دستور ياأسيادنا
عبد الحليم قنديل
2012-10-21
|
في
فولكور الحياة اليومية المصرية، كثيرا ما تسمع عبارة 'دستور يا أسيادنا'، والتي
تجري على الألسنة طلبا للأمان أو تعوذا من الشر، وتكاد لاتعرف بالضبط من هم
'أسيادنا' المشار إليهم في العبارة الدارجة، وهل هم من شياطين الإنس أم من عفاريت
الجن؟، أم أن الكلمة لفظة معتادة تعبر عن أدب الخشية والخوف من المجهول.
وبرغم مناقشات عنيفة تجري حول الدستور، وحول الجمعية التأسيسية المكلفة بإعداده، والتي قد يجري حلها بحكم قضائي أو لا يجري، برغم الصخب الدستوري في الأحزاب ووسائل الإعلام، إلا أن سواد المصريين لايكادون يعيرون اهتماما بالقصة كلها، ولو على طريقة 'دستور يا أسيادنا'، فوجــــع ســواد المصريين مختلف، واهتماماتهم وأولوياتهم بعيدة عن نصوص الدستور، ويكفي أن تلاحظ أن الشهور الأخيرة وحدها، شهدت أكثر من خمسة آلاف إضراب واعتصام ومظاهرة اجتماعية في مصر، وهو ما يوحي بتوجه اهتمام الكتلة الغالبة من المصريين إلى طلب العيش والكرامة والعدالة الإجتماعية، وقد لاتعني نصوص الدستور المقترحة لهم شيئا كثيرا، خاصة أن خبرة المصريين بالدساتير سلبية للغاية. ولا يبدو من عجب في تجاهل الكتلة الغالبة من المصريين لحكاية الدستور، صحيح أن الدساتير تطرح لإقرارها في النهاية على الاستفتاء الشعبي العام، لكن استفتاءات الدساتير عمل شكلي وصوري تماما، فالاستفتاءات ذات المغزى المؤثر تجري غالبا على نقطة واحدة، فما بالك بعشرات النقاط ـ ربما المئات ـ في أي نص دستوري مقترح، وهي تطـــرح جميعا للموافقة عليها كحزمة واحدة، ولا يتاح التمييز فيها بين مايستحق قول 'نعم' وما يستحق قول 'لا'، وهذا الإلزام 'المركب' هو ما يضعف من حجية الاستفتاء على الدساتير عموما، ويجعلها في صورة الإجراء الشكلي المتمم، ودون فاعلية تذكر، فقصة الدساتير تنتهي حين تصاغ في قراءة نهائية، وقبل أن تطرح على استفتاءات شكلية معلومة النتائج سلفا. وربما لذلك تبدو معركة النخب حول الدستور حامية، برغم اللامبالاة الظاهرة عند القواعد الشعبية الواسعة، وإن كانت بعض القوى تلجأ لافتعال اهتمام شعبي بمعركة الدستور، وعن طريق الاختصار المخل أو الإيحاءات الكاذبة، وتحويل القصة إلى جنة ونار، وبافتعال حرب هوية أو حرب شريعة، وعلى طريقة جماعات من السلفيين دعت إلى جمعة غضب من أجل تحكيم الشريعة، وإحلال كلمة 'أحكام' محل كلمة 'مبادئ' في نص المادة الثانية من الدستور المقترح، وهو ذاته النص الذي ورد في الدستور السابق، والذي يقول بوضوح أن 'الإسلام دين الدولة. واللغة العربية لغتها الرسمية. ومبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع'، وهو نص يحوز على الإجماع الوطني العام باستثناء جماعات من السلفيين الوهابيين. وبينما يحاول السلفيون إثارة اهتمام الرأي العام بالدستور من باب الشريعة، فإن القوى الوطنية والديمقراطية المعارضة تثير الاهتمام بالدستور من زوايا أخرى، فهي توافق على نص الشريعة السابق ذكره، لكنها تعترض على عملية إعداد الدستور الجارية برمتها، تعترض على التشكيل الحالي للجمعية التأسيسية، وترى فيها غلبة غير مبررة لعناصر الإخوان والسلفيين، وتعتبر أن ما يجري عملية 'اختطاف للدستور'، وليس إعدادا للدستور، فالدساتير ليست صناعة الأغلبيات، بل صناعة التوافق الوطني العام، والدساتير تكتب لتصبح في صورة القوانين الدائمة، وليس في صورة نصوص موقوتة تغيرها الأغلبيات البرلمانية كلما تغيرت هي الأخرى، ولا تنتظر القوى الوطنية والديمقراطية، ولا تعول على حكاية الاستفتاء، فهي تدرك صورية الاستفتاء، ولا مبالاة القواعد الشعبية الواسعة، وترجيح أن يقال 'نعم' ـ بصورة آلية ـ لأي نص يعرض على الاستفتاء العام. وقد يكون من الرشد أن تراجع العملية كلها، وأن يعاد تشكيل الجمعية التأسيسية، وعلى نحو يوازن بالتساوي بين التيارات الفكرية والسياسية الأربعة الليبرالية والإسلامية والقومية واليسارية، وأن يكفل فيها التنوع ومعايير الكفاءة، ومقابل الجمعية الحالية المفتقرة للحدود الدنيا من التوازن والتنوع والكفاءة، وإلى حد أن عددا لابأس به من أعضائها يشبهون خريجي مدارس محو الأمية، لكن إعادة التشكيل المرجوة قد لا تأتي أبدا، فالرئيس الحالي المنتخب إبن مطيع لجماعة الإخوان، وأغلبية الإخوان والسلفيين في البرلمان المنحل هي التى شكلت الجمعية التأسيسية الموصومة بعوارها، وهو ما قد يعني أن المتاح قليل، وأن المسودات الأولى البائسة قد تجري عليها تحسينات طفيفة، وأن الدستور الذي سيصار إليه مجرد نص موقوت ومحكوم بالتوازنات السياسية الحالية، وعرضة للتغيير في نصوصه مع انقلاب الموازين البرلمانية والرئاسية. وربما يكون غياب التوازن هو مربط الفرس في القصة كلها، فقد أدى حظر السياسة طويلا إلى تشوه عظيم في خرائط القوى، وقد ورثت مصر خللا فادحا في الموازين، وكثمرة مرة لانحطاط تاريخي طويل دام أربعة عقود، كانت مصر ـ بعد حرب 1973 ـ رأسا برأس مع كوريا الجنوبية في معدلات التقدم والتنمية والاختراق التكنولوجي، وصارت ـ بعد أربعين سنة ـ رأسا برأس مع بوركينا فاسو على مؤشر الفساد الدولي، ومع الانهيار العظيم، وتجريف الزراعة والصناعة والثقافة والسياسة، انتهى المجتمع المصري إلى وضع الغبار البشري، وسادت ـ إلى وقت الثورة الأخيرة ـ مشاعر البؤس واليأس، وقد خاطبت التيارات الدينية بؤس المجتمع كجمعية خيرية، وخاطبت يأسه كجمعية دينية، وهو ما أدى لتضخم اليمين الديني، ووجدت إلى جواره شرائح ليمين ليبرالي مشوه معبر عن صعود جماعة مليارديرات النهب العام، وتوزع اليمين الليبرالي المشوه على لجنة سياسات النظام السابق، وأحزاب انتحلت صفة المعارضة، والنتيجة: خلل فادح في موازين السياسة، فثمة يمين فائض، ويسار غائض، وقوى اليمين الديني والليبرالي هي التي تكتب الدستور الآن، بينما تبدو قوى اليسار الإسلامية والليبرالية الاجتماعية والقومية الناصرية واليسارية في حال الإقصاء، ولسبب جوهري بسيط، هو أنها لاتزال في حال التخلق والتحالف والاجتماع، وكلها تقريبا ظهرت في صورة أحزاب جديدة ولدت بعد الثورة، وبعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة بالذات، ومن نوع حزب 'مصر القوية' الذي يقوده الإسلامي عبد المنعم أبو الفتوح، و 'التيار الشعبي' الملتف حول الناصري حمدين صباحي، و'حزب الدستور' بقيادة محمد البرادعي، إضافة لأحزاب 'الكرامة' و'التحالف الشعبي الاشتراكي' و'المصري الديمقراطي الاجتماعي ' التي ولدت بعد الثورة، ولو وحدت هذه الجماعات صفوفها، وكسبت قواعد شعبية حقيقية، فقد تستطيع إحداث التوازن الضروري في خرائط السياسة المصرية، وصياغة دستور يجتذب إليه الاهتمام الشعبي المفقود. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق