لماذا ننتخب غدًا؟
زياد بهاء الدين
غدا يوم الحسم، إذ تنعقد أخيرا انتخابات الرئاسة التى طال انتظارها، والتى صارت فى نظر الكثيرين بمثابة المحطة الأخيرة والحاسمة فى مرحلة انتقالية أوشكت على الانتهاء.
ولكن للأسف أن هذه ليست الحقيقة. فانتخابات الغد ليست إلا محطة جديدة فى مشوار المرحلة الانتقالية الذى لم ينته بعد، وهى محطة مهمة بلا شك ولكنها ليست الأخيرة ولا الأهم. وسبب عدم اقتراب المرحلة الانتقالية من نهايتها هو أن الظروف العامة لانعقاد الانتخابات الرئاسية ظروف غير مواتية وغير مكتملة، وبالتالى لا تسمح بأن يكون انتخاب الرئيس حاسما للصراع على السلطة فى مصر، وذلك لثلاثة أسباب تتعلق ليس بشخص الرئيس القادم وإنما بالإطار الذى سوف يتسلم فيه مهمته الشاقة.
الانتخابات الرئاسية من جهة أولى ــ وكما كانت الانتخابات البرلمانية من قبلها ــ تنعقد فى إطار دستورى معيب: رئيس يتم انتخابه دون تحديد صلاحياته، ودستور لم يتم البدء فى كتابته بعد، وأسماء المرشحين لم تتحدد بشكل نهائى إلا منذ أيام قليلة، وقانون للعزل السياسى يتم تفصيله على عجل ثم لا يعمل به فى النهاية، ومخالفات واضحة لضوابط التمويل، دون أن ننسى طبعا أن قرارات اللجنة العليا للانتخابات (دونها دون كل قرار إدارى آخر فى طول مصر وعرضها) لا تخضع للرقابة القضائية وكأن «على رأسها ريشة». مرة أخرى تنعقد انتخابات مصيرية فى ظل فوضى قانونية ودستورية لا تليق بمصر ولا بتراثها القانونى ولا بما يستحقه الناس بعد طول عناء وتضحيات، وهذا فى حد ذاته سوف ينتقص من مصداقية وأهمية الانتخابات الرئاسية، ويجعل الرئيس القادم أسيرا للصراع بين الحكومة والبرلمان والرئاسة وعدم وضوح قواعد تقسيم السلطات فيما بينها كما كان الحال فى الأسابيع الماضية.
الانتخابات الرئاسية من جهة ثانية تأتى فى ظل ظروف سياسية واقتصادية صعبة. فبعد تفاؤل قصير عقب الانتخابات البرلمانية بأن البلد قد يكون على بداية مسار ديمقراطى، إذ بنا ننتقل من أزمة تلو الأخرى. الأداء البرلمانى جاء مخيبا لآمال الجماهير وعاجزا عن التصدى بشكل فعال لقضايا ومشاكل المجتمع. وفكرة التوافق بين القوى والأحزاب السياسية تعرضت لانتكاسة كبرى بسبب أسلوب تشكيل الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور وغيرها من القضايا المهمة التى لم تصل فيها الأحزاب لاتفاق. والتعاون المطلوب بين الحكومة والبرلمان لتسيير أمور البلاد انهار بسبب الصراع بين البرلمان والمجلس العسكرى على صلاحية سحب الثقة من الحكومة. والحكومة والجهاز الإدارى التابع لها أصيبا بالشلل بسبب عدم وضوح الصلاحيات والأولويات وغياب الإمكانات وكذلك بسبب حالة الرعب التى انتابت العاملين فى الدولة من أن تطالهم تهم الفساد (الحقيقى منها والكيدى) فتوقف الجميع عن العمل فى انتظار انفراجة ما، وكان الثمن على الاقتصاد فادحا. حتى فكرة القانون والعدالة ذاتها ــ أساس الدولة الحديثة ــ تراجعت مع تكرار التدخل فى شئون القضاء ومحاولة النيل من استقلاله وإهدار ضمانات التقاضى وأخذ الناس بالشبهات وبالضغط الشعبى والإعلامى. وسوء إدارة المرحلة الانتقالية حتى الآن يعنى أن انتخابات الرئاسة تأتى والبلد فى حالة من التوتر والاتقسام البالغين، وبالتالى أن الرئيس القادم، أيا كان اسمه ومهما بلغت نسبة التصويت له، سوف يتسلم عمله فى ظل هذا الوضع الاقتصادى الصعب، والصراع بين مؤسسات وأجهزة الدولة على نصيب كل منها من الحكم. وللأسف أن هذا الحصاد للفترة الماضية لم يكن حتميا أو ضروريا، بل تسبب فيه سوء إدارة البلاد وعجز الأطراف المختلفة عن الاتفاق على الحد الأدنى من المواقف والسياسات التى كان يمكن أن تجعلنا فى موقف أفضل يسمح لرئيس جديد بأن يبدأ مرحلة جديدة.
وأخيرا فإن الرئيس القادم سيستلم عمله بينما العديد من القضايا الكبرى والمصيرية لم يحسم بعد، وعلى رأسها موقع القوات المسلحة فى إدارة الدولة وفى الاقتصاد وفى الدستور. هذا الموضوع لم يتم التوافق عليه بين القوى السياسية الفاعلة رغم أنها قضية محورية ويتوقف عليها انتهاء المرحلة الانتقالية ونجاح انتقال السلطة من حكم عسكرى إلى حكم مدنى. قد يكون الموضوع مطروحا فى الغرف والقاعات المغلقة، ولكن عدم حسمه علنا وبشكل يقبله المجتمع وتتفق عليه القوى السياسية يعنى أن الصراع على السلطة سيظل غير محسوم وأن الرئيس الذى سيتسلم مقاليد الحكم من المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى نهاية الشهر المقبل لن يكون كامل الصلاحيات ولا قادرا على مزاولة مقتضيات عمله بشكل حقيقى وأن علامة استفهام كبرى سوف تظل معلقة فوق المسار السياسى بأكمله إلى أن يتحدد موقع القوات المسلحة فى المجتمع.
إذا كانت هذه المواضيع أو القضايا الثلاث الكبرى (الإطار الدستورى للانتخابات، وحصاد إدارة البلد فى المرحلة الانتقالية، وغموض موقع القوات المسلحة فى الدولة مستقبلا) ستضع بالضرورة قيودا وعوائق أمام الرئيس القادم وتهدد بأن تجعله أسير عملية انتقال لم تكتمل بعد، فلماذا ننتخب أصلا؟
والإجابة من وجهة نظرى بسيطة، وهى أننا سوف ننتخب لأن الانتخاب صار حقا لا ينبغى التفريط فيه لأى سبب، مهما كانت ظروف الانتخابات غير مواتية أو حتى معيبة، ولأن الانتخاب هو الوسيلة الوحيدة لتفويت الفرصة على من يريد لمستقبل الديمقراطية ــ بكل عيوبها ومشاكلها ــ أن تتعثر، ولأنه وسيلة الناس فى التعبير عن رفضهم للمناورات والصراعات بين القوى السياسية، ولأن المجتمع بحاجة للتعبير عن اختياراته لكى يدرك السياسيون أن من أتى بهم لمواقعهم بمقدوره أيضا أن يطيح بهم فى أى وقت. سوف ننتخب غدا وبعد غد وربما فى الإعادة لأن عدم الانتخاب سيكون استسلاما وقبولا لاستمرار الوضع الحالى المنقسم. قد لا تأتى الانتخابات برئيس مكتمل وواضح الصلاحيات، وقد لا تكون المحطة الأخيرة فى المرحلة الانتقالية، ولكن الفائز منها فى جميع الأحوال هو الناخبون الذين بيدهم وحدهم أن يصحلوا ما أفسده السياسيون.
زياد بهاء الدين
غدا يوم الحسم، إذ تنعقد أخيرا انتخابات الرئاسة التى طال انتظارها، والتى صارت فى نظر الكثيرين بمثابة المحطة الأخيرة والحاسمة فى مرحلة انتقالية أوشكت على الانتهاء.
ولكن للأسف أن هذه ليست الحقيقة. فانتخابات الغد ليست إلا محطة جديدة فى مشوار المرحلة الانتقالية الذى لم ينته بعد، وهى محطة مهمة بلا شك ولكنها ليست الأخيرة ولا الأهم. وسبب عدم اقتراب المرحلة الانتقالية من نهايتها هو أن الظروف العامة لانعقاد الانتخابات الرئاسية ظروف غير مواتية وغير مكتملة، وبالتالى لا تسمح بأن يكون انتخاب الرئيس حاسما للصراع على السلطة فى مصر، وذلك لثلاثة أسباب تتعلق ليس بشخص الرئيس القادم وإنما بالإطار الذى سوف يتسلم فيه مهمته الشاقة.
الانتخابات الرئاسية من جهة أولى ــ وكما كانت الانتخابات البرلمانية من قبلها ــ تنعقد فى إطار دستورى معيب: رئيس يتم انتخابه دون تحديد صلاحياته، ودستور لم يتم البدء فى كتابته بعد، وأسماء المرشحين لم تتحدد بشكل نهائى إلا منذ أيام قليلة، وقانون للعزل السياسى يتم تفصيله على عجل ثم لا يعمل به فى النهاية، ومخالفات واضحة لضوابط التمويل، دون أن ننسى طبعا أن قرارات اللجنة العليا للانتخابات (دونها دون كل قرار إدارى آخر فى طول مصر وعرضها) لا تخضع للرقابة القضائية وكأن «على رأسها ريشة». مرة أخرى تنعقد انتخابات مصيرية فى ظل فوضى قانونية ودستورية لا تليق بمصر ولا بتراثها القانونى ولا بما يستحقه الناس بعد طول عناء وتضحيات، وهذا فى حد ذاته سوف ينتقص من مصداقية وأهمية الانتخابات الرئاسية، ويجعل الرئيس القادم أسيرا للصراع بين الحكومة والبرلمان والرئاسة وعدم وضوح قواعد تقسيم السلطات فيما بينها كما كان الحال فى الأسابيع الماضية.
الانتخابات الرئاسية من جهة ثانية تأتى فى ظل ظروف سياسية واقتصادية صعبة. فبعد تفاؤل قصير عقب الانتخابات البرلمانية بأن البلد قد يكون على بداية مسار ديمقراطى، إذ بنا ننتقل من أزمة تلو الأخرى. الأداء البرلمانى جاء مخيبا لآمال الجماهير وعاجزا عن التصدى بشكل فعال لقضايا ومشاكل المجتمع. وفكرة التوافق بين القوى والأحزاب السياسية تعرضت لانتكاسة كبرى بسبب أسلوب تشكيل الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور وغيرها من القضايا المهمة التى لم تصل فيها الأحزاب لاتفاق. والتعاون المطلوب بين الحكومة والبرلمان لتسيير أمور البلاد انهار بسبب الصراع بين البرلمان والمجلس العسكرى على صلاحية سحب الثقة من الحكومة. والحكومة والجهاز الإدارى التابع لها أصيبا بالشلل بسبب عدم وضوح الصلاحيات والأولويات وغياب الإمكانات وكذلك بسبب حالة الرعب التى انتابت العاملين فى الدولة من أن تطالهم تهم الفساد (الحقيقى منها والكيدى) فتوقف الجميع عن العمل فى انتظار انفراجة ما، وكان الثمن على الاقتصاد فادحا. حتى فكرة القانون والعدالة ذاتها ــ أساس الدولة الحديثة ــ تراجعت مع تكرار التدخل فى شئون القضاء ومحاولة النيل من استقلاله وإهدار ضمانات التقاضى وأخذ الناس بالشبهات وبالضغط الشعبى والإعلامى. وسوء إدارة المرحلة الانتقالية حتى الآن يعنى أن انتخابات الرئاسة تأتى والبلد فى حالة من التوتر والاتقسام البالغين، وبالتالى أن الرئيس القادم، أيا كان اسمه ومهما بلغت نسبة التصويت له، سوف يتسلم عمله فى ظل هذا الوضع الاقتصادى الصعب، والصراع بين مؤسسات وأجهزة الدولة على نصيب كل منها من الحكم. وللأسف أن هذا الحصاد للفترة الماضية لم يكن حتميا أو ضروريا، بل تسبب فيه سوء إدارة البلاد وعجز الأطراف المختلفة عن الاتفاق على الحد الأدنى من المواقف والسياسات التى كان يمكن أن تجعلنا فى موقف أفضل يسمح لرئيس جديد بأن يبدأ مرحلة جديدة.
وأخيرا فإن الرئيس القادم سيستلم عمله بينما العديد من القضايا الكبرى والمصيرية لم يحسم بعد، وعلى رأسها موقع القوات المسلحة فى إدارة الدولة وفى الاقتصاد وفى الدستور. هذا الموضوع لم يتم التوافق عليه بين القوى السياسية الفاعلة رغم أنها قضية محورية ويتوقف عليها انتهاء المرحلة الانتقالية ونجاح انتقال السلطة من حكم عسكرى إلى حكم مدنى. قد يكون الموضوع مطروحا فى الغرف والقاعات المغلقة، ولكن عدم حسمه علنا وبشكل يقبله المجتمع وتتفق عليه القوى السياسية يعنى أن الصراع على السلطة سيظل غير محسوم وأن الرئيس الذى سيتسلم مقاليد الحكم من المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى نهاية الشهر المقبل لن يكون كامل الصلاحيات ولا قادرا على مزاولة مقتضيات عمله بشكل حقيقى وأن علامة استفهام كبرى سوف تظل معلقة فوق المسار السياسى بأكمله إلى أن يتحدد موقع القوات المسلحة فى المجتمع.
إذا كانت هذه المواضيع أو القضايا الثلاث الكبرى (الإطار الدستورى للانتخابات، وحصاد إدارة البلد فى المرحلة الانتقالية، وغموض موقع القوات المسلحة فى الدولة مستقبلا) ستضع بالضرورة قيودا وعوائق أمام الرئيس القادم وتهدد بأن تجعله أسير عملية انتقال لم تكتمل بعد، فلماذا ننتخب أصلا؟
والإجابة من وجهة نظرى بسيطة، وهى أننا سوف ننتخب لأن الانتخاب صار حقا لا ينبغى التفريط فيه لأى سبب، مهما كانت ظروف الانتخابات غير مواتية أو حتى معيبة، ولأن الانتخاب هو الوسيلة الوحيدة لتفويت الفرصة على من يريد لمستقبل الديمقراطية ــ بكل عيوبها ومشاكلها ــ أن تتعثر، ولأنه وسيلة الناس فى التعبير عن رفضهم للمناورات والصراعات بين القوى السياسية، ولأن المجتمع بحاجة للتعبير عن اختياراته لكى يدرك السياسيون أن من أتى بهم لمواقعهم بمقدوره أيضا أن يطيح بهم فى أى وقت. سوف ننتخب غدا وبعد غد وربما فى الإعادة لأن عدم الانتخاب سيكون استسلاما وقبولا لاستمرار الوضع الحالى المنقسم. قد لا تأتى الانتخابات برئيس مكتمل وواضح الصلاحيات، وقد لا تكون المحطة الأخيرة فى المرحلة الانتقالية، ولكن الفائز منها فى جميع الأحوال هو الناخبون الذين بيدهم وحدهم أن يصحلوا ما أفسده السياسيون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق