الجمعة، 30 نوفمبر 2012



مصر بين مونتسكيو والجوع
 
عناية جابر

 
2012-11-29

 
مصر تعود الى الساحات من جديد لترفض شكلاً ما رفضته منذ أكثر من عام: السلطة المحتكرة. الأخوان المسلمون لم يستطيعوا بالرغم من جماهيريتهم ومن إسلاميتهم أن يقنعوا الجمهور الواسع بنظرتهم الأحادية للأمور. تعقدت الصورة والمشهد صار مركبا. أهل مصر يرفضون الحكم الأخواني بذاته ويرفضون شكله المقترح ويعتبرونه عودة الى الدكتاتورية. وما العجب في الأمر لا سيما عندما نعلم أن الإنتخابات الديموقراطية حصلت بدون برامج سياسية واضحة يحاسب الرابح على أساسها. الإنتخابات سواء في تونس أم في مصر كانت أشبه باستفتاء ضد الماضي كماض ولم تعنَ بالمستقبل ولا بما يريد الناس من الحكم، أي حكم. صار من الصعب على أي مراقب فهم المشهد العربي العام اليوم من خلال ما يجري في مصر حاليا وبغض النظر عن النتائج التي قد تؤول اليها. 
الصراع اليوم، كما يبدو من خلال المشهد المصري، يتمحور حول الدستور وقواعد السلطة الأساسية وتقوده قوى سياسية مؤتلفة ضد قوة تدعي الإسلام منهجاً. ورغم ذلك يظهر أن الجمهور الواسع لم يهضم هذا 'الإسلام' بالذات. أما كيف أجريت انتخابات رئاسية قبل وضع الدستور وقبل تحديد قواعد اللعبة والإتفاق عليها مسبقا فلم يكلف أحد نفسه عناء التوقف عندها. قد يقول قائل جرى ذلك تحت ضغط الصراع مع العسكر يومها حين كان المجلس العسكري يدير شؤون البلاد بعد سقوط رأس مبارك. وهذا بالطبع صحيح لكن الصحيح أيضا أن الصراع ما زال في أول السكة كما يقول المصريون.
طالما أن المعركة السياسية تدور حول القواعد الأساسية للحكم لا حول الرؤى المستقبلية فإن الثورة الحقيقية ما تزال تنتظر من يعلنها. لا زلنا على الأغلب في حالة تغيير الطرابيش وفي حالة الصراع على السلطة لا على النظام. ما نشهده حاليا هو رفض من قبل جمهور واسع ل'نوع' معين من السياسيين لا لسياستهم. الرفض يطال نخبة تدعي الإسلام لا برنامجها للحكم. وهل طرحت هذه النخبة برنامجا للحكم؟ على أي حال فإن 'المسلمين' في مصر شعب مصر، يرفضون اليوم بأغلبيتهم حكم الإسلام الاخواني وبشكل صريح. 
لكن إذا صح ذلك هل علينا أن نتوقع رد الفعل ذاته في تونس وفي ليبيا ايضا؟ وهل ارتماء حماس الفلسطينية في أحضان الإخوان المصريين جاء متسرعا ومحكوما عليه بالفشل، فشل الحاضن؟ وهل ستخسر حماس الفلسطينية في مصر ما كسبته في حرب غزة الأخيرة ضد الاسرائيلي؟ هل سيدفع الإخوان المسلمون 'العرب' أثمان أخطائهم بهذه السرعة؟ اسئلة كثيرة تتدافع في ذهن المراقب الحذر اليوم على قاعدة المشهد المصري الذي يبدو وكأنه محطة تحول مهمة جدا على طريق الربيع العربي.
ما تطرحه الانتفاضة الجديدة في الميدان المصري يتعدى حتما الإطار المصري ليطال السياسة بمضمونها الفعلي عند الإخوان المسلمون 'العرب'. الإعتراض اليوم ليس فقط على مسائل دستورية مصرية بل على سياسة شاملة ترتسم دون إعلان وتهدف بالواقع إلى تعزيز السياسات القديمة وتأبيدها. فلا تغيير في العلاقة بالخارج بل العكس، ولا تغيير في الطرح الاقتصادي والاجتماعي، ولا تغيير في معادلات الخضوع الى الإسرائيلي.
أيا يكن المخرج السياسي لمعركة الدستور الحالية في مصر والذي أشك بأنه سيفضي الى إجبار الإخوان على التخلي عن السلطة بهذه البساطة وبهذه السرعة فإن الإستنتاج الاول والأكيد الذي يمكن للمراقب أن يستخرجه هو أن الإخوان صاروا في موقع الدفاع لا الهجوم وعلى الصعيد العربي العام لا فقط المصري. وبالرغم من الدعم الخارجي والاتفاقات السرية والعلنية مع الاميركيين وغيرهم وبالرغم من حصولهم بالتالي على 'الإعتراف الدولي' بهم كطرف 'معتدل' مقبول فلقد فشل الإخوان المسلمون المصريون في الحفاظ على شرعيتهم الانتخابية الداخلية وبسرعة قياسية بالحقيقة.
على أي حال وفي المضمون البعيد عن الشكليات يمكن القول أن سياسة الإخوان 'الغامضة' أيضا قد تلقت وعلى نحو غير مباشر ضربة اكثر من قوية. فسياسة الحرص على الغموض والخرس في الشأنين الإقتصادي و الإجتماعي داخليا لن تخــــرج معــــافاة من هذه المواجهة الأخيرة. 
وكذلك الأمر في الشؤون الخارجية ابتداءً من صندوق النقد الدولي ومرورا بالمسألة الفلسطينية وصولا إلى العلاقة بالاميركي والتموضع ضمن سياسته الدولية. فالمجابهة الحاصلة حاليا في الشارع بين المعارضة والإخوان لن تتوقف حتما على المسائل الدستورية. فكلما طال الصراع في الشارع كلما فرض الشارع اسئلته وهمومه على القوى السياسية 'العاقلة'. 
فمن غير المعقول أن يكون الجمهور المصري الذي قام بانتفاضة عفوية منذ أقل من عامين قد قام بها لأسباب فلسفية تتعلق بالموقف من مونتسكيو وجان جاك روسو. أغلب الظن أن أسبابا اخرى من نوع الجوع والفقر والبطالة والسكن والصحة والكرامة الوطنية والفردية قد تكون دفعته الى أن ينتفض على منظومة تتحكم بأسباب عيشه وليس فقط على شخوص هذه المنظومة. وكما يقول المثل اللبناني فإن المصري يريد ان يأكل عنبا لا أن يقتل الناطور. وأما العودة الى الميدان اليوم فإنها وإن تكن شكلا من أجل قضية دستورية لكنها في مضمونها لا يمكن أن تكون بعيدة عن هموم الناس الفعلية في 'العيش والحرية والكرامة الوطنية'. 
أغلب الظن أن الناس في مصر وفي سائر ارجاء الشارع العربي اليوم لم تعد تهتم بصراعات السرايا ومناورات البلاطات هنا وهناك بل هي تتململ وتنتفض وتشارك في الشأن العام من اجل إيجاد البدائل الملموسة لمشاكلها الحقيقية الكبيرة جدا. وأما من يريد أن يحصر الصراع فقط في المسائل الفلسفية والدستورية فهو الذي لا يهتم بغير الوصول الى السلطة واحتكارها، وأما تغيير المنظومة المستبدة فعليا والإتيان بأجوبة عادلة على مشاكل البشر فهما من إختصاص الناس أنفسهم. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


Locations of Site Visitors
Powered By Blogger