هل ستترك أمريكا الشرق الأوسط وشأنه؟
جاء في تقرير صادر عن وكالة الطاقة الدولية منتصف هذا الشهر أن الولايات المتحدة الأمريكية، حسب تقديرات طرحها خبراء الوكالة، ستحقق الاعتماد على مواردها الذاتية في قطاع الطاقة خلال السنوات القريبة القادمة، لتصبح أكبر مصدر للطاقة في الثلاثينات من القرن الحالي.
كتب فيودور لوكيانوف، رئيس تحرير مجلة "روسيا في السياسة العالمية ("Russia in Global Affairs" )
بالطبع، لا يتعدى هذا التنبؤ إطار أحد السيناريوهات المحتملة لتطور الأحداث في هذا المجال الحساس. ولكن إذا ترجمت هذه الفرضية على أرض الواقع، فستحصل متغيرات ضخمة على نطاق العالم، وأكبرها في الشرق الأوسط.
عند تناول مثل هذا الاحتمال لا بد من القول، في بادئ الأمر، إن التواجد الأمريكي في الشرق الأوسط ظاهرة ذات تاريخ قصير، نسبيا. ذلك أن دخول الولايات المتحدة الملحوظ إلى المنطقة لم يبدأ إلا في الخمسينات من القرن الماضي. وكان سببه اقتصاديا - تجاريا بحتا يعود في المقام الأول إلى حاجة هذه الدولة الكبرى إلى موارد طاقة إضافية.
وللسبب ذاته أخذت أهمية نفط الشرق الأوسط بالنسبة لأمريكا في ازدياد مستمر منذ بداية سبعينات القرن الماضي حين صار استخراج النفط الوطني من الآبار الأمريكية يتقلص أكثر فأكثر. وقد يبدو، للوهلة الأولى، أنه إذا زالت حاجة أمريكا هذه في المستقبل المنظور، وفق تنبؤات وكالة الطاقة الدولية، فلن تحتاج واشنطن إلى التدخل في العمليات المعقدة والغامضة التي تجري في العالم العربي.
وما يدعم هذا الانطباع الأولي أنه بات مرئيا من الآن، ونحن نقترب من نهاية السنة الثانية لانطلاقة "الربيع العربي"، أن الولايات المتحدة تحاول اللحاق فقط بتطور الأحداث في المنطقة أكثر من القيام برسم مجراها بشكل استباقي. ذلك أن حملة "إشاعة الديمقراطية" التي علقت واشنطن الآمال الكبيرة عليها، أدت إلى تآكل الأساس ذاته للتواجد الأمريكي في هذا الجزء من العالم. إلا أن الأمريكان لن يستطيعوا ترك الشرق الأوسط وشأنه ببساطة عن طريق التخلص من الاعتماد على موارد الطاقة المستوردة من هذه المنطقة.
هناك عدة قضايا محورية تحول دون تحقيق "سيناريو الانسحاب"، وفي مقدمتها مشكلة إسرائيل، إذ يعتبر ضمان أمن الدولة العبرية من الأولويات الثابتة لأي إدارة أمريكية بغض النظر عن انتمائها الحزبي أو توجهاتها الإيديولوجية. بل وأكثر من ذلك، ففي حال إقدام واشطن على تغيير أسلوبها "الناعم" في التعامل مع حلفائها وشركائها العرب كليا قد تتخذ مهمتها الخاصة بحماية إسرائيل طابعا عسكريا صريحا يتجسد في نشر قوات أمريكية في أراضيها بشكل دائم لتجد إسرائيل نفسها في وضع التبعية الكاملة للولايات المتحدة، من جهة، ولاعبة دور "مرساة" لا تسمح لأمريكا بـ"الإبحار" عن المنطقة، من جهة أخرى.
أما السبب الثاني فيعود إلى وجود "عامل إزعاج صيني"، حيث ستصبح بكين زبونا رئيسيا على صعيد شراء نفط الشرق الأوسط وبكميات هائلة في حال كفت الولايات المتحدة عن استهلاكه. مع العلم أن واشنطن تنظر إلى الصين الشعبية باعتبارها خصما إستراتيجيا خطيرا لها بدليل أن صياغة نهج أمريكي قوي لكبح جماح بكين بوسائل وأساليب مختلفة ترتسم في الولايات المتحدة ملامح واضحة أكثر فأكثر من الآن. ومما لا شك فيه أن واشنطن ستبذل كل ما في وسعها لمنع استخدام موارد الشرق الأوسط النفطية في خدمة الأهداف الصينية قبل غيرها. وستعمل الولايات المتحدة في هذا السياق على ضمان مواصلة توريد نفط المنطقة إلى أوروبا (بهدف الحيلولة دون وقوع القارة العجوز أيضا في التبعية لروسيا في مجال الموارد الهيدروكربونية)، وإلى الهند واليابان اللتين لا تعتبرهما أمريكا بالنسبة لها من "المنافسين الخطيرين".
وهناك سبب ثالث يحول دون صرف انتباه أمريكا عن الشرق الأوسط لاحقا فهو يؤول إلى قضية تقرير مصير المنطقة كلها. فرغم أن قيام دولة خلافة جديدة يبدو أمرا مشكوكا في احتمال حدوثه نظرا للتناقضات الحادة التي تفرق بين أعضاء العالم الإسلامي، قد تتشكل، نظريا، ظروف في المستقبل (بسبب سياسة إسرائيل، مثلا) تساعد على تلاحم وتوحيد المسلمين ضد "العدوين اليهودي والمسيحي" المشتركين.
لكن الاحتمال الأكثر واقعية في هذا الصدد هو أن أي تغيرات جيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط ستجد صدى مدويا لها في الغرب حيث سيزداد عدد المسلمين أكثر فأكثر بلا شك على مر السنين. صحيح أن هذا الأمر سينطبق على أوروبا، بالدرجة الأولى، إلا أن الولايات المتحدة هي الأخرى ستحس وفي داخل كيانها بتعاظم تأثير العامل الإسلامي. لذا لن يفقد الشرق الأوسط في يوم من الأيام أهميته ومكانته الإستراتيجيتين بالنسبة لأمريكا حتى في حال انتفاء حاجة الولايات المتحدة إلى موارده النفطية.
وهناك موضوع منفرد ومتصل في آن معا بهذا الخصوص يتعلق بروسيا في ضوء تقرير وكالة الطاقة الدولية الآنف الذكر. لقد تنبأ واضعو هذه الوثيقة باحتمال تراجع موسكو من واجهة الأحداث إلى الصف الثاني في مجال الطاقة في المستقبل المنظور بسبب التحولات المحتملة فيه مما سيؤدي، في رأيهم، إلى انخفاض إيراداتها من صادرات النفط وغيره من موارد الطاقة وسيؤثر حتما على قدرتها على استخدام هذه الأدوات لأغراض سياسية. لكن الحق يقال إن هناك رأيا آخر منتشرا بين الخبراء مفاده أن مشاكل قطاع الطاقة الروسي لا تكمن في توقعات زيادة إنتاج الهيدروكربونات في الولايات المتحدة بقدر ما تعود أسبابها إلى فعاليته المتدنية. فالرهان على إنشاء وتطوير الشركات الكبرى ذات الوضع الاحتكاري أو شبه الاحتكاري في السوق الوطنية الداخلية حال دون اعتماد نهج مرن من قبلها وعدم تعاملها مع المستجدات الحاصلة في الخارج بسرعة مطلوبة.
فمن أمثلة تداعيات انعدام المرونة هذه أن شركة الغاز الروسية العملاقة "غازبروم" المدعومة من جانب القيادة السياسية الروسية كانت تقول حتى الآونة الأخيرة إن التقلبات التي تحملها في طياتها "ثورة الغاز المستخرج من الطين الصفحي" لا تخصها، حتى اضطر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أخيرا إلى الاعتراف بأن الوضع في الأسواق العالمية من جراء بروز تلك الظاهرة صار يتغير ليس في صالح موردي الهيدروكربونات الروس.
وقد يكون لتقرير وكالة الطاقة الدولية الأخير تأثير مماثل لـ الدوش البارد" لكي يحث منتجي النفط والغاز في روسيا على إحداث تغييرات في نشاطهم الإنتاجي والتكنولوجي والبحثي يتطلبها الزمن بإلحاح.
المقال تعبر عن رأى صاحبها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق