أغلبية اللحى..
فى كاريكاتير ظريف للفنان الموهوب سمير عبدالغنى (نشر فى جريدة القاهرة فى 13/11/2012) يظهر سبعة رجال ملتحون، ينظرون بانتصار وزهو إلى رجل أصغر منهم حجما بكثير، وليس ملتحيا، وقد نظر إليهم بخوف شديد وانكسار، وهم يقولون له «احنا الأغلبية!». وجدت فى هذا الرسم، على الرغم من بساطته الشديدة، والذى لا يقترن به أكثر من كلمتين، ما يلخص أحسن تلخيص جانبا مهما من حياتنا السياسية الآن، بل لعله أهم جوانبها على الإطلاق.
نحن أمام مجموعة من الناس يدعون أنهم يمثلون أغلبية الشعب المصرى، وقد يكون حصولهم على أكبر عدد من الأصوات فى انتخابات مجلس الشعب وانتخابات رئيس الجمهورية، صحيحا وبلا تزوير. المشكلة هى: ما هو بالضبط البرنامج الذى قدمه حزبهم لإقناع الناس بأنه أجدر من غيره فى انتخابات مجلس الشعب، أو الذى قدمه الرئيس المنتخب لإقناع الناس بأنه أجدر برئاسة الجمهورية من سائر المرشحين لها؟ إنى أزعم أنه لا الحزب ولا الرئيس المنتخب أو أنصارهما قدموا للناس مسوغا لانتخابهم أكثر من قولهم إنهم «متدينون».
هذا فى رأيى هو مغزى هذا الكاريكاتير الرائع. إنه بالطبع ينطوى على تبسيط شديد للواقع، ولكن هل تنتظر من الكاريكاتير أن يقدم لنا الحجج والأسباب، وأن يرد على الاعتراضات، أم يكفى أنه يلتقط المغزى المهم لما يجرى ويعبر عنه فى رسم بسيط مقترن بكلمة أو كلمتين؟
إن أعدادا غفيرة من المصريين مستعدون لإعطاء أصواتهم لرجل تبدو عليه مظاهر التدين بدلا من إعطائها لشخص آخر لا تبدو عليه هذه المظاهر، وأن يستغنوا بذلك عن السؤال عما إذا كان الرجل صالحا حقا، صادقا حقا، يحب الوطن حقا، أم أنه مشغول عن ذلك بأمور دنيوية لا تنطوى على صلاح أو صدق أو وطنية؟
من الأمثلة الحديثة على ذلك والتى حفلت بها حياتنا السياسية مؤخرا، صورة رأيتها فى بعض الصحف وعلقت بذهنى، لرجل ذى لحية كثيفة، فاز بعضوية مجلس الشعب ممثلا لحزب سلفى، واكتُشف أنه ذهب ومعه مبلغ كبير من المال (قيل إنه عشرات الألوف من الجنيهات) لإجراء عملية تجميل لتصغير أنفه الكبير، ولكنه ذهب أيضا إلى قسم الشرطة مدعيا سرقة المال، ومختلقا قصة مختلفة تماما عن الحقيقة. ثبت الكذب على الرجل، وطالب البعض بفصله من الحزب السلفى، وطالب آخرون بإسقاط عضويته فى مجلس الشعب. ولكنى رأيته فى الصورة، قبل أن تسقط عضويته فى هذا أو ذاك، يصافح بعض أعضاء مجلس الشعب الملتحين بعد نشر القصة كلها وتداولها فى الصحف، فإذا بى أشاهد على وجوه مصافحيه ابتسامات رائعة تحمل علامات التقدير والتشجيع، وكأنهم يقولون له «حذار من أن تدع ما حدث يعكر من صفوك!». سألت نفسى حينئذ: «ما كل هذا التآزر والتعاضد؟ هل يمكن أن يكون مجرد اشتراكهم فى إطلاق اللحية هو السبب؟».
ما أسهل هذا الاختصار للفضيلة، ولكن ما أبعده أيضا عن الحقيقة. فالفضيلة لحسن الحظ صفة أكثر تعقيدا بكثير وقلما يكون لها مظهر مادى. وليس فى هذا بالطبع اكتشاف خطير. أو تقرير شىء جديد لا يعرفه الناس من قديم الزمن. فما أكثر ما أتى فى القرآن الكريم ذكر «المنافقين»، والتحذير منهم، وما أكثر ما سخرت الأعمال الأدبية على مر العصور ولدى مختلف الأمم، ممن يتظاهرون بالفضيلة والورع دون أن يكونوا أتقياء ورعين. فما الذى يفسر استمرار أعداد كبيرة منا فى تكرار الوقوع فى هذا الخطأ، أقصد خطأ اختصار الفضيلة فى عمل مادى يراه الجميع، سواء اقترن أو لم يقترن بورع حقيقى أو بدافع نبيل؟
لا تكفى فى تفسير ذلك، فى رأيى، الإشارة إلى مستوى التعليم والثقافة أو انتشار الأمية، فهناك ما يدل على أن ظاهرة اختصار الفضيلة يمكن أن توجد بين المتعلمين والأميين، وقد تظهر فى أمم جرت العادة على اعتبارها أمما متقدمة. وهى على أى حال ظاهرة ليست مقصورة على المتدينين أو مدعى التدين.
إنى أعتبر من قبيل «اختصار الفضيلة» ما كنت ألاحظه على بعض معارفى وأصدقائى من الماركسيين المتزمتين، الذين يكثرون بلا داع من إقحام عبارات مشهورة بدلالتها على اعتناق الماركسية، فى حديثهم وكتاباتهم، وكأن مجرد استخدام تعبير مثل «الجدلية» أو «الديالكتيكية»، أو «صراع الطبقات»، أو «الحتمية التاريخية» أو البرولتياريا أو قوى الإنتاج أو البناء الفوقى...الخ، كاف لتمرير أى حجة، بل لقد كان مثل هذه العبارات والمصطلحات يستخدم لتعرف بعضهم على بعض، فيطمئن الماركسى لرجل لم يعرفه جيدا بعد، إذا رآه يستخدم لفظ «الديالكتيك» مثلا بدلا من استخدام التعبيرات الأبسط والتى تدل على نفس المعنى، كالتطور أو التأثير المتبادل...إلخ، مثلما تستخدم اللحية الآن فى تعرف المنتمين للتيار الدينى، بعضهم على بعض، أو كالإصرار على اقتطاف بعض التعبيرات أو النصوص المستمدة من التراث الدينى حتى وإن كان تفسيرها يحتمل أكثر من معنى، وكان بعض هذه المعانى فقط هو الذى يؤيد رأى من يقتطفها.
نحن نرى أيضا من بين الذين يمارسون بيننا هذا «الاختصار للفضيلة»، أشخاصا على مستوى عال من التعليم، فمنهم الأطباء والمهندسون، وحاملو شهادات الدكتوراة فى مختلف فروع العلم، وأساتذة فى الجامعات، فإذا بهم يصرون على إطلاق اللحية، وكأنها شهادة كافية للانضمام لفريق المتقين الورعين، وقد استخدم الرئيس محمد مرسى أسلوبا مماثلا فى الرد على معارضيه الذين انتقدوا اصطحابه لعدد كبير من الضباط والجنود لحراسته وهو ذاهب للصلاة فى المسجد، وأشاروا إلى ما تتحمله خزانة الدولة بسبب ذلك من تكاليف، وقد كان من الممكن أن يكتفى بحراس أقل عددا بكثير، بل وبأداء الصلاة فى المسجد المتاح له فى القصر الجمهورى نفسه، قال الرئيس ردا على ذلك ما معناه أنه يشك فى أن هؤلاء الذين ينتقدونه يقومون بأداء صلاة الفجر مثله فى موعدها. ما الذى يمكن أن يكون قد دفع رئيس الجمهورية إلى الرد على نقد سياسى بإثارة موضوع أداء الشعائر الدينية؟ وما الذى يجعله يتخذ من أداء إحدى هذه الشعائر دليلا كافيا على صحة النقد أو عدم صحته؟
الرئيس حاصل على الدكتوراة فى أحد العلوم الطبيعية، وكان أستاذا فى الجامعة قبل توليه رئاسة الجمهورية، فما الذى يدفعه إلى هذا النوع من «اختصار الفضيلة»؟ إن التفسير الذى أميل إليه لهذه الظاهرة، لا يتعلق بمستوى التعليم أو الثقافة، بل برغبة عارمة فى الاندماج فى جماعة كبيرة من الناس، والتوحد معها. إن من الممكن للمرء أن يكون فاضلا وورعا دون أن يكون لهذا أى مظهر خارجى يراه الناس، ولكن لا يمكن أن ينضوى المرء فى جماعة كبيرة من الناس وأن يتوحد معها دون بعض المظاهر الخارجية. ولكن هذه المظاهر الخارجية يمكن للأسف أن تكون خادعة، إذ من الممكن أن تكون منبتة الصلة بما يجرى فى داخل الذهن أو يشعر به القلب. وجود اللحية مثلا أو غيابها، وطولها وقصرها، لا يمكن أن يكون مقياسا صحيحا لدرجة التقوى والورع، ولكن لها ميزة أنها تسهل على الناس تعرف بعضهم على بعض، وتمنح شعورا بالدفء والحميمية بين مجموعة من الناس قرروا الخروج بها على الملأ، وقد تزيد من قوتهم إزاء من لا يظهر بنفس مظهرهم. الأدهى من ذلك أنهم قد ينجحون فى إقناع الناس الذين يتوقون إلى تطبيق الديمقراطية، بأن أسهل طريقة للتمييز بين الآراء المختلفة والبرامج السياسية المتباينة، وكذلك بين القادرين على تحقيق نهضة المجتمع وغير القادرين، هى تميبز الملتحين عن غير الملتحين، وبهذا تحل كل مشاكل التمييز بين الخطأ والصواب، وبين الحق والباطل، فإذا قبل الناس ذلك المعيار فما أسعدنا فى هذه الحالة إذا ظفرنا «بأغلبية اللحى».
نحن أمام مجموعة من الناس يدعون أنهم يمثلون أغلبية الشعب المصرى، وقد يكون حصولهم على أكبر عدد من الأصوات فى انتخابات مجلس الشعب وانتخابات رئيس الجمهورية، صحيحا وبلا تزوير. المشكلة هى: ما هو بالضبط البرنامج الذى قدمه حزبهم لإقناع الناس بأنه أجدر من غيره فى انتخابات مجلس الشعب، أو الذى قدمه الرئيس المنتخب لإقناع الناس بأنه أجدر برئاسة الجمهورية من سائر المرشحين لها؟ إنى أزعم أنه لا الحزب ولا الرئيس المنتخب أو أنصارهما قدموا للناس مسوغا لانتخابهم أكثر من قولهم إنهم «متدينون».
هذا فى رأيى هو مغزى هذا الكاريكاتير الرائع. إنه بالطبع ينطوى على تبسيط شديد للواقع، ولكن هل تنتظر من الكاريكاتير أن يقدم لنا الحجج والأسباب، وأن يرد على الاعتراضات، أم يكفى أنه يلتقط المغزى المهم لما يجرى ويعبر عنه فى رسم بسيط مقترن بكلمة أو كلمتين؟
إن أعدادا غفيرة من المصريين مستعدون لإعطاء أصواتهم لرجل تبدو عليه مظاهر التدين بدلا من إعطائها لشخص آخر لا تبدو عليه هذه المظاهر، وأن يستغنوا بذلك عن السؤال عما إذا كان الرجل صالحا حقا، صادقا حقا، يحب الوطن حقا، أم أنه مشغول عن ذلك بأمور دنيوية لا تنطوى على صلاح أو صدق أو وطنية؟
من الأمثلة الحديثة على ذلك والتى حفلت بها حياتنا السياسية مؤخرا، صورة رأيتها فى بعض الصحف وعلقت بذهنى، لرجل ذى لحية كثيفة، فاز بعضوية مجلس الشعب ممثلا لحزب سلفى، واكتُشف أنه ذهب ومعه مبلغ كبير من المال (قيل إنه عشرات الألوف من الجنيهات) لإجراء عملية تجميل لتصغير أنفه الكبير، ولكنه ذهب أيضا إلى قسم الشرطة مدعيا سرقة المال، ومختلقا قصة مختلفة تماما عن الحقيقة. ثبت الكذب على الرجل، وطالب البعض بفصله من الحزب السلفى، وطالب آخرون بإسقاط عضويته فى مجلس الشعب. ولكنى رأيته فى الصورة، قبل أن تسقط عضويته فى هذا أو ذاك، يصافح بعض أعضاء مجلس الشعب الملتحين بعد نشر القصة كلها وتداولها فى الصحف، فإذا بى أشاهد على وجوه مصافحيه ابتسامات رائعة تحمل علامات التقدير والتشجيع، وكأنهم يقولون له «حذار من أن تدع ما حدث يعكر من صفوك!». سألت نفسى حينئذ: «ما كل هذا التآزر والتعاضد؟ هل يمكن أن يكون مجرد اشتراكهم فى إطلاق اللحية هو السبب؟».
•••
لا تكفى فى تفسير ذلك، فى رأيى، الإشارة إلى مستوى التعليم والثقافة أو انتشار الأمية، فهناك ما يدل على أن ظاهرة اختصار الفضيلة يمكن أن توجد بين المتعلمين والأميين، وقد تظهر فى أمم جرت العادة على اعتبارها أمما متقدمة. وهى على أى حال ظاهرة ليست مقصورة على المتدينين أو مدعى التدين.
إنى أعتبر من قبيل «اختصار الفضيلة» ما كنت ألاحظه على بعض معارفى وأصدقائى من الماركسيين المتزمتين، الذين يكثرون بلا داع من إقحام عبارات مشهورة بدلالتها على اعتناق الماركسية، فى حديثهم وكتاباتهم، وكأن مجرد استخدام تعبير مثل «الجدلية» أو «الديالكتيكية»، أو «صراع الطبقات»، أو «الحتمية التاريخية» أو البرولتياريا أو قوى الإنتاج أو البناء الفوقى...الخ، كاف لتمرير أى حجة، بل لقد كان مثل هذه العبارات والمصطلحات يستخدم لتعرف بعضهم على بعض، فيطمئن الماركسى لرجل لم يعرفه جيدا بعد، إذا رآه يستخدم لفظ «الديالكتيك» مثلا بدلا من استخدام التعبيرات الأبسط والتى تدل على نفس المعنى، كالتطور أو التأثير المتبادل...إلخ، مثلما تستخدم اللحية الآن فى تعرف المنتمين للتيار الدينى، بعضهم على بعض، أو كالإصرار على اقتطاف بعض التعبيرات أو النصوص المستمدة من التراث الدينى حتى وإن كان تفسيرها يحتمل أكثر من معنى، وكان بعض هذه المعانى فقط هو الذى يؤيد رأى من يقتطفها.
نحن نرى أيضا من بين الذين يمارسون بيننا هذا «الاختصار للفضيلة»، أشخاصا على مستوى عال من التعليم، فمنهم الأطباء والمهندسون، وحاملو شهادات الدكتوراة فى مختلف فروع العلم، وأساتذة فى الجامعات، فإذا بهم يصرون على إطلاق اللحية، وكأنها شهادة كافية للانضمام لفريق المتقين الورعين، وقد استخدم الرئيس محمد مرسى أسلوبا مماثلا فى الرد على معارضيه الذين انتقدوا اصطحابه لعدد كبير من الضباط والجنود لحراسته وهو ذاهب للصلاة فى المسجد، وأشاروا إلى ما تتحمله خزانة الدولة بسبب ذلك من تكاليف، وقد كان من الممكن أن يكتفى بحراس أقل عددا بكثير، بل وبأداء الصلاة فى المسجد المتاح له فى القصر الجمهورى نفسه، قال الرئيس ردا على ذلك ما معناه أنه يشك فى أن هؤلاء الذين ينتقدونه يقومون بأداء صلاة الفجر مثله فى موعدها. ما الذى يمكن أن يكون قد دفع رئيس الجمهورية إلى الرد على نقد سياسى بإثارة موضوع أداء الشعائر الدينية؟ وما الذى يجعله يتخذ من أداء إحدى هذه الشعائر دليلا كافيا على صحة النقد أو عدم صحته؟
الرئيس حاصل على الدكتوراة فى أحد العلوم الطبيعية، وكان أستاذا فى الجامعة قبل توليه رئاسة الجمهورية، فما الذى يدفعه إلى هذا النوع من «اختصار الفضيلة»؟ إن التفسير الذى أميل إليه لهذه الظاهرة، لا يتعلق بمستوى التعليم أو الثقافة، بل برغبة عارمة فى الاندماج فى جماعة كبيرة من الناس، والتوحد معها. إن من الممكن للمرء أن يكون فاضلا وورعا دون أن يكون لهذا أى مظهر خارجى يراه الناس، ولكن لا يمكن أن ينضوى المرء فى جماعة كبيرة من الناس وأن يتوحد معها دون بعض المظاهر الخارجية. ولكن هذه المظاهر الخارجية يمكن للأسف أن تكون خادعة، إذ من الممكن أن تكون منبتة الصلة بما يجرى فى داخل الذهن أو يشعر به القلب. وجود اللحية مثلا أو غيابها، وطولها وقصرها، لا يمكن أن يكون مقياسا صحيحا لدرجة التقوى والورع، ولكن لها ميزة أنها تسهل على الناس تعرف بعضهم على بعض، وتمنح شعورا بالدفء والحميمية بين مجموعة من الناس قرروا الخروج بها على الملأ، وقد تزيد من قوتهم إزاء من لا يظهر بنفس مظهرهم. الأدهى من ذلك أنهم قد ينجحون فى إقناع الناس الذين يتوقون إلى تطبيق الديمقراطية، بأن أسهل طريقة للتمييز بين الآراء المختلفة والبرامج السياسية المتباينة، وكذلك بين القادرين على تحقيق نهضة المجتمع وغير القادرين، هى تميبز الملتحين عن غير الملتحين، وبهذا تحل كل مشاكل التمييز بين الخطأ والصواب، وبين الحق والباطل، فإذا قبل الناس ذلك المعيار فما أسعدنا فى هذه الحالة إذا ظفرنا «بأغلبية اللحى».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق