرة أمنية تنفَّذ في الداخل، وتستبطن أهدافاً سياسية خارجية.
لم يعد سراً في دمشق الرسمية والمعارضة على السواء أن وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف طلب في لقائه الأخير مع الرئيس الأسد امرين اثنين: تفعيل الحوار الوطني الداخلي بواسطة لجنة الحوار التي يرأسها نائب الرئيس السوري فاروق الشرع، أو عبر وسائل أخرى. والثاني إطلاق الدستور الجديد وعقد انتخابات تشريعية.
المتابعون للوضع السوري يلاحظون أن الدستور الجديد كان منجَزاً منذ نحو شهرين تقريباً. لكن مسألة توقيت إعلانه ظلت محل نقاش داخلي طويل. كانت الفكرة المستحوذة على أوساط الرئيس الأسد هي أنه يجب الاحتفاظ بورقة إعلانه لصرفها في لحظة مناسبة خلال عملية تفاوض كان يجريها، آنذاك، الروس مع عدد من أطراف المعارضة السورية لحل الأزمة جذرياً. وبحسب معلومات موثوق بها، كان الروس في تلك الفترة يخوضون عملية نقاش مع أطراف عديدة في المعارضات السورية في الداخل والخارج، لإرساء حل يقبل به الرئيس الأسد. وبعد اتصالات مكثفة، لخّصت موسكو نقطة الافتراق بين الطرفين، واقترحت التفاوض حولها لإنهاء الأزمة:
تطالب المعارضة بأن يُنهي الرئيس الأسد ولايته الحالية الثانية في العام المقبل ويغادر الحكم، بينما الرئيس الأسد يقول إن المرحلة السياسية الجديدة في سوريا ستؤسَّس على أساس دستور جديد، ينص على أنه يحق للرئيس أن يترشح لدورتين اثنتين، وأنه بموجب هذه الفقرة من الدستور الجديد، يحق له أن يترشح في عام 2014 وفي عام 2021. واعترضت المعارضة على هذا التأويل، مشيرة إلى أن كلتا ولايتي الأسد اللتين يسمح بهما الدستور انتهتا. غير أن الأسد ردّ بأنه لا يمكن تطبيق الدستور بمفعول رجعي، وأن الدستور الجديد يضع البلد في مرحلة سياسية جديدة، بكل معطياتها وشخصوها، وتطبيقاته تشمل الجميع ويستفيد منها الجميع.
وبحسب أوساط المعارضة، اقترحت موسكو لحل هذه القضية الخلافية تفاهماً بين الطرفين ينص على أن يترشح الرئيس الأسد لدورة جديدة واحدة في عام 2014، بشرط أن يكون مرشحاً بين منافسين له.
إيقاعات هذه المفاوضات البعيدة عن الأضواء كانت تسير مع أعمال لجنة صياغة الدستور، المؤلفة من 28 عضواً بالإضافة إلى رئيسها. وحينما وصلت لجنة الصياغة إلى تحديدات ولاية رئيس الجمهورية، برز خلاف على صيغيتن: الأولى حددت ولاية الرئيس بخمس سنوات مفتوحة، والثانية بستّ سنوات مفتوحة. ولدى التصويت، انقسم الأعضاء إلى 28 بالتساوي: مع وضد. أما رئيس اللجنة، فامتنع عن التصويت. وارتأى المجلس أن يرحّل هذه القضية إلى الرئيس الأسد ليحسمها. ولم يفعل الرئيس الأسد ذلك إلا قبل نحو أسبوعين، عندما أجاب بأنه مع مادة تؤكد أن زمن الرئيس القائد إلى الأبد انتهى، وأن أقرب تجسيد لهذه الفكرة هو جعل ولاية الرئيس سبع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة (أي يُنتخب لدورتين اثنتين).
هناك أيضاً مرة أخرى وأخيرة تدخّل فيها الأسد بعمل لجنة الدستور، كما تقول مصادرها. حدث ذلك عندما ثار الجدل داخل اللجنة على فقرة دين الرئيس. وقد حسم الرئيس الأسد النقاش لمصلحة أن تنص المادة على ما جاءت عليه في النص الحالي المعتمد بنتيجة الاستفتاء الأخير.
حكومة جديدة
وأضافت الصحيفة ثمة وضوح الآن لدى النظام، على مستوى تصور أفق الحل السياسي للأزمة. يقول قياديون في السلطة إن الأزمة لها شقان:
1) شق أمني لا تهاون معه، حيث هناك مسلحون قدموا من الخارج بتمويل خارجي ليقاتلونا. وهؤلاء هم البنية الصلبة للعصيان المسلح. أما المسلحون الباقون، فهم ملتحقون بهم، لأسباب ظرفية نشأت خلال الأحداث، وليس عسيراً احتواؤها.
2) شق سياسي يتعلق بمطالب لشعبنا، سنستجيب لها ونتعامل معها بانفتاح كلي. والاستفتاء على الدستور، هو نقطة الانطلاق باتجاه تنفيذ خطوات سياسية عملية أخرى نحو إدراك الإصلاح الشامل.
أما الخطوة التالية بعد الاستفتاء، فهي تأليف حكومة إدارة الأزمة. هذا هو تعريفها السياسي والوظيفي. أما بنية الحكومة، فهي وطنية وتعكس سمة الوحدة الوطنية.
لكن عبارة الوحدة الوطنية لا تتضمن معارضة الخارج، وخاصة “الإخوان المسلمين” و”المجلس الوطني” أو “مجلس إسطنبول”، حسب التعبير السائد في أوساط النظام الذي يرى أن تجسيد الوحدة الوطنية في الحكومة يتلخص بمشاركة الفئات الآتية تحديداً: “بعثيون زائد مستقلين زائد ممثلين عن أحزاب معارضة الداخل زائد تكنوقراط.
الأخبار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق