المهني والسياسي

الكاتب

حسن حنفي

Wed, 17/10/2012 - 21:03

تتكرر كثيرا العلاقة بين المهنى والسياسى على فترات متفاوتة منذ بداية الثورة المصرية فى 1952 كلما وقعت أزمة أو حلت هزيمة بالسياسى وضاق الناس لغياب المهنى فى حياتهم اليومية أى المتخصص فى حل المشاكل المباشرة التى يعانى منها المواطن والتى لا تحتاج إلى خطاب السياسى ووعوده. ويوضع الناس فى حيرة أمام هذا الاختيار، وكأن سبب الشقاء فيه واحد، تغليب السياسى على المهنى، وسبب الخلاص فى قلب العلاقة وتغليب المهنى على السياسى. وتتغير الأسماء والقضية واحدة. كان اسمها أهل الخبرة وأهل الثقة قبل هزيمة يونيو 1967، وأن سبب الهزيمة هو إعطاء الأولوية لأهل الثقة على أهل الخبرة. وبالتالى فإن طريق النصر هو إعطاء الأولوية لأهل الخبرة على أهل الثقة.

فالجيش جيش، والسلاح سلاح، والمعركة معركة لا شأن لها بالقرب أو البعد من النظام السياسى، بالولاء أو عدم الولاء له. وبعد الهزيمة أصبح اسمها «التكنولوجيا والأيديولوجيا»، وأن إعطاء الأولوية للأيديولوجيا على التكنولوجيا هو سبب الهزيمة. فالمعركة العسكرية فى حاجة إلى كيفية التعامل مع السلاح، وليس إلى نوع الأيديولوجيات التى يؤمن بها الجنود. والطريق إلى النصر هو العكس، إعطاء الأولوية للتكنولوجيا على الأيديولوجيا.

وقد عادت القضية مرة ثانية بعد ثورة يناير 2011، وتعثر مسارها، وتغيير حكوماتها المستمر. والحل هو تكوين حكومة تكنوقراط وليس إخوان أى من المهنيين ذوى الخبرة وليسوا من السياسيين أصحاب العقائد والتيارات الإسلامية أو العلمانية، ليبرالية أو ناصرية أو قومية أو يسارية أو شيوعية. وتكونت الحكومة المطلوبة لا لون لها ولا طعم ولا رائحة. لم يسمع عنها أحد ولا عن رئيس وزرائها الكثير.

وهى ثنائية مزيفة. فلا وجود للمهنى دون أن يكون سياسيا صاحب رؤية، ولا للسياسى دون أن يكون مهنيا صاحب خبرة مثل الثنائيات التى قضت على وحدتنا الوطنية مثل: إسلامى وعلمانى، دينى ومدنى، آخرة ودنيا، نفس وبدن، دين ودولة، دين وسياسة. يتعارض طرفاها بمنطق «إما... أو»، ولا سبيل إلى الجمع بينهما. فى حين يستحيل المهنى دون السياسى وإلا تحول إلى عامل لإصلاح الطرق أو مهندس لمد خطوط الكهرباء أو خطوط السكك الحديدية. وهو ما يقوم به أى خبير وطنى أو أجنبى. فلا يتم ذلك دون تخطيط شامل ورؤية للتنمية. والخبرة الأجنبية أكثر مهارة من الخبرة الوطنية. والحقيقة أن المقصود من ذلك هو تجنب الخبير الوطنى لأنه قد يكون مسيسا ومعارضا للنظام. فيتغلغل فى جهاز الدولة شيئا فشيئا. فينفصل السياسى الحاكم عن المهنى المحكوم الذى قد يصبح حاكما عندما تمتد خبرته إلى النظام السياسى نفسه.

كما يستحيل السياسى دون المهنى وإلا تحول إلى خطابة جوفاء ووعود رنانة لا يتحقق منها شىء. فإذا تحقق شىء فإنه يتم ارتجالا دون تخطيط من أجل أغراض إعلامية دعائية عن حسن رعاية النظام لمصالح الناس. ويتم تقريب السياسى المضمون ولاؤه خوفا من المهنى المعارض. إن العلاقة بين المهنى والسياسى مثل العلاقة بين البدن والنفس. فالمهنى دون السياسى كالبدن دون النفس، جثة هامدة لا تتحرك، آلة صماء. والسياسى دون المهنى نفس بلا بدن، طائرة فى الهواء، لا مستقر لها، لا زمان ولا مكان.

ولقد تمت المشاريع الكبرى فى تاريخ مصر الحديث باجتماع المهنى والسياسى. فبناء مصر الحديثة منذ محمد على إنما كان بناء على مشروع سياسى، نهضة مصر، وخلافتها للدولة العثمانية، ووقوفها أمام استعمار الدول الغربية. وبناء مصر عمرانيا فى عصر إسماعيل: تخطيط القاهرة، شوارعها وميادينها وحدائقها - إنما كان بناء على رؤية حضارية، وتحديث مصر، وأن تكون قطعة من أوروبا. وكل الشركات التى أقامها طلعت حرب لم تكن إجراءات مهنية خالصة بل قامت على رؤية لاقتصاد مصر الوطنى تجسيدا لروح ثورة 1919. وكل ما قامت به ثورة يوليو 1952 من تأميم القناة فى 1956، وتمصير للشركات الأجنبية فى 1957، والإصلاح الزراعى الأول فى 1952 والثانى فى 1961، وبناء السد العالى فى 1960، وبناء القطاع العام من أجل سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج، وتثبيت حقوق العمال، وتذويب الفوارق بين الطبقات إنما كان تحقيقا لرؤية استقلال مصر الوطنى وتنميتها، وتحقيق العدالة الاجتماعية. بل إن سياسة مصر الإقليمية والدولية إنما كانت تحقيقا لسياسة الاستقلال الوطنى ومجابهة الاستعمار.

قد يقع المهنى دون السياسى فى تملق حاجات الناس، و«الشو» الإعلامى كلما شق طريقا أو مد جسرا أو أقام صرفا صحيا أو ماسورة مياه نقية للشرب. فتتحول المهنة إلى سياسة غير مباشرة. فيتصور الناس أن تحقيق الخدمات هو السياسة، وأن قصر النظر والسياسة المباشرة يغنيان عن طول النظر والرؤية غير المباشرة. ويكون قضاء حاجات الناس أشبه بالحقن المسكنة التى تزيل الآلام الوقتية، ولكنها لا تقضى على علل الأمراض، فتكثر الإضرابات، وتتعطل المصالح لأنه لا توجد سياسة عامة شاملة تقضى على جذور المشكلة.

وقد يمل المواطن من السياسى دون المهنى. ويصم الآذان تجاه الخطاب السياسى الملىء بالوعود بأن الفرج قريب، وبأن عبور عنق الزجاجة قد أوشك على الاكتمال. والمطلوب من المواطن الإيمان والصبر «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ». يسأم المواطنون الكلام. ويطالبون بالفعل وليس بالقول. ويشتد الصراع بين الإسلاميين والليبراليين على أمور نظرية صرفة، ومبادئ عامة، وشعارات رنانة، والمجارى طافحة، والصرف الصحى مختلط بمياه الشرب، وملايين مازالت تسكن فى العشوائيات، قبل الثورة وبعدها، فى عصر الثورة وفى عصر الثورة المضادة، وفى عصر الفساد الشامل ونهب المال العام. وحتى لو نشأ ائتلاف وطنى بين القوى الحزبية العلمانية فى مواجهة التيار الإسلامى فإن ذلك بهدف السباق على السلطة وليس من أجل تغيير أحوال الناس أو على الأقل وضع برنامج عملى مشترك للتطبيق بصرف النظر عن الأطر النظرية لإعطاء الأولوية للعمل على النظر «يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ».

والتجارب السابقة كثيرة فى الصين والهند وماليزيا وإندونيسيا وإيران وتركيا، الدول الإسلامية حول الطوق العربى. وهى لا ترتبط بدين معين بل بإرادة شعب ومشروع نهضة. لذلك تمت التجربة أيضا فى أمريكا اللاتينية، خاصة البرازيل. والسؤال: أين الإبداع العربى بعد الإسلامى، وقد حمل العرب العلم أولا إلى آسيا وأوروبا وأفريقيا حتى لقد قال أحد القادة المسلمين الأفارقة «لقد حمل العرب الإسلام أولا، وبغيرهم ينتصر». وكما كان التاريخ مفتوحا فى الماضى فإنه مفتوح أيضا فى المستقبل. التحدى هو الوعى بالتاريخ والثقة بالدور فيه.