جملة اعتراضية بقلم: د.علاء الأسواني ــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
كيف نصنع الديكتاتور ..؟!
"منذ أدائه اليمين الدستورية فى 30 يونيو الماضي، لم يقم الرئيس مرسى بأى أجازات خاصة يقضيها مع أسرته ...
حتى أيام العطلات الرسمية ، كان الرئيس مرسى يقضيها داخل القصر الجمهوري من أجل ادارة شئون البلاد وإجراء المقابلات الرسمية مع الضيوف والمسئولين..
أخيرا ، استطاع الرئيس مرسى الحصول على أجازة 48 ساعة قضى خلالها أول وثانى أيام عيد الفطر مع أسرته بمدينة برج العرب، بعيدا عن مسئوليات العمل الرسمية، ورغم ذلك لم يستطع الإفلات من 22 اتصالا هاتفيا مع زعماء دول عربية وغربية للتشاور حول الأوضاع الإقليمية والدولية .."،
كان هذا نص الخبر الذى تصدر الصفحة الأولى في جريدة الاهرام والهدف واضح .. فكل من يقرأ الخبر لابد أن يقول لنفسه : " مسكين هذا الرئيس ..ان المهام الثقيلة التى يؤديها لاتترك له الفرصة لكي يستمتع بأجازة ولو يوما واحدا مع أسرته ".
مع أن الحقيقة أن الرئيس مرسي لم يمض في منصبه سوى أسابيع قليلة وهي فترة لايحتاج المرء بعدها عادة الى أية أجازة كما أن الرئيس لا يمسك التليفون بيده ليجرى اتصالاته الدولية وانما لديه معاونون كثيرون سيطلبون له الأرقام وما عليه بعد ذلك الا أن يتكلم قليلا وهو مستلق في فراشه أو جالس على مقعد مريح ...
هذه الأخبار الكاذبة المليئة بالنفاق تتكرر الآن في اطار عملية تصنيع الديكتاتور التى تحدث للأسباب التالية :
أولا : ماكينة الاستبداد
ــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ
ورث الرئيس مرسي نظام مبارك بالكامل : أجهزة قمع على استعداد للتعذيب والاعتقال والقتل واعلام فاسد كاذب يعتمد على الولاء للنظام بغض النظر عن الكفاءة وأجهزة حكومية تعودت أن تنفذ تعليمات الرئيس مهما كانت وتتغنى بحكمته .
كان المتوقع من أول رئيس منتخب بعد الثورة أن يؤسس لديمقراطية حقيقية لكنه للأسف حافظ على ماكينة الاستبداد التى ورثها عن مبارك وبدأ يوجهها لمصلحته .
فبدلا من رؤساء تحرير الصحف القومية الذين طالما نافقوا مبارك عين مجلس الشوري (عن طريق مسابقة غامضة ) رؤساء تحرير يدينون بمناصبهم الى الاخوان المسلمين وبدلا من وزير اعلام برتبة لواء يمنع نقد المجلس العسكري جاء وزير اعلام اخواني ليمنع المسلسلات التى تنتقد الاخوان ..
وبدلا من تعيين محافظين موالين لمبارك تم تعيين محافظين موالين للاخوان المسلمين وبدلا من قانون الطواريء الذى ارتكب مبارك في ظله جرائم بشعة ضد المصريين يتم الاعداد الآن لقانون طواريء جديد لخدمة الرئيس مرسي .وقد عرفت من مصادر موثوقة أن كبار الضباط في جهاز أمن الدولة يتوددون الآن لقيادات الاخوان المسلمين ،
يعتذرون عن الجرائم التى ارتكبوها في حقهم أيام مبارك ويعرضون عليهم خدماتهم . ان أجهزة الأمن التى لم تتغير بعد الثورة قد تتحول في أية لحظة الى اداة قمع في يد الرئيس والاخوان المسلمين .
ثانيا : الضعف الانساني
ــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــ
مهما كان الانسان متواضعا فانه اذا تولى السلطة غالبا ما يكون ضعيفا أمام النفاق وشيئا فشيئا سوف يصدق كلمات المديح ويعتبر أنه يستحقها عن جدارة . في كتابه الرائع " ماذا حدث للثورة المصرية ؟ " يحكى المفكر الكبير جلال أمين تجربته عندما كان أستاذا في الجامعة الأمريكية ، ففي الأيام التى يلقى فيها محاضراته كان الطلاب يتوافدون على مكتبه ليسألوه أو ويطلبوا منه أشياء تتعلق بالدراسة وبعد أن يقضى لهم طلباتهم كان هؤلاء الطلاب كثيرا ما يشكرونه بطريقة زائدة أو يمدحونه بافراط وهنا يقول الدكتور جلال أمين :
" لاحظت اننى في مثل هذه المواقف تعتريني لبعض الوقت درجة لايستهان بها من الاعجاب بالنفس والغرور اذ أصدق ما قيل عنى واعتبره صادقا لمجرد أننى احب ان يكون كذلك .."
هذه الدرجة العالية من مراقبة النفس ومقاومة الغرور التى يتمتع بها الدكتور جلال أمين لا تتوفر عند معظم الناس .
لقد رأينا كيف ذهب الرئيس مرسي في زيارة عادية الى الصين ليبحث وسائل التعاون معها . فاذا بوسائل الاعلام تصور زيارته على أنها فتح مبين ويتبارى أساتذة العلوم السياسية في شرح الفوائد الكبرى التى ستعم على البلاد والعباد من زيارة مرسي التاريخية للصين .
وقد ظهرت فجأة جمعية مجهولة تسمي نفسها منظمة السلام العالمي وأعلنت أنها قررت منح الرئيس محمد مرسي جائزة السلام العالمي لعام 2012 ونحن نتساءل : لماذا لا تنتظر هذه المنظمة حتى نهاية العام حتى تتأكد من جدارة الرئيس مرسي بالجائزة بل وماذا فعل الرئيس مرسي أصلا ليستحق أية جائزة وقد فشل حتى الآن في تقديم أى حل لمشكلات مصر المعقدة المزمنة ؟!.
ان تصنيع الديكتاتور يجري على قدم وساق وقد بدت على الرئيس مرسي للأسف علامات الاستجابة للنفاق فرأيناه يطلب قرضا كبيرا من صندوق النقد الدولي بدون أن يستشير المصريين الذين سيدفعون من أموالهم قيمة القرض وفوائده وبينما تتقاعس الشرطة عن حماية المصريين وتضطر المستشفيات الى اغلاق أبوابها خوفا من هجمات البلطجية لا يجد الرئيس حرجا في أن يتجول في حراسة ثلاثة آلاف جندي وعشرات الضباط والقناصة بل انه لم يتحرج كرئيس اسلامي وهو يرى جنود الحراسة يمنعون المصلين من دخول الجامع الذى يصلى فيه .
المعنى هنا أن أمن الرئيس أهم بكثير من أمن المواطن . نفس المفهوم الذى كان سائدا أيام مبارك يعاد انتاجه من أجل الرئيس مرسي . .
ثالثا :التنظيم السري
ــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ
الرئيس مرسي منتخب من الشعب الا أنه ينتمي الى جماعة الاخوان المسلمين وهي حتى الآن تنظيم سري غامض . كم يبلغ عدد الاخوان المسلمين وهل لديهم جناح عسكري ومن أين يحصلون على الأموال الهائلة التى ينفقونها في الانتخابات و هل يتلقون تمويلا خارجيا ..؟ ..كل هذه أسئلة بلا اجابة لأن الاخوان المسلمين يرفضون تقنين أوضاع جماعتهم وبالتالي فان المواطن المصري يتعامل مع رئيس منتخب لديه جزء غاطس مجهول .
نحن لا نعرف الحدود بين رئاسة الجمهورية ومكتب الارشاد ولا العلاقة بين رئيس الدولة ومرشد الاخوان وبالتالي يظل تنظيم الاخوان بمثابة ذراع سرية للرئيس مستعصية على رقابة الشعب ومحاسبة الدولة .. وقد رأينا كيف هاجمت مجموعات منظمة مدينة الانتاج واعتدت على الاعلاميين المناهضين للاخوان ثم سارعت قيادة الاخوان ورئاسة الجمهورية بادانة الهجوم . مادامت جماعة الاخوان غير شرعية وترفض رقابة الدولة فان الرئيس مرسي يمتلك تحت امرته تنظيما سريا يستطيع في أية لحظة التدخل بشتى الطرق من أجل ابقاء الرئيس في السلطة .
رابعا : التراث الديني
ــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ
الرئيس مرسي اسلامي ولذلك فهو يستعيد التراث الاسلامي في خطبه ومواقفه جميعا وهذا مفهوم ، المشكلة ان علاقة الحاكم بالمواطنين في التراث الاسلامي لها مفهومان متناقضان . لقد قدم الاسلام مفهوما ديمقراطيا للسلطة تجلى في حكم أبي بكر وعمر رضى الله عنهما .ما أن تولى أبو بكر الحكم حتى ألقى خطبة عظيمة بدأها قائلا :
"أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني ""
هذه الجملة كانت بمثابة دستور ديمقراطي يعتبر الحاكم رجلا عاديا في خدمة المواطنين ومن حقهم نقده وتقويمه وخلعه من منصبه ..لكن هذا المفهوم العادل سرعان ما يختفى في التاريخ الاسلامي لينادي فقهاء كثيرون بوجوب طاعة الحاكم المسلم حتى ولو كان ظالما وفاسدا ..
هذا المفهوم الاستبدادي البعيد عن صحيح الدين يمهد لصناعة الديكتاتور ويفسر لنا لماذا رفض كثيرون من مشايخ السلفية الثورة ضد مبارك ولماذا تعاونوا مع أجهزة الأمن و لماذا أجاز بعض الفقهاء قتل المتظاهرين الذين يطالبون باقالة مرسي . اذا أراد الرئيس مرسي أن يبقى في السلطة بعد انتهاء ولايته فان هؤلاء المشايخ سيؤيدونه غالبا لأن قراءتهم الخاطئة للاسلام لا تعترف بمبدأ تداول السلطة . .
خامسا : متلازمة ستوكهولم
ــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ
اندلعت الثورة وخلعت مبارك وحاكمته وألقت به في السجن لكن بعض المصريين لازالوا يتعاطفون مع مبارك ،
بعض هؤلاء المتعاطفين موقفهم مفهوم لأنهم استفادوا من نظام مبارك لكن الغريب ان هناك مصريين عانوا بشدة من ظلم مبارك وفساده لكنهم مع ذلك يدافعون عنه ويتعاطفون معه . هؤلاء في رأيي مصابون بمرض متلازمة استوكهلوم Stockholm syndrome..
ففي عام 1973 هاجم بعض اللصوص أحد البنوك في استوكهولم وأخذوا أربعة موظفين (ثلاث نساء، ورجل ) رهائن لمدة ستة أيام وكانت المفارقة فى أن المختطفين بعد إطلاق سراحهم تكونت بداخلهم مشاعر تعاطف وارتباط بالجناة ، حتى صار رجال الشرطة بالنسبة لهم أعداء ، والخاطفون هم الأصدقاء . ان متلازمة استوكهولم كما تصيب الأفراد تصيب الشعوب التى تتعرض للاستبداد لفترة طويلة .
اذ يتعلق بعض الناس بالطاغية مع اعترافهم بظلمه وفساده لكن وجوده في السلطة يمنحهم احساسا بالأمن ويكون بالنسبة اليهم الأب الذى يحميهم من شرور العالم فهم يتعلقون به مهما ظلمهم وقمعهم .. هذا القطاع من المصريين الذى لا نعرف حجمه لايمكن أن يتعامل مع الرئيس باعتباره موظفا عاما فهم يشتاقون الى طاغية يحميهم ويقمعهم ويحسون بضعفهم وضآلتهم أمامه
هؤلاء المرضى بمتلازمة استوكهولم بعد أن تأكدوا من أن مبارك لن يعود بدءوا يتعلقون بالرئيس مرسي ويبررون كل أفعاله مهما كانت خاطئة و يصورونه باعتباره زعيما ملهما جاء لينقذ الأمة بحكمته وشجاعته .
في ظل هذه العوامل يتم الآن تصنيع ديكتاتور جديد لمصر . لقد أعلن الرئيس مرسي مرارا أنه يرفض الاستبداد لكن التجربة علمتنا أن كل من حكم مصر قد بدأ متواضعا طيبا مدافعا عن حقوق الناس ثم تحول شيئا فشيئا الى طاغية ليرتكب أبشع الجرائم من أجل الاحتفاظ بالسلطة . ان الرئيس مرسي يتحول أمام أعيننا من رجل عادى فاز بالانتخابات بفارق ضئيل للغاية الى زعيم الأمة الملهم والحكيم العظيم ورجل الثورة وبطل السلام الى آخر هذه الألقاب المزيفة التى أغدقها المنافقون على كل من حكم بلادنا .
ان الثورة المصرية قدمت آلاف الشهداء والمصابين من أجل الكرامة وحرية والعدالة الاجتماعية وهذه المباديء لايمكن أن تتحقق الا بعد أن نرسخ في الأذهان ان الرئيس مجرد موظف مهمته أن يخدم المواطنين ويجب أن يحاسب بشدة على أخطائه كما يجب أن يتحمل النقد مهما كان قاسيا أو متجاوزا لأن الغرض منه الصالح العام . ..
مهمة الثورة الآن في رأيي أن تمنع صناعة طاغية جديد .. عندئذ سنبني الدولة الديمقراطية التى مات من أجلها الشهداء .
الديمقراطية هي الحل
كيف نصنع الديكتاتور ..؟!
"منذ أدائه اليمين الدستورية فى 30 يونيو الماضي، لم يقم الرئيس مرسى بأى أجازات خاصة يقضيها مع أسرته ...
حتى أيام العطلات الرسمية ، كان الرئيس مرسى يقضيها داخل القصر الجمهوري من أجل ادارة شئون البلاد وإجراء المقابلات الرسمية مع الضيوف والمسئولين..
أخيرا ، استطاع الرئيس مرسى الحصول على أجازة 48 ساعة قضى خلالها أول وثانى أيام عيد الفطر مع أسرته بمدينة برج العرب، بعيدا عن مسئوليات العمل الرسمية، ورغم ذلك لم يستطع الإفلات من 22 اتصالا هاتفيا مع زعماء دول عربية وغربية للتشاور حول الأوضاع الإقليمية والدولية .."،
كان هذا نص الخبر الذى تصدر الصفحة الأولى في جريدة الاهرام والهدف واضح .. فكل من يقرأ الخبر لابد أن يقول لنفسه : " مسكين هذا الرئيس ..ان المهام الثقيلة التى يؤديها لاتترك له الفرصة لكي يستمتع بأجازة ولو يوما واحدا مع أسرته ".
مع أن الحقيقة أن الرئيس مرسي لم يمض في منصبه سوى أسابيع قليلة وهي فترة لايحتاج المرء بعدها عادة الى أية أجازة كما أن الرئيس لا يمسك التليفون بيده ليجرى اتصالاته الدولية وانما لديه معاونون كثيرون سيطلبون له الأرقام وما عليه بعد ذلك الا أن يتكلم قليلا وهو مستلق في فراشه أو جالس على مقعد مريح ...
هذه الأخبار الكاذبة المليئة بالنفاق تتكرر الآن في اطار عملية تصنيع الديكتاتور التى تحدث للأسباب التالية :
أولا : ماكينة الاستبداد
ــــــــــــــــــــــــــ
ورث الرئيس مرسي نظام مبارك بالكامل : أجهزة قمع على استعداد للتعذيب والاعتقال والقتل واعلام فاسد كاذب يعتمد على الولاء للنظام بغض النظر عن الكفاءة وأجهزة حكومية تعودت أن تنفذ تعليمات الرئيس مهما كانت وتتغنى بحكمته .
كان المتوقع من أول رئيس منتخب بعد الثورة أن يؤسس لديمقراطية حقيقية لكنه للأسف حافظ على ماكينة الاستبداد التى ورثها عن مبارك وبدأ يوجهها لمصلحته .
فبدلا من رؤساء تحرير الصحف القومية الذين طالما نافقوا مبارك عين مجلس الشوري (عن طريق مسابقة غامضة ) رؤساء تحرير يدينون بمناصبهم الى الاخوان المسلمين وبدلا من وزير اعلام برتبة لواء يمنع نقد المجلس العسكري جاء وزير اعلام اخواني ليمنع المسلسلات التى تنتقد الاخوان ..
وبدلا من تعيين محافظين موالين لمبارك تم تعيين محافظين موالين للاخوان المسلمين وبدلا من قانون الطواريء الذى ارتكب مبارك في ظله جرائم بشعة ضد المصريين يتم الاعداد الآن لقانون طواريء جديد لخدمة الرئيس مرسي .وقد عرفت من مصادر موثوقة أن كبار الضباط في جهاز أمن الدولة يتوددون الآن لقيادات الاخوان المسلمين ،
يعتذرون عن الجرائم التى ارتكبوها في حقهم أيام مبارك ويعرضون عليهم خدماتهم . ان أجهزة الأمن التى لم تتغير بعد الثورة قد تتحول في أية لحظة الى اداة قمع في يد الرئيس والاخوان المسلمين .
ثانيا : الضعف الانساني
ــــــــــــــــــــــــــ
مهما كان الانسان متواضعا فانه اذا تولى السلطة غالبا ما يكون ضعيفا أمام النفاق وشيئا فشيئا سوف يصدق كلمات المديح ويعتبر أنه يستحقها عن جدارة . في كتابه الرائع " ماذا حدث للثورة المصرية ؟ " يحكى المفكر الكبير جلال أمين تجربته عندما كان أستاذا في الجامعة الأمريكية ، ففي الأيام التى يلقى فيها محاضراته كان الطلاب يتوافدون على مكتبه ليسألوه أو ويطلبوا منه أشياء تتعلق بالدراسة وبعد أن يقضى لهم طلباتهم كان هؤلاء الطلاب كثيرا ما يشكرونه بطريقة زائدة أو يمدحونه بافراط وهنا يقول الدكتور جلال أمين :
" لاحظت اننى في مثل هذه المواقف تعتريني لبعض الوقت درجة لايستهان بها من الاعجاب بالنفس والغرور اذ أصدق ما قيل عنى واعتبره صادقا لمجرد أننى احب ان يكون كذلك .."
هذه الدرجة العالية من مراقبة النفس ومقاومة الغرور التى يتمتع بها الدكتور جلال أمين لا تتوفر عند معظم الناس .
لقد رأينا كيف ذهب الرئيس مرسي في زيارة عادية الى الصين ليبحث وسائل التعاون معها . فاذا بوسائل الاعلام تصور زيارته على أنها فتح مبين ويتبارى أساتذة العلوم السياسية في شرح الفوائد الكبرى التى ستعم على البلاد والعباد من زيارة مرسي التاريخية للصين .
وقد ظهرت فجأة جمعية مجهولة تسمي نفسها منظمة السلام العالمي وأعلنت أنها قررت منح الرئيس محمد مرسي جائزة السلام العالمي لعام 2012 ونحن نتساءل : لماذا لا تنتظر هذه المنظمة حتى نهاية العام حتى تتأكد من جدارة الرئيس مرسي بالجائزة بل وماذا فعل الرئيس مرسي أصلا ليستحق أية جائزة وقد فشل حتى الآن في تقديم أى حل لمشكلات مصر المعقدة المزمنة ؟!.
ان تصنيع الديكتاتور يجري على قدم وساق وقد بدت على الرئيس مرسي للأسف علامات الاستجابة للنفاق فرأيناه يطلب قرضا كبيرا من صندوق النقد الدولي بدون أن يستشير المصريين الذين سيدفعون من أموالهم قيمة القرض وفوائده وبينما تتقاعس الشرطة عن حماية المصريين وتضطر المستشفيات الى اغلاق أبوابها خوفا من هجمات البلطجية لا يجد الرئيس حرجا في أن يتجول في حراسة ثلاثة آلاف جندي وعشرات الضباط والقناصة بل انه لم يتحرج كرئيس اسلامي وهو يرى جنود الحراسة يمنعون المصلين من دخول الجامع الذى يصلى فيه .
المعنى هنا أن أمن الرئيس أهم بكثير من أمن المواطن . نفس المفهوم الذى كان سائدا أيام مبارك يعاد انتاجه من أجل الرئيس مرسي . .
ثالثا :التنظيم السري
ــــــــــــــــــــــــــ
الرئيس مرسي منتخب من الشعب الا أنه ينتمي الى جماعة الاخوان المسلمين وهي حتى الآن تنظيم سري غامض . كم يبلغ عدد الاخوان المسلمين وهل لديهم جناح عسكري ومن أين يحصلون على الأموال الهائلة التى ينفقونها في الانتخابات و هل يتلقون تمويلا خارجيا ..؟ ..كل هذه أسئلة بلا اجابة لأن الاخوان المسلمين يرفضون تقنين أوضاع جماعتهم وبالتالي فان المواطن المصري يتعامل مع رئيس منتخب لديه جزء غاطس مجهول .
نحن لا نعرف الحدود بين رئاسة الجمهورية ومكتب الارشاد ولا العلاقة بين رئيس الدولة ومرشد الاخوان وبالتالي يظل تنظيم الاخوان بمثابة ذراع سرية للرئيس مستعصية على رقابة الشعب ومحاسبة الدولة .. وقد رأينا كيف هاجمت مجموعات منظمة مدينة الانتاج واعتدت على الاعلاميين المناهضين للاخوان ثم سارعت قيادة الاخوان ورئاسة الجمهورية بادانة الهجوم . مادامت جماعة الاخوان غير شرعية وترفض رقابة الدولة فان الرئيس مرسي يمتلك تحت امرته تنظيما سريا يستطيع في أية لحظة التدخل بشتى الطرق من أجل ابقاء الرئيس في السلطة .
رابعا : التراث الديني
ــــــــــــــــــــــــــ
الرئيس مرسي اسلامي ولذلك فهو يستعيد التراث الاسلامي في خطبه ومواقفه جميعا وهذا مفهوم ، المشكلة ان علاقة الحاكم بالمواطنين في التراث الاسلامي لها مفهومان متناقضان . لقد قدم الاسلام مفهوما ديمقراطيا للسلطة تجلى في حكم أبي بكر وعمر رضى الله عنهما .ما أن تولى أبو بكر الحكم حتى ألقى خطبة عظيمة بدأها قائلا :
"أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني ""
هذه الجملة كانت بمثابة دستور ديمقراطي يعتبر الحاكم رجلا عاديا في خدمة المواطنين ومن حقهم نقده وتقويمه وخلعه من منصبه ..لكن هذا المفهوم العادل سرعان ما يختفى في التاريخ الاسلامي لينادي فقهاء كثيرون بوجوب طاعة الحاكم المسلم حتى ولو كان ظالما وفاسدا ..
هذا المفهوم الاستبدادي البعيد عن صحيح الدين يمهد لصناعة الديكتاتور ويفسر لنا لماذا رفض كثيرون من مشايخ السلفية الثورة ضد مبارك ولماذا تعاونوا مع أجهزة الأمن و لماذا أجاز بعض الفقهاء قتل المتظاهرين الذين يطالبون باقالة مرسي . اذا أراد الرئيس مرسي أن يبقى في السلطة بعد انتهاء ولايته فان هؤلاء المشايخ سيؤيدونه غالبا لأن قراءتهم الخاطئة للاسلام لا تعترف بمبدأ تداول السلطة . .
خامسا : متلازمة ستوكهولم
ــــــــــــــــــــــــــ
اندلعت الثورة وخلعت مبارك وحاكمته وألقت به في السجن لكن بعض المصريين لازالوا يتعاطفون مع مبارك ،
بعض هؤلاء المتعاطفين موقفهم مفهوم لأنهم استفادوا من نظام مبارك لكن الغريب ان هناك مصريين عانوا بشدة من ظلم مبارك وفساده لكنهم مع ذلك يدافعون عنه ويتعاطفون معه . هؤلاء في رأيي مصابون بمرض متلازمة استوكهلوم Stockholm syndrome..
ففي عام 1973 هاجم بعض اللصوص أحد البنوك في استوكهولم وأخذوا أربعة موظفين (ثلاث نساء، ورجل ) رهائن لمدة ستة أيام وكانت المفارقة فى أن المختطفين بعد إطلاق سراحهم تكونت بداخلهم مشاعر تعاطف وارتباط بالجناة ، حتى صار رجال الشرطة بالنسبة لهم أعداء ، والخاطفون هم الأصدقاء . ان متلازمة استوكهولم كما تصيب الأفراد تصيب الشعوب التى تتعرض للاستبداد لفترة طويلة .
اذ يتعلق بعض الناس بالطاغية مع اعترافهم بظلمه وفساده لكن وجوده في السلطة يمنحهم احساسا بالأمن ويكون بالنسبة اليهم الأب الذى يحميهم من شرور العالم فهم يتعلقون به مهما ظلمهم وقمعهم .. هذا القطاع من المصريين الذى لا نعرف حجمه لايمكن أن يتعامل مع الرئيس باعتباره موظفا عاما فهم يشتاقون الى طاغية يحميهم ويقمعهم ويحسون بضعفهم وضآلتهم أمامه
هؤلاء المرضى بمتلازمة استوكهولم بعد أن تأكدوا من أن مبارك لن يعود بدءوا يتعلقون بالرئيس مرسي ويبررون كل أفعاله مهما كانت خاطئة و يصورونه باعتباره زعيما ملهما جاء لينقذ الأمة بحكمته وشجاعته .
في ظل هذه العوامل يتم الآن تصنيع ديكتاتور جديد لمصر . لقد أعلن الرئيس مرسي مرارا أنه يرفض الاستبداد لكن التجربة علمتنا أن كل من حكم مصر قد بدأ متواضعا طيبا مدافعا عن حقوق الناس ثم تحول شيئا فشيئا الى طاغية ليرتكب أبشع الجرائم من أجل الاحتفاظ بالسلطة . ان الرئيس مرسي يتحول أمام أعيننا من رجل عادى فاز بالانتخابات بفارق ضئيل للغاية الى زعيم الأمة الملهم والحكيم العظيم ورجل الثورة وبطل السلام الى آخر هذه الألقاب المزيفة التى أغدقها المنافقون على كل من حكم بلادنا .
ان الثورة المصرية قدمت آلاف الشهداء والمصابين من أجل الكرامة وحرية والعدالة الاجتماعية وهذه المباديء لايمكن أن تتحقق الا بعد أن نرسخ في الأذهان ان الرئيس مجرد موظف مهمته أن يخدم المواطنين ويجب أن يحاسب بشدة على أخطائه كما يجب أن يتحمل النقد مهما كان قاسيا أو متجاوزا لأن الغرض منه الصالح العام . ..
مهمة الثورة الآن في رأيي أن تمنع صناعة طاغية جديد .. عندئذ سنبني الدولة الديمقراطية التى مات من أجلها الشهداء .
الديمقراطية هي الحل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق