ربما نكون نحن الخليجيون، بحكم الالتزام الديني المتشدد والتجربة الدينية الخاصة، أعلم وأعرف منكم أيها التونسيون، بمعاني ومصائب الطائفية المستترة خلف هالة قداسة الشعارات الدينية، وانعكاساتها على الحياة العصرية. وإن أردتم ما هو أفضل من ذلك في استجلاء الحقيقة، فاسألوا أيضاً أهل باكستان وأفغانستان والعراق ولبنان، عن ويلات ومصائب الطائفية عندهم، فهم أعرف منا ومنكم، بحكم التجربة والمعايشة المرة والمؤلمة والمريرة، بتلك الطائفية ومصائبها الحقيقية المدمرة والخطيرة، على الحياة الاجتماعية الإنسانية بصفة عامة، وعلى الحياة المدنية العصرية بصفة خاصة. وأما عنا نحن ونحن هنا في الخليج، فإننا رغم ما لدينا من خيرات معلومة ومعروفة تشهدها كل الدنيا، فلم نفلح – خصوصاً في البلاد التي ترسخت فيها جذور تلك الطائفية المريضة بقوة – حتى اليوم بعد، ببركات تلك الطائفية وببركات التزمت الديني، في أن نتقدم نحو الأمام ونحو أهدافنا الحقيقية التنموية والصناعية والحضارية والمعرفية والعلمية قيد أنملة واحدة… بما يتلاءم مع هذا العصر وإنجازاته الضخمة… فخذوا العبرة منا جميعاً هنا وهناك… ومن تخلفنا وتأخرنا… وكفى.
وأنا أقول هذا لكم، وكلي حرقة وألم، على بلدٍ كلما تأملته ونظرت فيه من بعيد في خضم هذا الربيع العربي المضطرب، كنت أرى فيه كل الأمل لديمقراطية عربية ناشئة وليدة واعدة، فهو بعيدٌ جداً عن تزمتنا الديني وعن طائفيتنا المريضة، بينما أشاهدكم اليوم والتحريض وتصدير الطائفية والتزمت الديني ضيفاً مرحباً به في بلادكم الحبيبة، الطامحة لمستقبلٍ أفضل، حيث يبث البعض اليوم هناك سمومه الطائفية في بلادكم، في فسحة غير مسبوقة من الزمن، في نسيجكم السياسي الوليد، وفي بنيتكم الاجتماعية المتحولة، وفي قلوب أناسٍ طاهرة وبريئة.
إن تونس الخضراء الجميلة، كما يجب أن تكون في تحضرها، وبما تستحق من غدٍ زاهر مزدهر، ليست بلداً للسنة ولا بلداً للشيعة ولا بلداً للأحباش ولا بلداً للعلمانيين ولا بلداً للشيوعيين ولا بلداً لغيرهم، بل هي بلدٌ لجميع أبنائها، من هؤلاء وغيرهم، مهما اختلفت أطيافهم وألوانهم ومذاهبهم، في ظل حرية الاختيار والعبادة والتعبير عن الرأي. بلد المشاركة والتسامح والتعاون والتشاور وتحكيم الديمقراطية والقبول بالحلول التوافقية والإقبال على التنمية والمشاريع العلمية والصناعية والاقتصادية، لا بلد الاصطفافات الفاقعة والهيمنة الديكتاتورية والحلول والمشاريع الأيديولوجية المسببة للفرقة والدمار… وهذا ما يجب أن يكون، لا ذاك.
ويبدو أن البعض، لا يعجبه هذا الانسجام والنجاح والتآخي المثمر، الذي يمكن أن يتحقق بقيادة المعتدلين منكم، لذا يريد لكم هؤلاء بيتاً كبيت العنكبوت أو هو أوهن من ذلك، وذلك بتصدير نزعة مريضة من هنا أو هناك، تنتمي لهذا المذهب أو لذاك. ولن يفت في عضد تونس الجديدة شيءٌ، كاستسلامها لمن يصدرون لها حروبهم الطائفية، ويغررون بأبناء تونس ضد بعضهم البعض، أو ضد بقية إخوانهم من المسلمين أو غيرهم، من أبناء بقية الدول العربية والإسلامية، ويزرعون في بيوتكم التعنت والتشدد، ضد بعضكم البعض، أو ضد إخوانٍ لكم في الخارج.
فإذا أردتم العبرة والعظة – وهذا مرهون بالشرائح الواسعة وبالغالبية منكم لا بالقيادات فقط أو الأقليات ونضج بعض رموزها فحسب، وهو ما يتطلب من الواعين منكم العمل الدائب في ميادين التوعية وبث الاعتدال والتسامح وحفظه وصيانته، في سبيل تحقيق الحرية والعدالة والديمقراطية المثمرة -، فانظروا للدول الإسلامية التي ابتليت بالطائفية وبالتزمت الديني، نظرة بصيرٍ معتبر، فتدبروا كيف أعاقت الطائفية فيها مسارات التنمية، وتدبروا ذلك الضياع والانحطاط الذي وصل إليه الطائفيون ببلادهم… وأنتم لستم في النهاية بحاجة لمرجعية دينية ولا مذهبية أو أيديولوجية تستقونها أو تفد عليكم من خارجكم لا من هنا ولا من هناك… فكونوا أحراراً من التبعية وقادة أنفسكم… مهما كان الطعم ومهما كانت المغريات… فابنوا إيمانكم وهديكم وإسلامكم المعتدل ونهجكم في الحياة بأنفسكم دون وصاية من أحدٍ أو تبعية لأحد… وقدموا الشراكة والحرية والتعاون والتسامح والتنمية والعلم والصناعة والديمقراطية على كل التفسيرات والتأويلات الدينية المغرضة والمريضة التي قد تقدم لكم… وعلى كل المكاء والتصدية وإشعال الفتنة «*».
واحذروا كل المخططات الصهيوأمريكية التي – في إطار إرادة صهيونية وأمريكية لن تستهدف إلا تحقيق مصالحها في إطار بحثها عن نجاحها في حربها على القاعدة والإرهاب وبحثها عن أمنها القومي وازدهارها المبني على الاستعمار والسلب والنهب والاستلاب وفي إطار مواجهة رعبها من جمهورية نووية أو صناعية إسلامية إيرانية متطورة وقادرة – قد تسعى لتدشين المزيد من حروب استنزاف الخصوم الإسلاميين هنا أو هناك خاصة في عالمنا العربي والإسلامي ومفاصله الحساسة، لتجر ربما الجميع لحرب قطبين مسلمين أحدهما شيعي والآخر سني عبر ألاعيب وفنون تلك الدول في نشر الأكاذيب والأوهام المفعلة بأسباب عدة أهمها ما تعيشه من فوبيا الهزيمة السياسية ورعب نقص الموارد… فكفى هنا ضحكاً على الذقون… ولعب على الصراعات والأوتار الحساسة في العالم العربي والإسلامي واستسلام لذلك نتيجة ما يحققه البعض من مصالح خاصة رغم ما يجره ذلك علينا من تفتيت وتأخير للأمة وتمزيق للطاقات ولمصالح الشعوب المسلمة لصالح العدو المستعمر الأجنبي وتأجيل للنهضة المرتقبة في البلاد الإسلامية… القادمة وإن طال الزمن.
وهي هنا نصيحة لوجه الله خالصة ما أراد الله لها ذلك، لا شيعية ولا سنية ولا تعرف أية تلونات أيديولوجية ولا انتماءات سياسية سوى الصبغة والطبيعة الحضارية والإنسانية المنبعثة من الوعي الإنساني الحضاري ومن الزهد في ملذات الدنيا المحدودة الزائلة والفانية… والسلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق