الفن والسياسة بين كيروستامى ونجاد
للسينما الإيرانية مساحة دائمة على خريطة كل المهرجانات العالمية وتحديدا الخليجية.. هناك أفلام وتكريمات وحضور للعديد من مبدعيها فى مختلف الأنشطة رغم أنه بين الحين والآخر يصدر عن محمود أحمدى نجاد الرئيس الإيرانى بعض التصريحات والأفعال التى تمس السيادة الإماراتية مثل زيارته مؤخرا لجزيرة أبو موسى التى احتلتها إيران منذ عام 1971، وحتى الآن لم تنجح الجهود الدولية والدبلوماسية المبذولة لاستعادتها إلى السيادة الإماراتية.
الملاحظة الجديرة بالتأمل أن هناك دائما خطا فاصلا، ولهذا مثلا كرّم مهرجان الخليج فى الافتتاح الممثل الإيرانى المخضرم بهروز وثوقى، واستقبل قبل الختام بساعات قليلة المخرج الإيرانى المعروف عباس كيروستامى الذى كان فى العام الماضى وفى إطار مهرجان الخليج قد أشرف على ورشة لتدريس السينما أسفرت عن العديد من الأفلام القصيرة التى شاهدناها قبل يومين فى المهرجان واشترك فيها العشرات من شباب عشاق السينما، وكان كيروستامى يمنحهم نصائحه مؤكدا «لن أعلّمكم سينما لأنها تُولَد معكم»، اختار فقط «تيمة» وطلب من كل منهم أن يقدم تنويعة سينمائية عليها.. وقع اختياره على مفهوم الوحدة، كل من هؤلاء المخرجين الجدد قدم عملا فنيا لا يتجاوز الدقائق العشر معبرا عن إحساسه بها، وتباينت المستويات، وقد أكتب قريبا بالتفاصيل عن تلك التجربة.
الحقيقة أن كيروستامى واحد من الوجوه الفنية غير المحسوبة على النظام الإيرانى، ولديه آراؤه التى كثيرا ما تعارضت مع السلطة، فهو غير مرحَّب به للعمل فى العديد من الشركات السينمائية سواء كانت حكومية أو خاصة، لهذا فإن آخر أفلامه «نسخة أصيلة» الذى عُرض قبل عامين فى مهرجان «كان» من إنتاج إيطالى فرنسى، ولم يكتفِ كيروستامى بالمشاركة بل هاجم حكم الحبس الصادر ضد زميليه المخرجين الإيرانيين جعفر بناهى ومحمد رسولوف، وفى كل أحاديث كيروستامى يطالب بالحرية للفنان الإيرانى وبإطلاق سراح زميليه اللذين استأنفا الحكم لكنهما ممنوعان طبقا للقانون من ممارسة المهنة ومن مغادرة البلاد. ملحوظة: عندما زار وفد من الفنانين المصريين إيران مؤخرا قبل أقل من عام طلب المخرج محمد خان زيارة بناهى ورسولوف، وتمت الموافقة الشفهية، ولكن على أرض الواقع لم يُسمح له بالزيارة!
كيروستامى واحد من المخرجين الذين صنعوا اسما برّاقا على الخريطة العالمية منذ أن حصد فيلمه «طعم الكرز» جائزة «السعفة الذهبية» عام 1997 من مهرجان «كان»، ورغم معارضته المعلنة للنظام فإنه حريص على أن لا يضع نفسه تحت طائلة الملاحقة القانونية لأن السلطة الإيرانية لا تتوقف عن مطاردة كل من يختلف معها!
مثلا المخرج الإيرانى محسن مخلباف مقيم حاليا هو وأسرته فى فرنسا، وهى عائلة تتناقل «جينات السينما».. وكان مخلباف فى الانتخابات الأخيرة فى إيران قد اختار الوقوف مع جبهة الحرية، وخسر، وأُوصِدَت دونه الأبواب فى بلده. اضطُرّ إلى الهجرة خارج الحدود ليستطيع مواصلة الإبداع، بينما مخرج مثل بناهى قدّم فيلما أطلق عليه «هذا ليس فيلما» كنوع من السخرية من النظام الذى أصدر حكما بمنعه من ممارسة صناعة الأفلام.. الفيلم، الذى أخذ عنوان «ليس فيلما»، كان يتناول الحياة اليومية للمخرج الإيرانى، وشاهدتُه العام الماضى فى «كان».
ويبقى السؤال عن المهرجانات وكيف تتعامل مع الموقف السياسى الرسمى. فى مصر مثلا من الصعوبة أن تقدم فاعلية فنية خلال السنوات الأخيرة تشتمل على حضور إيرانى؛ سوف تعترض الجهات الأمنية رغم أن الكل يعلم أنه ليس من المفترض أن يوضع كل المبدعين فى سلة واحدة لمجرد أنهم ينتمون إلى نفس البلد!
كما أن اختيار الفنان الذى يمثل البلد من خلال إبداعه وأيضا مواقفه الفكرية والسياسية، وهذا ما ينطبق بالضبط على كيروستامى الذى عارض -ولكن بهدوء- النظام الإيرانى.
نخطئ إذا اعتبرنا كل الفنانين صدى لبلادهم وأبواقا لها، مثلما حدث فى واقعة مباراة كرة القدم بين مصر والجزائر فى أم درمان التى صادفت ختام مهرجان القاهرة السينمائى الدولى قبل ثلاثة أعوام، ومنعت إدارة المهرجان وقتها تكريم المخرج الجزائرى أحمد راشدى باعتباره جزائريا.
الخيط رفيع، وأتمنى لكل المهرجانات المصرية أن لا تضع التوجه السياسى للبلد مؤشرا لتحديد بوصلة الدعوات والفاعليات، وهكذا مثلا يأتى تكريم كيروستامى فى مهرجان الخليج بينما يتم فى نفس الوقت استدعاء السفير الإيرانى فى دولة الإمارات وتسليمه برقية احتجاج ضد ممارسات نجاد.. هذه نقرة وتلك نقرة!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق