لا تتردد في قراءة هذا المقال الهام عن جيل مهزوم بقلم: نارام سرجون
التقدمية
أنفق جيل أبي من المحيط الى الخليج [العربي] جل عقود القرن
العشرين في محاولة تحرير فلسطين .. ولم يقدر .. وكانت حصيلة كل الجهد معاكسة لما تمنى .. معاهدات سلام من جهات فلسطين الأربع .. كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو
التقدمية
أنفق جيل أبي من المحيط الى الخليج [العربي] جل عقود القرن
العشرين في محاولة تحرير فلسطين .. ولم يقدر .. وكانت حصيلة كل الجهد معاكسة لما تمنى .. معاهدات سلام من جهات فلسطين الأربع .. كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو
..حتى البحر المتوسط أبرم سلاما مع اسرائيل.. لكن ذلك الجيل المهزوم مرارا يستحق الاحترام رغم هزائمه ..ترك لنا ذلك الجيل حلم التحرير في وصية .. ورحل.. رحل مع رحيل القادة الذين انشغلوا بفلسطين .. جمال عبد الناصر وياسر عرفات ومعمر القذافي وحافظ الأسد .. ذلك الجيل حاول .. واجتهد .. وأخطأ ..ولم يستعد فلسطين .. جيل مهزوم خسر كل شيء ..لكنه لم يخسر الشيء الأكبر الذي خسرناه نحن الجيل الذي يتولى الآن ادارة معركة وجودية كبرى بحجم معركة فلسطين..
جيلنا الذي لم يبد مهزوما منذ أشهر قليلة فقط .. تعرض لهزيمة منكرة لأن أشهر الربيع العربي أظهرت أنه جيل مأزوم ومحروم ومنخور وأكثر هزيمة من جيل آبائه .. وأنه ان كان الجيل الذي سبقنا أمضى عقودا في محاولة تحرير فلسطين فان جيلنا للأسف سيمضي ماتبقى من عقود هذا القرن في لملمة شظايا أوطان وشعوب .. وسيمضي كل القرن في لملمة شظايا عقله المكسور كلوح زجاج سقط من فوق برج التجارة العالمي يوم 11 سبتمبر .. جيلنا في هذا الشرق قد لا يعرف كيف يمسك وعيه الذي ذاب في رأسه وتسرب من بين أصابعه كما يتسرب ماء الثلج المنصهر.
جيلنا سيمضي مابقي له من عمر في تحرير نفسه من العقد التي استفحلت لأنها شربت الرمل والنفط .. وسينفق أيامه في تنظيف تلافيف دماغه من ذلك النفط الذي سكب علينا .. ومطر الزيت الأسود .. حتى الفضاء أسقط علينا نفطا بدل الماء والشهب والنيازك .. فالنفط اندلق على العقل العربي وأغرقه في بقعة زيت لاحدود لها .. وجهازنا المناعي غرق في برك النفط .. ..
قرآننا تبلل بالنفط وتبلل الانجيل .. حتى بردة النبي وغار حراء وغار ثور وأستار الكعبة .. ثيابنا تبللت بالنفط .. وثياب الصحابة وآل البيت نقعت في آبار النفط ونشرت على حبال الفضاء .. حتى سقيفة بني ساعدة تسرب اليها النفط .. وكذلك جدل الخلافة في ذلك الزمان مرّغ أنفه بالنفط .. والمصاحف التي رفعت بين جيش علي ومعاوية صارت تقطر نفطا .. كربلاء والجمل وقميص عثمان لوحات حمراء من ذاكرتنا تلونت بالنفط الأسود .. المآذن اغتسلت به وأصوات خطباء الجمعة .. حتى اللغة العربية شربت نفطا وكرعت خاما أسود .. وحتى عنترة بن شداد فاحت منه رائحة النفط الثقيل .. فيما عبلة غسلت وجهها بالنفط الخفيف وخام برنت.. ولم تعد السيوف تلمع كبارق ثغرها المتبسم لأن كل تاريخنا يرسمه فنانو الزيت الأسود وخطباء ومثقفو ومذيعو وكتّاب النفط.
ان جيل أبي جيل هزمه تيودور هرتزل وبلفور وسايكس وبيكو ولورنس .. لكن جيل اليوم جيل كامل يهزمه برنار هنري ليفي وحده .. ويسوقه من محرقة الى أخرى .. ومن حرب أهلية الى أخرى .. ومن انتحار الى آخر ..ومن فشل الى فشل .. لأننا لم نعد نكتب بالحبر بل بالنفط .. ثقافتنا نفطية .. ودموعنا نفطية .. ولعابنا وبولنا وعرقنا .. يتحكم فيها كلها شيوخ النفط.. كلاب حراسة برنار هنري ليفي.
صحيح أن جيل أبي هزم ولكنه جيل كان يتحدث عن القومية العربية وعن انبعاث الأمم وعن الهلال الخصيب وسورية الكبرى وسوراقيا وعن الوعاء العربي للدين الاسلامي وعن المواطنة .. جيل أبي تحدث عن النظرية الاشتراكية وعن الشيوعية ورأس المال .. وعرف لينين وأنطون سعادة وحسن البنا والخميني.. وسلطان الأطرش وصالح العلي وهنانو والخراط .. ذلك الجيل المهزوم كان يعرف فيكتور هوغو والبؤساء وتولستوي والحرب والسلام .. والجريمة والعقاب ..وبائعة الخبز ..حتى أغاثا كريستي..
ذلك الجيل المهزوم كان يستمع لخطاب الثورة من فم جمال عبد الناصر على أجهزة راديو مشوشة عتيقة تعمل على البطارية وينتشي وهو يسمع عن التأميم أو اغراق ايلات .. ويسمي ابنه “جمال” أو “ناصر” .. ذلك الجيل المهزوم تعلم لغة (العبور) وسمع مصطلحات الضربة الجوية الاولى وحرب الاستنزاف .. ذلك الجيل المهزوم كان رغم كل الديكتاتورية وقسوتها لايسمح لعنفوانه رغم هزيمته أن يقبل بالتحدث مع اسرائيلي الا على الحدود وبالنار ولغة العمل الفدائي .. ذلك الجيل المهزوم كان لايعرف الجزيرة ولا العربية ولا الفضائيات ولايعرف “الأستاذ” خديجة بن قنة الذي يشبه شخصا “مهرمنا” الى سيدة .. بقي صوته خشنا رغم ملامحه الناعمة !! وبالطبع لايعرف بائع الدجاج فيصل القاسم صاحب حلبات الديكة..وصيحات الديكة..
أما جيل الربيع العربي المأزوم التافه الصغير .. جيل الربيع العربي .. فيتحدث عن الثأر والموت وعن السني المظلوم وعن الأهلة الشيعية وعن الأخطار الفارسية والجيوب العلوية وهواجس وليد جنبلاط الدرزية .. وعن ترحيل مسيحيي الشرق وتقلص الكنائس .. ويتحدث عن حكم القلة وحكم الأكثرية وعن كل الطوائف بالتفصيل .. وعن اتفاق “طائف” طائفي لكل جمهورية .. جيلنا المأزوم صار يوسف القرضاوي أهم أئمته ومايقوله أصح مما يقوله البخاري .. وزوجاته أمهات المؤمنين .. جيل يحركه رجل مختل عقليا مثل العرعور وفاروق طيفور .. ويقرأ عن ابليس بدل المريخ وعن الشيطان بدل الكوانتوم .. ومؤلفات ابن عثيمين وفتاوى العريفي بدل فرويد وويل ديورانت .. ويأخذ الحكمة من موزة ورضوان زيادة بدل جبران ومي زيادة .. ولايعرف الفرق بين سهى بشارة وعزمي بشارة .. جيل بلا عيون وبلا بصيرة .. يتحدث عن التحالف مع الناتو الذي فتك بنصفه علنا وهتك عرض دينه علنا وتبول على جثث المقاتلين علنا .. جيل يفلسف العلاقة مع أميريكا بالمصلحة المتبادلة بالحرية والحاجة الى علبة سخيفة اسمها صناديق الاقتراع يتحكم فيها المال .. ويطلب العون من كل الاسرائيليين علنا على التلفزيون..ويرفع علم اسرائيل في شارع عربي.
جيل أبي كان يستمع الى خطاب جمال عبد الناصر يؤمم قناة السويس والى حافظ الأسد … وجيل اليوم يستمع الى أقزام مثل الثوري حمد بن جاسم الذي يقوم بتأميم قناة العقل العربي والعقل العربي كله واعلانه شركة مساهمة مغفلة تبيع أسهمها (بالحلال) لمن يشتري .. ويستمع الى نبيل العربي الذي (يدوحن) كبريات عواصم الشرق .. القاهرة ودمشق وبغداد .. ويستمع الى الملك اليهودي عبد الله الثاني المولع بتعليق الأهلّة الشيعية والجيوب العلوية على صدر بني اسرائيل .. ويريد صلبنا جميعا في حرب دينية مقدسة من حروب أجداده لأجل مكماهون ووايزمان.
أقول هذا وأنا أتألم وأنا أرى كيف يحترق الشباب في بلداننا بالمجان من ليبيا الى اليمن والعراق وسوريا ومصر وكيف تشتعل عقولهم بسرعة بنار الثورات كما لو كانت هذه العقول قد تشربت من ثقافة النفط والبنزين .. فصار أي عود ثقاب يضرم فيها النار بجنون .. حزنت كثيرا وأنا أراقب بعض الصور المؤلمة لمقاتلين عربا وسوريين تبعثروا بالعشرات في بعض أزقة حلب .. وقد تناثرت حولهم بقع الدم وأحزمة الرصاص وبنادق آلية وقواذف ورشاشات .. وغمر الغبار وجوههم .. شباب صغار في العشرينات .. وبعضهم مراهقون دفع بهم أصدقاء هنري ليفي الى حرب مميتة ليست حربهم بل حرب الآخرين .. ضحك عليهم أردوغان وأوغلو وكلينتون ودفع بهم جاهل أحمق في قطر ووضعهم في شاحنات الدفع الرباعي وأعطاهم رشاشات ليقاتلوا جيشا نظاميا بقوة الجيش السوري .. وكل هؤلاء اللاعبين يعرفون أن هؤلاء الشبان ميتون لامحالة .. أمام جيش محترف لايلعب الغميضة في ظروف الحرب بل لعبة الفتك والموت .
صور مرهقة ومؤلمة لشبان آخرين مرهقين متعبين مكومين على الأرض باذلال .. لايعرفون من الحرب الا التقاط الصور ورفع شارات النصر وهتافات رعناء حمقاء .. وتخريب الأبنية ..ولعبة الانسحابات التكتيكية كما لو كانوا يلعبون الغميضة .. قبل الرحيل رحيلا قاسيا سريعا نحو السماء ..أو السجون.
أحد الجنرالات السوريين روى كيف أن هؤلاء الشبان لايعرفون من الحرب شيئا وأنهم مغسولو الدماغ بأحلام النصر ..روى كيف احتال عليهم بحيلة كلاسيكية قديمة تعرفها كل الجيوش النظامية .. فعلى مدى ليلتين متواليتين كان يسمعهم صوت محركات الدبابات وهي تتحرك وأصوات المجنزرات وهي تصدر صريرها الصاخب وكل ساعة يطلق بمكبرات الصوت تعليمات الهجوم فبقي المسلحون الشبان في حالة تنبه ويقظة واستنفار واستعداد ولم يناموا يومين كاملين وهم متوترون من أن أصوات المجنزرات تتحضر للهجوم خلال دقائق .. وأن عددها كبير لأنها كانت تفد كل الليل الى ميدان القتال .. ولما اعلمه المخبرون من بين المقاتلين أن الشباب (نضجوا تماما) وحان وقت القطاف اندلعت المعركة ..وكان المقاتلون منهكين بالترقب والانتظار والارهاق الشديد وقلة النوم .. فكان قتالهم مبعثرا متشتتا فاقدا للتنسيق والتوازن وفي خلال نصف ساعة كانت الخطوط الأمامية قد فرغت وتدافع المقاتلون الهاربون نحو أعماق المنطقة مذعورين.
وما يثير الشفقة أيضا أن الأتراك كانوا ينفخون عضلاتهم بقوافل الحشود والمدرعات لاغواء الشباب بالقتال ولكن الأتراك كانوا يرون الجيش السوري يحكم الطوق على المقاتلين بتمهل من كل الجهات .. ولم يفعل الأتراك شيئا كيلا يصاب جندي تركي بأذى .. وكانوا يعرفون أن الجيش السوري ترك ممرا واحدا اجباريا لاغير لخروج المقاتلين من حلب نحو الحدود التركية ..تركه السوريون على مرأى من المقاتلين البائسين الذين اعتقدوا أن الجيش السوري ترك لهم ذلك الممر للخروج والانسحاب “التكتيكي” كما العادة .. وكانت الدناءة من الأتراك أنهم لم يبلغوا المقاتلين بالفخ رغم معرفتهم لسبب ترك السوريين لذلك الممر .. لأنه الممر الذي يودي الى منطقة تم زرعها خلال الليالي الماضية بمئات الألغام وصار أشبه مايسمى بحقل الموت .. والطريق عبره هو الطريق الى الموت .. وهناك انتشر ملائكة الموت لجني الأرواح ..
الطريق الوحيد للمقاتلين هو اما الموت في المواجهة أو الموت في حقول الألغام ومابينهما الاستسلام ومايليه.
جيل يموت ويحترق ويحرق بلاده ويشعل العقود القادمة .. النفط في عقولهم والزيت في عروقهم .. وفي لزوجة النفط الطوائف والاثنيات وجنون العرعور وشبق القرضاوي .. وفي العروق ثقافة عبس وتميم .. وحرب داحس والغبراء ..والأهلة والجيوب .. ولايبقى الا شعار: من الفرات الى النيل .. ومن صنعاء الى أربيل ..حدودك يا اسرائيل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق