الجمعة، 19 أغسطس 2011

ليت الكواكبى وحمدان بيننا هذه الايام



د. هشام الحمامي (المصريون) 18-08-2011

كم كنت أتمنى أن يكون(ابو الضعفاء)عبد الرحمن الكواكبى (1855-1902م )وجمال حمدان (1928-1993م)..بيننا هذه الأيام ليرى الأول كيف صرعنا الاستبداد وليرى الثانى كيف ثار المصريون على حاكمهم .

عاش الكواكبى عمره كله يحارب الاستبداد السياسى والطغيان وما يترتب عليهما من مفاسد فى وجه الحياه كلها. وانتج مؤلفه الشهير(طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) الذى يطلق عليه بحق كتاب المستقبل العربى ..الذى تتمدد سطوره الأن عبر الميادين والشوارع التى ثار فيها العرب على حكامهم المستبدين .

الكاتب صدركتابه بعبارة(كلمات حق وصيحة فى واد.. ان ذهبت اليوم مع الريح ...فقد تذهب غدا بالاوتاد) وقد ذهبت بالاوتاد فى الغد الذى لم يكن بعيدا ..ولم يكتب للرجل أن يراه .. وأى أوتاد هى كانت يا أبا الضعفاء كما يسمونك.

( الاستبداد أشد وطأة من الوباء.. أكبرهولا من الحريق ..أعظم تخريبا من السيل ..أذل للنفوس من السؤال ..... اعتاد الاستبداد تسمية النصح فضولا..والغيرة عداوة..و الشهامة عتوا ..والحمية جنونا ..والانسانية حماقه .. والرحمة مرضا..والنفاق سياسة ..والتحايل سياسة..والدناءه لطفا ..والندامة دماثة) هذه إحدى صيحات الرجل فى توصيف دقيق للاستبداد...الغريب ان الكواكبى السورى الحلبى نشرهذا الكتاب فى مصر بعد ان أوى اليها هاربا من عارف باشا والى حلب الذى كان يخطط لتلفيق عدة قضايا له بعد لن تعالت صيحات الرجل بين الناس..

بدأ الكوكبى بنشرالكتاب فى سلسلة مقالات فى صحيفة (المؤيد) لصاحبها على يوسف (1863-1913م)..شيخ الصحافة الاسلامية كما كان يلقب وقتها ..يقول هوعن ذلك (فى زيارتى لمصر نشرت فى اشهر جرائدها بعض المقالات السياسية تحت عنوان الاستبداد ..ما هوالاستبداد وما تاثيره على الدين..وعلى العلم..وعلى التربيه ..وعلى الاخلاق ..وعلى المجد..وعلى المال؟..الى غير ذلك.)ثم ما لبثت هذه المقالات ان اصبحت كتابا وافيا.

البرت حورانى المفكر الانجليزى-اللبنانى الاصل (1915-1993)ذكر فى كتابه (الفكرالعربى فى عصرالنهضة) ان الكواكبى انطلق فى افكاره واراؤة من فكره الانحراف الدينى والاهتمام بالفرعيات وترك مقاصد الدين وجوهرة ..سنعرف بعد ذلك ان مقولة لا اصلاح سياسى بدون اصلاح دينى هى صحيحة تماما ..لذلك كان الاصلاح الدينى هو المستهل الأول لكل المصلحين.. الافغانى ومحمد عبده رشيد رضا وحسن البنا ..ذلك ان ان الحكام عمدوا الى تشجيع التدين السلبى الانعزالى فقال(ان الحكام المستبدين لم يكتفوا فقط فى عملهم الشرير بتأييد الانحراف عن الدين الصحيح بل افسدوا المجتمع كله بهذا الانحراف ثم يقول واصفا الدولة الاسلامية العادلة التى يحقق فيها البشرغايتهم من الوجود (هى تلك التى يعيش فيها الفرد حرا ويخدم المجتمع بحرية ..وتسهر الحكومة على هذه الحرية وتكون الحكومة نفسها خاضعة للشعب ..ويستطرد... إن الدولة الاسلامية الحق هى هذا النموذج.. أما الدولة المستبدة فنقيض ذلك تماما فهى تتعدى على حقوق المواطنين وتبقيهم جهلاء كى تبقيهم خانعين وتنكر عليهم حقهم فى القيام بدورفعال فى الحياة وتشوه كيان الفرد الخلقى بالقضاء على الشجاعة والنزاهة والانتماء الدينى والقومى).والحل عند الكواكبى للخلاص من كل هذا هو القضاء التام على الاستبداد وسحقة ودفنه وانبات شجرة الحرية فوق قبرة .

رحم الله ابا الضعفاء الذى توفى مسموما فى القاهرة فى 14/6/1902..وقد توقفت كثيرا عند عن وصفه لدورالدولة العادلة انها تلك (الدولة التى يحقق فيها البشرغايتهم من الوجود )وما احسبنى اذهب بعيدا اذا قلت انها الغاية الانسانية النبيلة المتمثلة فى طاعة الله والعيش فى سعادة..طاعة يملؤها الايمان بالله وعنايته بما يمنحنا شعورا عميقا بالطمانينه والأمن الذى لا يمكن تعويضهما بأى شىء أخر..طاعة الله التى تستبعد طاعة البشر والخضوع لهم الطاعة والقرب الذى تنشىء بهما صلة جديدة بين الانسان وبين الله من جهة وبين الانسان والانسان من جهة اخرى.

توقفت كثيرا ايضا عند قوله ان الدولة المستبدة (تبقى الناس جهلاء كى تبقيهم خانعين)..وتنكر عليهم (حقهم فى القيام بدور فعال فى الحياة).والجهل والخنوع والدونية مثلث الاستبداد الاثير..وما من مستبد الا ويحرص كل الحرص على ان يكون الناس أسرى فى هذا السجن السحيق ..حكى لى زميل قادم من العمل فى ليبيا عن تفشى هذا الثلاثى فى المجتمع الليبى بوضوح شديد رغم الوفرة الاقتصادية التى حرمهم منها شيخ المستبدين فى العالم ..ولفت نظرة التفشى الرهيب للقمامة فى طرقات طرابلس العاصمة التى تستقبل الضيوف.. فما بال المدن الاخرى.. وعن حالة المسكنة التى تتبدى فى وجوه الناس وهم يسيرون فى الطرقات(مهما نظرت فى عينى فلن تجد نظرتى هناك ..قلبى ليس لى ولا لأحد ..لقد استقل عنى دون ان يصبح حجرا) ..هكذا وصف محمود درويش مساكين الاستبداد .. يهيىء لى أن كتاب الكواكبى نموذج تشريحى لحال المجتمع الليبى المسكين الذى عاش 42 عاما مسروق الروح والغاية والمعنى ..بعد ان حولهم هذا الشيطان الى سوائم وهوائم.. وهاهوالأن يطلق عليهم صواريخ سكود.!!

عكس هذه الصفات هى المعرفة والشجاعة والكرامة..وهى ركائز الحياة الحرة الكريمه فى المجتمعات التى لها (غاية)..تذكروا دائما فكرة (الغاية)هذه وانتم تتلون كتاب الله فى هذه الايام الفضيلة .وستذكرون انه يستحيل وجود (استبداد كواكبى) فى مجتمع موصول بهذا الكتاب الكريم .والذى سجله التاريخ الاسلامى فى بعض فتراته رغم ما به من مفاخر إلا أنه كان عارا يخالف هذه (الغاية).

تمنيت أيضا أن كان جمال حمدان بيننا ليرى كيف ثار المصريون على حاكمهم وعزلوه فى سابقة غير مسبوقة وهو الذى كان يصف الشخصية المصرية بانها شخصية تفرط فى المسالمة للحكام الطغاة ولا تثورعليهم ووصف ما سجلة تاريخ مصر على أنه ثورة بأنها (لم تزد عن كونها مجرد هبات وهوجات وتمردات عاجزة وفاشلة) وجمال حمدان صاحب نظرية مشهورة فى طبيعة المجتمعات النهرية التى تميل الى الدعة والخنوع ..لكن المصريين كتبوا فى تاريخهم المعاصر ما خالف هذه النظرية...ولو خير حمدان بين أن تخطأ نظريته وبين رؤية الحاكم المستبد الذى مات ميتته المجهولة فى عهده(17/4/93م) وهو قابع فى قفص المحكمة لأختار الثانية على الفور.

غير ان اهتمامى بجمال حمدان فى هذا السياق أكثر بنظرته للمحليات والريف فى المجتمع المصر فمما يرويه شقيقه الدكتورعبد الحميد صالح أنه كان يزوره في مكتبه بقسم الجغرافيا فقال له انهم وزعوا عليه وعلى زملاؤه فى الجامعةاستبيان فيه سؤال عن الوظيفة التي يرغب في شغلها والتي يستطيع من خلالها خدمة وطنه؟

فكانت اجابته هو: وزير الشؤن البلدية والقروية. ويكمل أخوه ولما اعربت له عن دهشتى لاختيار هذه الوزارة وبأن يكون وزيرا مرة واحدة قال له ان من يتولى هذه الوزارةيملك فى يدة نهضة مصر أو تخلفها ..وعدد له مزايا وفوائد هذه الوزارة ومهامها وان الشؤون البلدية هى البنية الاساسية التى بدونها لا تستقيم حياة الناس فى المدن وأن الشؤن القروية هى العمود الفقرى الذى بدونه ينقصم ظهر مصر.

وانا بدورى اهدى هذا الحوار الى كل الحالمين بنهضة مصر..اذ بالفعل نهضة مصر الحقيقية تبدأ من هنا من الـ1210 وحدة محلية ومن الـ 4673 قرية التى تشكل كما قال علامة الجغرافيا البشرية العمود الفقرى للوطن وبدونه ينقصم ظهر مصر . وأنا شخصيا ليس لدى تفسير لملىء المحليات باللصوص و الفاسدين واهمال الريف وافقاره وتخلفه على مدارالخمسين عاما الماضية الا لتحقيق هدفين يتفقا مع ما ذهب اليه الكواكبى فى وصف طبائع الاستبداد :الاول اتلاف وتكدير حياة الناس فى المدن والثانى قصم ظهر مصر .

أما وقد ذهب الاستبداد والاستعباد فقد أن لشخصية مصر أن تكون كما ينبغى لها ان تكون ..عظيمة قوية رائدة وإنها لكذلك إن شاء الله..(وما كان الله ليعجزه من شىء فى الأرض ولا فى السماء إنه كان عليما قديرا).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


Locations of Site Visitors
Powered By Blogger