الثلاثاء، 14 فبراير 2012

مصر: البلطجة احتياطي استراتيجي للإدارة والحكم! بقلم محمد عبد الحكم دياب

تواجه الدولة بسلطاتها الحالية؛ الممثلة في المجلس الأعلى للقوات المسلحة والحكومة ومجلس الشعب؛ هذه الدولة تواجه الثورة وتتصدي لها، وتتخذ من البلطجة احتياطيا استراتيجيا سلاحا في المواجهة، وعندما تدير دولة بهذا المعنى عملا البلطجة فهي تهدد نفسها بخطر السقوط ولا تحتاج لمن يسقطها، فالقانون يغيب أمام البلطجة، ويستقر العنف والحل الأمني بديلا للسياسة، وتحولت مصر بذلك إلى بلد منتج للأزمات ومفتعل للاضطرابات. وفاجأ خروج الملايين يوم الخامس والعشرين من الشهر الماضي لإحياء ذكرى مرور عام على انطلاق الثورة الجميع، وكانت صدمة قيادة الثورة المضادة في سجن طرة كبيرة، دفعت رجالها لتطبيق خطتها المعدة سلفا لمحو أي أثر معنوي وسياسي لذلك لخروج، الذي لم تؤثر فيه حملة مكثفة من الترويع النفسي والإرهاب الإعلامي؛ ولم تمنعه حالة اليوم؛ كيوم عطلة رسمية، ولا الظروف الجوية التي كانت غير ملائمة، وخرجت الملايين في مشهد استلزم الوقوف عنده والتعرف على أسبابه، ولسوف نجد أن أهمها ثقة مفتقدة بين إدارة الدولة وبين قوى الثورة؛ جعلت ما تقوله وتنادي به السلطات يأتي بأثر عكسي ويزيد من استفزاز الرأي العام. في ذلك الجو انشغل ثوار بالبحث عن طريق لفك الاشتباك بين أجيال الثوار من المخضرمين والشباب حول الموقف من الثورات والأحداث التاريخية الكبرى، ومنهم من أجرى مقارنات بين جيل يوليو 1952 وجيل اكتوبر 1973 وجيل 25 يناير 2011، وهذا انشغال حميد في مرحلة تبحث فيها الثورة عن جذورها وتتعرف على روافدها الاجتماعية والتاريخية، وتسعى لبلورة مبادئ جامعة تحقق أهدافها.
وكما هو الحال مع الإقصاء السياسي نمت مع الثورة قوى تعودت على ممارسة نفس النهج مع التاريخ، وتسعى لإقصاء مراحل منه لحسابها، بكل ما في ذلك من تناقض مع المنهج العلمي الذي ينظر للتاريخ كحلقات متواصلة تتشكل منها الذاكرة الوطنية، وقد كانت في عنفوانها؛ قبل السقوط في أسْر التبعية وممالأة المنظومة الصهيو غربية، وهي المنظومة التي تبذل جهدا خارقا للحيلولة دون ترميم هذه الذاكرة وعودة وعيها؛ فتكون قادرة على الانطلاق من جديد، ويساعدها قوى تستغل ظروف ومواقف قوى قطفت ثمار ثورة 25 يناير لتصفية الحساب مع التاريخ؛ بعيدا عن استخلاص دروسه المستفادة وتوظيفها لدعم الثورة وتحريرها من الأحكام المسبقة، التي قد تجني عليها.
والإسلام السياسي، الذي حصد أكثرية مقاعد برلمان ما بعد الثورة؛ يتخذ موقفا سلبيا من مجمل التاريخ الوطني الحديث، ومن حصيلة كفاح جيل الخمسينات والستينات، في التحرر من الاستعمار التقليدي والاحتلال المباشر، والتنمية المستقلة، والتصنيع والانحياز للطبقات المنتجة، بدءا من الفلاحين والعمال والطبقة الوسطى، وصولا إلى ما كان يعرف بالرأسمالية الوطنية، وإنجاز المشروعات العملاقة، وعلى رأسها السد العالي، والعمل على مضاعفة الدخل كل عشر سنوات.
ورفع مستوى المعيشة للطبقات الفقيرة، وتوفير الخدمات التعليمية والصحية والرعاية الاجتماعية مجانا. تلك القوى وهي تسعى لإقامة دولة دينية تعمل على إعادة ‘نظام الخلافة’ بكل ما فيه من نزوع استبدادي وتوجه إمبراطوري لا علاقة له بالدين، ولا يتحمله الزمن.
وعلى الشاطئ الآخر طرف انعزالي يقوم بنفس الوظيفة من منطلقات مختلفة؛ يصفي بها حسابه مع الشعب بتراثه وثقافته ورغبته في التقدم دون تبعية أو تغريب. ومعركته أيضا مع التاريخ، ويبني موقفه على إقصاء ثورة 1952، وهي التي انتزعت آباءه وأجداده من أحضان الاستعمار وموالاة الاحتلال، الذي ما زال وفيا له وساعيا إلى عودته؛ وفق مشروعه الانعزالي والتقسيمي الطائفي المذهبي، وقطع أواصر العلاقة بين الأجيال، وتشويه تراث خلفته الثورات وحركات التحول التاريخية، وصاغته جهود ومواقف رواد ومجددين، وأولئك يعتمدون على مبدأ ‘كلما دخلت أمة لعنت أختها’ والأمة هنا بمعنى الجيل، الذي يصفي حساباته مع الجيل السابق عليه، وبدلا من السجالات حامية الوطيس، المبددة للطاقة؛ بدلا من ذلك من الضروري التركيز على التواصل بين الأجيال ومراحل التاريخ الوطني، فيتحقق ‘التعايش التاريخي’ إذا جاز التعبير، وعدم إعادة إنتاج سلبياته، والحفاظ على إيجابياته وروحه، واستخلاص دروسه وعبره، وبذلك تكون الثورات السابقة والتحولات الماضية قواعد لما يليها من ثورات وتحولات، فلا يصبح الحال ‘كالمنبت.. لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى’. وبذلك تصنع التحولات وتبني الحضارات، وتتم الاستجابة لتطلعات الشعب وتعزيز علاقته بثورته.
ومن سؤال طرح علَيّ من عدد من شباب الثورة حول جيل 25 يناير، وهل حل محل جيل اكتوبر، ومنه بدأت أتنبه إلى ما يشغل شباب مؤثر في مسيرة الثورة، في ظرف دقيق يرتفع فيه السجال بين الداعين للعصيان المدني وبين مخالفيهم، مع ملاحظة أن رموز المخالفين هم من رفضوا الاشتراك في الثورة، ثم سارعوا والتحقوا بها، وركبوا موجتها، وحصدوا غلتها؛ رددوا حججهم القديمة.. عن المؤامرات والأصابع الأجنبية وتهديد الاستقرار وإيقاف عجلة الانتاج.
عاد الأزهر ومعه دار الإفتاء والكنيسة إلى سيرتهم الأولى قبل الثورة، ومقاومتهم وتحريمهم لها ثم احتوائها، حرّموا العصيان المدني والإضراب عن العمل، وإن أجاز بعضهم التظاهر السلمي، وشاركهم حزب الحرية والعدالة الإخواني وحزب النور السلفي، وجهات أمن وأجهزة صحافة وإعلام رسمية وغير رسمية. وهذا دوما ديدن الممالئين للسلطة والحكم في كل زمان ومكان.. يعيدون انتاج أنفسهم، وهم دائما على دين ملوكهم؛ لا يتعظون ولا يتعلمون ولا يتغيرون، ويمارسون ما اعتادوا عليه واستسلموا له دون كلل أو ملل.
وعلى ثورة 25 يناير أن تنشغل أولا بكيفية الانتقال من مرحلة الاحتجاج والتظاهر إلى مرحلة الحكم والقرار والبناء، وإن لم تفعل ذلك فستواجه مخاطر جمة من قوى عديدة؛ لا يستهان بها، ولا تتحمل الانتظار الطويل. ودون ذلك فستواصل موجات القتل المنتظمة، وسقوط الشهداء والمصابين، وما دام أصحاب القرار على موقفهم، فليس لديهم غير البلطجة حل تقدمه الثورة المضادة لتشويه الثورة، ولذا أضحت احتياطيا استراتيجيا لكسر الثورة وقتل وملاحقة الثوار.
وهذا يماثل ما هو معمول به في الحروب القذرة ضد الدول الصغيرة والفقيرة، خاصة الدول العربية والإسلامية، ومن تابع الإغارات الأمريكية في بدايات الحرب الأطلسية الأفغانية 2002؛ فعقب إلقاء الأطنان من المتفجرات على رؤوس المدنيين والأبرياء والفتك بهم؛ بعدها بلحظات تبدأ إغارات تلقي بأكياس الطعام برتقالية اللون للجوعى والضحايا والمصابين.
ومن أقدموا على تلك الجرائم وقتل البشر بدم بارد ‘رحماء وأخيار’؛ يقدمون الطعام شفقة بالضحايا وحرصا على ألا يموتوا جوعا، استعدادا لدورة القتل لمن تم إطعامهم بعد كل إغارة.. نفس الشيء يحدث مع ثوار مصر، يقتلون ويصابون؛ من يستشهد يعوض، ومن يصاب يصدر له قرار بالعلاج في مستشفيات القوات المسلحة أو غيرها، وكان ذلك لا يتم حتى أسابيع قليلة مضت، وهو نوع من غسيل السمعة الإعلامية للمحرضين والمنفذين. ويبدو أن ذلك من أثر تغيير عقيدة القتال المصرية، وتطابقها مع العقيدة القتالية الأمريكية!!.
ومن أجل أن يكون إنشغال قطاع من جيل ثورة 25 يناير بجيل اكتوبر حميدا لا بد من تصحيح النظرة إلى تلك الحرب. وهي لا تصنف في عداد الثورات؛ فقد كانت معركة حققت انتصارا عسكريا مبهرا؛ وُظف للخروج من جلباب وشرعية ثورة 1952، ولإحلال ‘ثورة التصحيح’ التي بدأت في 13 ايار/مايو 1971 محلها، وقد كانت كثورة مضادة مقدمة لتصفية ثورة الضباط الأحرار، وجاءت حرب 1973 فعززت وحصنت مواقع الثورة المضادة ‘خطوة خطوة’ على الجبهات السياسة والاقتصاد والثقافة. وكانت الخطوة الأولى بالإعلان عن أنها آخر الحروب؛ أي آخر الحروب ضد الأعداء التقليديين من قوى الاستعمار والصهيونية وحلفائهم، ثم صدرت ‘ورقة اكتوبر’ لتقنين التراجعات على كل جبهات الداخل والخارج، وإعلان سياسة الانفتاح، وعلى الجبهة العسكرية بدأت التنازلات مع مباحثات فض الاشتباك الأول في 1975، وانسحبت الدولة من مسؤولياتها الاجتماعية، واشتعلت الأسعار وعاد الاقطاع، واستردت التوكيلات الاحتكارية مكانتها، واندلعت انتفاضة 18 و19 يناير 1977 التي وصفت بانتفاضة ‘الحرامية’، ردا على تلك التحولات، وبعدها توالت تداعيات 1973 بزيارة السادات للقدس المحتلة في نوفمبر 1977 ثم توقيع اتفاقية الإذعان – كامب ديفيد – مع الدولة الصهيونية برعاية رئيس الولايات المتحدة في ذلك الوقت جيمي كارتر.
ومنحت اكتوبر شرعية مزيفة صُفيت بمقتضاها المنجزات الوطنية والقومية التحررية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لثورة يوليو. وجسدت الجمهورية الأولى من 18 حزيران/ يونيو 1953 (تاريخ إعلان الجمهورية) حتى 13 ايار/مايو 1971 (تاريخ الانقلاب عليها)، على مدى ما يقارب ثمانية عشر عاما؛ جسدت النظام السياسي للثورة، أما الثورة المضادة، وقد استمرت أربعين عاما، تجسدت في الجمهورية الثانية (السادات – مبارك)، وبدأت تترنح مع ظهور جمال مبارك كوريث وتقلده منصب ‘الرئيس الموازي’، من بداية العقد الأول في الألفية الثالثة.
واندلعت ثورة 25 يناير لتفتح الأبواب أمام دولة جديدة ونظام حديث يقيم جمهورية الثورة (الثالثة)؛ المعطلة بقوة الثورة المضادة، والمؤجلة بإعادة إنتاج الجمهورية الثانية؛ اعتمادا على البلطجة كاحتياطي استراتيجي يواجه الثورة ويعاديها.
‘ كاتب من مصر يقيم في لندن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


Locations of Site Visitors
Powered By Blogger