الثلاثاء، 17 مايو 2011

هوَ قرار من سطرين

صلاح الإمام
الخميس 5 مايو 2011

قبيل أيام من اغتيال الدكتور فرج فودة الذى وقع فى 8 يناير 1992، كنت أجلس مع صديقين، أحدهما محامى كبير، والآخر كان عضوا بمجلس الشعب، والإثنان توفاهما الله، قلت لهما خلال حديثى: هل قرأتما آخر مقال لفرج فودة فى مجلة أكتوبر؟ وقبل أن أسمع إجابة استرسلت قائلا: "الراجل ده مش ها يعيش .. ها يتقتل ها يتقتل"، وبعد ثلاثة أيام تم اغتياله، فقال لى أحدهما فى أول لقاء جمعنى به بعد الحادث بشىء من المزاح الممزوج بالذهول والدهشة: انت اللى قتلته يا صلاح، أنا هبلغ عنك، وكان مذهولا جدا من ملابسات الموقف، ويسألنى وكأننى كنت شريكا للجناة: كيف عرفت أنه سيقتل؟، والحقيقة أنا لم أقل ما قلته لأننى عرَاف، أو منجم، أو أعرف القاتل وما قد عزم عليه، أو وصلتنى أى معلومات بذلك، لكنى توقعت ذلك تأسيسا على معطيات تلك الأيام التى كانت جماعات العنف تصول وتجول فى مصر، ترتكب جرائمها ضد أهداف مختارة وفقا لمنهج هؤلاء، وكان فودة قد وصل بكتاباته حدا فاجرا فى التهكم من الدين وكل رموزه، وفى مقاله الأخير كان يسخر بشدة من الرموز الإسلامية بتونس، وألصق بهم تهما كاذبة نقلا عن إعلام زين الفاسدين بن على الكاذب، الذى أذل المسلمين فى بلاده، وعليه رأيت أن فودة سيكون هدفا حالا لعملية اغتيال مؤكدة، وهو ما حدث يوم 8 يونيو 1992.

قبيل اندلاع ثورة 25 يناير بأسبوع، ولم يكن أحد يتخيل أن يحدث كل ماحدث، كنت أجلس مع صديقى العزيز الأستاذ رامى ابراهيم مدير مكتب جريدة "الجريدة" الكويتية بالقاهرة، وكنا نتكلم سويا فى أحوال مصر بعد هروب الطاغية التونسى زين العابدين بن على، فاندهش رامى ابراهيم مما قلته له وأبدى تعجبه بل واستنكاره، لقد أسررت إليه بأمر قد فعلته، قلت له أننى اشتريت سلعا تموينية كثيرة كمخزون لحاجات بيتى تكفيه سنة، من الأرز والمكرونة والبقوليات والحبوب والسمن والزيت والسكر والشاى ...إلخ، والشىء الوحيد الذى عجزت عن تخزين كميات منه هو الخبز لصعوبة ذلك، وكذا البنزين لصوبة وخطورة تخزينه فى المنزل.

سألنى رامى عن علة ذلك، فأكدت له أن البلد مقبلة على طوفان سوف يقلب كل شىء فيها، وفى مثل هذه الظروف تختفى السلع التموينية، وتنشأ السوق السوداء، وقد تحدث مجاعة، وكان تعليقه: "مش لدرجة المجاعة .. ها نلاقى أكلنا"، لكنى قلت له مؤكدا أن الأيام بيننا وسيرى ذلك قريبا جدا جدا، وهو ما قد حدث بالفعل بدءً من يوم 29 يناير، إذ نفذت كل السلع التموينية من الأسواق بالقاهرة، وأصبح الحصول على لبن العصفور أيسر من الحصول على رغيف خبز، وأغلقت محطات البنزين أبوابها لعدم وجود أى نوع من الوقود.

وفى يوم الخميس 20 يناير 2011، نشرت هنا فى المصريون مقالا بعنوان: "احذروا غضبة الفقراء والمقهورين"، والمقال متاح لكل من يريد إعادة قراءته، قلت فى مقدمته:

"الحرية لا تمنح بل تنتزع، والحرية كل لا يتجزأ، والثابت تاريخيا أن شجرة الحرية لا تروى إلا بالدماء، وعندما تئن البطون تغيب العقول، وإن تعض قلبى فلا تعض رغيفى، ومع ذلك فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.

غضبة الفقراء ليس كمثلها غضبة، هى لحظة من الزمن تأتى كالحلم، يخطفها الغاضبون، ويشعلها الأحياء الأموات، فالجائع المتعطل الذى لا يجد مأوى هو أقرب للميت منه للحى، حتى إذا ما جاءت تلك اللحظة، يلقى بنفسه فى أتونها، ليحسم وجوده، فإما أن يحيا، وإما أن يموت بحق فيرتاح من ذل الحاجة والهوان".

ثم عرضت فى مقالى مختصرا لما حدث فى أوربا خلال القرن التاسع عشر، حتى حصلت تلك الشعوب على حريتها بأيديها، وبدماء أبنائها، وهى التى كانت تعانى قهرا أشد مما تعانيه شعوب المنطقة العربية حاليا، وفى نهاية ذلك المقال قلت: "الأيام القادمة مغلفة بدخان الغضب، فليت من عليه العين "يفهم" قبل فوات الأوان".

وفى يوم الأحد 23 يناير، أرسلت لكثير من أصدقائى برسالة عبر الهاتف المحمول ـ مازالت على جهازى بذات التاريخ ـ لها دلالات خاصة، ومن الذين أرسلتها إليهم الصديق الكاتب القدير الأستاذ محمود سلطان رئيس تحرير هذه الصحيفة، وكانت الرسالة تقول: "علمت من مصادر موثوقة أن هناك كميات من الذهب والأموال يتم تهريبها عبر المطارات والموانىء، والبورصة فى النازل، والانفجار بات وشيكا".

لم أقل ذلك تأسيسا على الدعوة التى أطلقها شبابنا الرائع على الفيس بوك، للتظاهر يوم 25 يناير، فهى لم تكن أول دعوة من هذا النوع، بل سبقتها عشرات ومئات الدعوات، وآلاف التظاهرات، وكان كل المراقبين للمشهد السياسى المصرى وقتها ظنوا أنها مجرد مظاهرة تضاف لمئات قبلها، وكذا اعتقدت الطغمة الحاكمة فى مصر، فناموا قريرى العين مرتاحى البال، يسخرون من عبث هؤلاء الصبية، فإذا بهذا العبث يتحول على غير كل التوقعات إلى بركان زلزل نظاما عتيا وأسقطه، فكان كالجبل الذى صار دكا فى لمح البصر، وهى فى النهاية كانت إرادة الله عندما حلت مشيئته.

أذكر ما ذكرته لا لادعاء قدرة خاصة على قراءة الغيب، فإن ادعيت ذلك أكون خارجا عن الملة، لكن لأن القادم يولد من الحالى، مثلما ولد الحالى من السابق، وبنفس هذه القدرة على قراءة أحداث الغد من خلال تحليل معطيات اليوم، أقول أن مصر مقبلة على اندلاع حوادث طائفية قد تتسع لتشمل كل مصر، وقد تتطور لتكون حربا أهلية مسلحة، تعود بمصر لعدة قرون للخلف، وإليكم حيثيات ما أزعم أنه قد بات وشيكا.

إن رأس الفتنة فى مصر، والكل يعرفه، والذى تعامل معه المرحوم السادات بما يستحق، لن يهدأ له جفن حتى يرى مصر رمادا تذروه الرياح، فهو رجل واحد، لكن أعظم كوارث التاريخ كان وراءها رجلا واحدا، منذ النمرود وفرعون، ونيرون وجنكيز خان، حتى هتلر وموسولينى، ثم صدام حسين.

مازال الرجل يتحدى سلطة الدولة، ولا يعيرها أى اهتمام، مازال يحتجز النساء فى سجونه السرية بالأديرة المحصنة، مازال يسكب الزيت فى كل أركان مصر، تحسبا لاندلاع الشرارة المحدد وقتها ومكانها ومناسبتها، فتشتعل مصر كلها، ويصور له شيطانه أنه سيجلس مثلما جلس نيرون فى شرفة قصره، يراقب النار وهو يرتعد فرحا وسعادة .. وجنونا.

إن رأس الفتنة ومهندسها، ومزودها بالوقود، وداعمها وممولها، ينسى أن النار ستبدأ من تحت أقدامه ومن فوق راسه، ولن يمهله القدر لكى يسعد لمدة فيمتو ثانية بمشهد مصر وهى تحترق، هو وحاشيته الفاسدة، ينسى أنه لو حدث لمصر أى ضرر من خلال عقوبات دولية، سيتم نسفه هو ومن والاه، ومن أشعل قضيته المزعومة فى وسائل الإعلام، وهم معروفون على سبيل الحصر.

كانت تداعيات حادث كنيسة صول بأطفيح غريبة جدا، ورغم وجود مبررات مقنعة جدا لدى مسلمى قرية صول دفعتهم لفعل ما قد حدث، إلا أننا استنكرنا جميعا ما قد أقدموا عليه، وهو هدم أجزاء من الكنيسة، ولم نشغل أنفسنا بالحديث عن الدوافع، بل استنكرت كل الرموز الإسلامية، وكل رموز الدولة الحادث، وأعلنت القوات المسلحة أنا ستعيد بناء الكنيسة بأفضل مما كانت عليه، خلال وقت قياسى ـ وهو ما قد حدث بالفعل ـ لكن رد الفعل المسيحى كان مثيرا للعجب والدهشة، وكان مستفزا لأقصى درجة، فقد قاموا بالاعتصام فى منطقة حيوية بالقاهرة، أمام مبنى التليفزيون، وقطعوا طريق الكورنيش الذى يربط القاهرة بجميع محافظات الوجه البحرى، ورفعوا لافتات وشعارات ورسومات مستفزة جدا جدا، وكان هذا هو الهدف الأساسى من ذلك التجمع أمام مبنى التليفزيون، وهو استفزاز الأغلبية المسلمة، لحدوث صدام هو قادم قادم.

ذهبت أكثر من مرة وتغلغلت بين هؤلاء، لم أجد فيهم ولو شخصا واحدا متعلما ومؤهلا لأن تدير معه حوارا، كانوا مجموعة من الفقراء الذين لا يعرفون حتى اسم المنطقة المتواجدين فيها، تسألهم ماذا يريدون يقولون عايزين تعديل المادة الثانية من الدستور (!!!)، تسألهم المادة الثانية بتقول ايه فيتلعثمون، لا تخطىء الأذن لهجاتهم الصعيدية والبدائية، جىء بهم إلى مكان الإعتصام فى حافلات خاصة من مناطق الزرائب فى منشية ناصر وأرض اللواء، وغالبيتهم كان من خارج القاهرة ويراها لأول مرة فى حياته، ومع ذلك كانوا يرددون شعارات وهتافات بعيدة عن موضوع القضية التى من المفروض أنهم اعتصموا بسببها، بل كانوا لا يعرفون مضمون ما يرددونه.

كان مهندسو القوات المسلحة ورجالها يعملون فى إصلاح ماتم هدمه بالكنيسة، لكن هؤلاء مصممون على البقاء فى أماكنهم، تأتيهم وجبات طعام ومشروبات ونقود، رغم مناظرهم الرثة، واستمروا قرابة ثلاثة أسابيع قاطعين طريق الكورنيش، محولين المنطقة إلى زريبة كتلك التى يعيش فيها الخنازير، وتنبعث منها روائح عفنة، حتى تقرر إخلاء المنطقة بكثير من الإلحاح وقليل من التلويح باستخدام القوة.

كان الظرف الذى خرج فيه هؤلاء حرجا للغاية، ولو كان ثمة مسئولية وطنية لدى رأس الفتنة فى مصر، لكان أصدر توجيهاته فورا بوقف هذا العبث النارى، مقدما مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، لكنه كان هو نفسه الذى يخطط ويعطى التعليمات بالاستمرار فى الضغط لإحراج المجلس العسكرى أمام العالم رغم بعده المثير لكل التكهنات عن مصر وقتها، وكأنه كان يعطى رسالة للعالم بأن مبارك كان هو صمام الأمن والإستقرار فى مصر، أليس هو الذى ظل حتى آخر ثانية يعلن صراحة تاييده لمبارك ونظامه الفاسد، لذا أراد أن يؤكد للعالم أن رحيله سوف يجلب لمصر الفوضى، وسوف تهب الأغلبية المسلمة لقتل الأقلية المسيحية، وتدمير وإحراق كنائسهم وممتلكاتهم.

كان تفكير الرجل شيطانيا، فحدوث هذا الحدث فى ذلك التوقيت الحرج، ربما يوحى للعالم الخارجى صدق ما كان يريد الرجل بثه لهم، ماحدث كان مجرد حادث فردي يعبر عن قصد مرتكبيه فقط، وربما هناك مبررات قوية دفعت من ارتكبوه لذلك، لكن الرجل بتفكيره الشيطانى لم يضيع الفرصة، واستغلها كورقة ضغط، وحقق من خلالها مكاسب كثيرة، أبرزها الإفراج عن أحد القساوسة المدان فى جناية تزوير.

لقد قرر رئيس الحكومة الإفراج عن ذلك القس الذى كان مسجونا بتهمة تزوير، ويقضى عقوبة مقيدة للحرية مدتها خمس سنوات، لكنه فشل فى الإفراج عن سجينات الأديرة، ثم ذهب رئيس الحكومة إلى رأس الفتنة يستعطفه أن يفرج عمن يحتجزهم فى سجونه، لكنه رفض طلبه، وبعدها زاره وفد من المجلس العسكرى الحاكم لنفس الطلب، لكى يجنب البلاد نيران حرب أهلية، فلم يستجب.

إن احتجاز مواطن وتقييد حريته، حتى لو كان محبوسا فى قصر، جريمة طبقا لقانون العقوبات المصرى، الذى أفرد الباب الخامس من الكتاب الثالث، لهذه الجرائم، بدءً من المادة 280 حتى المادة 293، وخصت المادة 290 جريمة خطف الأنثى، وتصل عقوبتها للإعدام شنقا.

إن ضابط الشرطة ـ وهو من رجال الضبطية القضائية ـ مهما كانت رتبته، ومهما كان مركزه، ليس من حقه احتجاز إنسان ولو ساعات، ولو فعل هذا يتعرض للمساءلة، لأن ذلك من اختصاص السلطات القضائية فقط، فما بالنا بشخص ليست له أدنى سلطة من أى نوع تبيح له خطف النساء وحبسهن، وتعذيبهن، وإكراههن على أفعال بدون رضائهن؟.

هل لو قام إمام مسجد ـ مع الفارق الشديد جدا جدا فى التشبيه طبعا ـ بخطف مسلم تنصر، وحبسه فى المسجد، ثم أخفاه وعزله عن العالم كله، يكون فعله مقبولا؟؟، وإذا فعل إمام مسجد ذلك، هل ستتغاضى الدولة عن هذه الفعلة؟ وهل يكون من العدل أن نحاكمه ونترك شخص آخر خطف العشرات بل المئات وحبسهن، وعزلهن عن العالم، ولا يسمح لأى مسئول فى الدولة بمساءلته؟ .. إن من يفعل ذلك ـ بصرف النظر عن كونه إرهابيا ـ ليس له سوى هدف واحد، وهو استفزاز الأغلبية الساحقة للشعب، ليشعل النار التى مازال يحلم برؤيتها قبل أن ينتقل إلى ما يسمى بالأمجاد السماوية.

هناك سبق إصرار، على إشعال حرب أهلية فى مصر، وطبقا لتوقعاتى التى دائما تصيب ـ وأتمنى أن تخيب هذه المرة ـ فإننا أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من تلك الكارثة، إذا لم يحترم رأس الكنيسة قانون البلد، ويخضع لسلطة الدولة، ويترك الدولة تمارس سلطاتها فى تفتيش الأديرة، ومراجعة ميزانيات المؤسسات الكنسية، والأهم تحرير النسوة المخطوفات.

إن مئات الأديرة المنتشرة على أرض مصر شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، هى مؤسسات خاضعة لسلطة الدولة، وللدولة عليها كامل السلطان، بمعنى أن رجال السلطة من حقهم دخولها فى أى وقت، وتفتيشها، وتسجيل كل ما بداخلها من أفراد وعتاد، وكشف ما بداخلها من سراديب وأنفاق، ومن أسلحة ومتفجرات، وحينما تعجز سلطات الدولة عن ذلك، فهى دعوة صريحة لا ندلاع حرب أهلية، سيكون الخاسر الأكبر فيها رأس الفتنة ذاته
كان تعامل السادات مع رأس الفتنة مثلا يحتذى، وسابقة تفرض الأوضاع الراهنة إعادة تطبيقها، وسوف نعيد فتح هذا الملف من جديد خلال المقالات القادمة، إذا كتب الله لنا فى العمر زيادة، لكنى سأذكر واقعة واحدة فقط، حدثت فى سبتمبر عام 1977، حيث نشرت بعض الصحف أخبارا عن مشروع قانون يعد بتطبيق الشريعة الإسلامية .. على اثرها أعلى سلطة دينية في الكنيسة الصوم والصلاة فى جميع الكنائس، وإعلان الرفض حتى تلغى الحكومة هذا المشروع.

قام ممدوح سالم رئيس وزراء مصر وقتها بزيارته، وأكد له أن ما نشر لا يعبر عن رأى الحكومة، لكنه أوعز للأقباط المقيمين فى أمريكا بالتظاهر والإحتجاج، والقيام بمظاهرة أمام البيت الأبيض، أثناء لقاء كان قد أعلن عنه بين الرئيس الأمريكى جيمى كارتر، والسيد اسماعيل فهمى وزير الخارجية المصرى حينذاك، فماذا كان رد فعل الرئيس أنور السادات؟

اتصل السادات بالكاتب موسى صبرى، وقال له بما يشبه الأمر: "أبلغ شنوده بأى طريق تشاءه .. إذا لم يرجع عن مثل هذه التصرفات .. فإننى سأصدر قرارا فوريا من سطرين .. بإلغاء القرار الجمهورى بتعيينه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


Locations of Site Visitors
Powered By Blogger